حتى وقت قريب لم أكن أدرك لماذا يُصرّ شميم، زميلنا في العمل، على أنّ أظهَرَ علامات الكِبَر هي الحاجة إلى نظارة للقراءة. وعلامات الكِبر مما يختلف في ترتيبه الناس رجوعاً إلى تجربة كلٍّ منهم إنْ مع نفسه أو المحيطين به من الأقارب والأصدقاء. وللمسألة تفصيل واسع، فعلى سبيل المثال ما يستفز المرء من العلامات هو ما يوجعه مما لا يؤلم غيره بالضرورة، فالحاجة إلى نظارة قراءة مَكْمن انزعاج عظيم لدى رجل كشميم، مولع بقراءة المراجع الهندسية الضخمة وتدبيج الرسائل والتقارير المطوّلة مع كل يوم عمل، في حين أن النظارة نفسها لا يفطن إلى حاجته إليها من لا يمارس النظر إلى الكتب والأوراق إلّا عند التوقيع مجبراً على معاملة رسمية كإجراء روتيني لتمرير مصلحة في مؤسسة لا يطرق مثيلاتها إلّا مرة أو مرتين في العام. في المقابل تبدو آلام الركبة مما يهدِّد رياضياً شبه محترف يرى أن ركوب الدراجة الهوائية هو المحور الذي تدور عليه حياته حتى على حساب الجزء المتعلِّق منها بكسب الرزق، والتعبير لمايكل ميلار مدير المشاريع الإنقليزي الذي يعمل بالخليج. ومن الواضح أن الفارق بين اهتمامات الهندي شميم والإنقليزي ميلار عظيم، غير أن لعنة الكِبر وعلاماته كثيراً ما تكون مضاعفة عند المحسودين بالجمع بشكل شبه احترافي بين أكثر من موهبة أو هواية كالرياضة والقراءة والكتابة. أما من يعوِّلون في كسب العيش على ممارسة رياضة (سوى الشطرنج) فهم عادةً ممن لا ينتظرون السنوات لتفاجئهم بهذه العلامة وتلك للتقدُّم في العمر، فالخطة الاحتياطية جاهزة باستمرار للتلويح بها كمستقبل مهني بديل أمام أول منعطف مع علامات الكِبر. وإن كانت لذة العدْو خلف كرة أو تسديد لكمات وحشية لخصم عنيد مما يهيج ذكريات الشباب وطلاوة أيامه وينحي باللائمة مضاعفةً على الرُكَب المهترئة والرأس الذي شاب بفعل الزمان وليس اللكمات المقابلة من خصم عنيد. وإذا كان معروفاً أن كثيراً من الناس قد بكى حتى ذهب بصره، فإنه ليس مشهوراً أن زيداً من الكُتّاب قد قرأ وكتب حتى كاد بصره يذهب رغم أن ذلك كثيراً ما يحدث. أما العِظة مؤكَّدة الحدوث فهي أن بصر الكُتّاب (وفي زمرتهم المولعون بالقراءة إلى حد الإدمان) يتأثر فيدركه الإعياء قبل أن يدركهم الكِبر، وبذلك يغدو النظر ثلاثين سنتميتراً إلى الأمام مما يتعذّر إدراكه بغير آلة تعين على تلك المهمة الجليلة، فيصبح ذلك نكد العادة أو الحرفة على المرء لا نكد الكِبَر. غير أن ابن آدم (أعزك الله) لئيم بالفطرة، فما جنته يداه على الشاكلة أعلاه لا يقض مضجعه كما يقضّه ما لا يخاله ذنبه.. كالكِبَر. ولكن الكِبَر ذنبك إذا كان التقدُم في العمر يستحق ذلك الوصف، حتى لو كان بين المحيطين بك من يروقك – لإثقاله عليك بالمشقات - أن تنحي عليه باللائمة لتسريع علامات الكِبر في التقدم نحوك وإصابتك في الصميم. ذلك أن الكِبر لا يتمكّن سوى من نفس يجدها مهيّئة لاستقباله، وربما بدا ذلك التفسير شاذاً كبعض تفاسير يشتطّ علماء النفس في استنباطها من قبيل أن الذي يتعرّض لحادث دهس بسيارة إنما يفعل ذلك بدافع من عقله الباطن (فهو على ذلك منتحر في حساب الفقهاء). غير أن المسألة مع الكِبر تحديداً تستحق تلك المجازفة في استنباط الأسباب إلى حدِّ ما يغري بتهمة الافتراء، فالأسباب بالفعل معقدة فيما يجعل الأتراب متفاوتين في المظاهر المغرية باللغط والغلط في تقدير أعمارهم ليس بفارق واحدة أو اثنتين وإنما خمس وعشرٌ من السنوات. وإذا كان المظهر العام مما يغري بنسبة مسؤوليته شبه كاملة إلى صاحبه، فإن ضعف البصر عند القراءة من علامات الكِبر التي يصعب معها ذلك، سوى باحتذاء سلوك علماء النفس تعويلاً على أسرار العقل الباطن المغرية بتحمُّل تبعات كل فرية. ومهما بدا الأمر بسيطاً فإن نظارة صغيرة تضعها على عينيك - بعد أن تخلع أخرى متمرسة في النظر البعيد - لقراءة أسطر معدودة (وربما كلمتين لا غير) ليست مما يمكن تجاهل أثره الباعث على ما هو أعمق من مجرد الغيظ إذا كنت مضطراً لفعل ذلك بصورة متواترة في غضون جلسة عمل (أو سمر) عابرة. الأهم أن دمج النظارتين في واحدة لم يعد اختراعاً جديداً لكنه لا يزال واعداً، بمعنى أن وعده بالنظرة المثلى للقريب والبعيد من الأشياء على السواء لا يزال محلّ رجاء. وحريٌّ بالإقرار على هذا الصعيد أن يد التكنولوجيا الحديثة غير مجحودة في إقالة عثرات الإنسان عند المرض والهرم، غير أن علامات الكِبر ليست مما يقف أمامه اختراع، كائناً ما كان، فالمسألة لا تعدو أن تكون مزيداً من الإمهال لطمّاع مولع بالخلود.. خلود شبابه لا حياته مجملة. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته