تقوم الأجهزة التشريعية (البرلمانات) في الأنظمة الديمقراطية المُحترمة بوظيفة مراقبة الجهاز التنفيذي (الحكومة) وتقويم أدائه, أمَّا في إطار النظم الشمولية التي يُسيطر فيها حزبٌ واحد على أكثر من 90% من مقاعد البرلمان فإنَّ هذه الأجهزة تتحوَّل إلى مُجرَّد أداة "للبصم" و لتمرير قوانين وتشريعات الحكومات, وهى بذلك تفقد وظيفتها الأساسية وتصبح "تابعاً" للجهاز التنفيذي. فكرة البرلمان تقوم على وجود قوى معارضة تنتقد سياسات الحكومة وتطرح البدائل وتعمل على تقويم الأداء ومراقبة السلطة التنفيذية, ولكن الأنظمة الشمولية "تنسف" هذه الفكرة الأساسية لأنَّ البرلمان يُسيطر عليه حزب الحُكومة ومن يواليه سيطرة شبه كاملة, وتختفي فيه المعارضة, وبذلك لا يُصبح هناك فرق بين الجهازين التشريعي والتنفيذي, فمن يضع القوانين في "مجلس الوزراء" هو نفسه من يجيزها في "البرلمان". قام رئيس البرلمان الفاتح عزالدين مطلع هذا الشهر, بطرد رئيس كتلة المؤتمر الشعبي بالبرلمان الدكتور إسماعيل حسين من جلسة مناقشة وإجازة التعديلات على قانون الانتخابات, وقال بجرأة شديدة يُحسدُ عليها أنه لا يعترف بأية كتلة برلمانية سوى كتلة الحزب الحاكم, وبذلك يكون قد أكد حقيقة أنَّ البرلمان لا يمثل سوى "رجع صدى" السلطة التنفيذية. لا تكتفي البرلمانات ومجالس التشريع في ظل الأنظمة الشمولية بأن تكون ظلاً للسلطة التنفيذية وامتداداً لها, بل تذهب أبعد من ذلك لتلعب دور المرَّوج والمبرِّر لمختلف السياسات والقرارات التي تصدر عن الحكومة. أحد أمثلة التهافت لتبرير الفشل الحكومي من قبل "نوَّاب الشعب", هو ما أدلى به رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني ، سالم الصافى حجير, من تصريحات حول إرتفاع سعر الدولار, حيث عزا ذلك الارتفاع إلى حاجة التجار لشراء الكريمات وإكسسوارات الفتيات, وقال (الحكومة توفر حاجتها من الدولار لشراء الأدوية والقمح والوقود ومافي شيء بيرفع سعر الدولار إلا التجار ليشتروا به الكريمات واحتياجات البنات). هذا التصريح – بجانب ما يحملهُ من مغالطة واستخفاف بعقول الناس – ينمُّ عن جهل شديد بأبسط حقائق الاقتصاد, ذلك أنَّ قضية سعر الصرف جزءٌ من "أزمة شاملة" يُعاني منها الاقتصاد السوداني منذ انفصال الجنوب, وهي أزمة تسببت فيها "سياسات اقتصادية فاشلة" عجزت عن توظيف الموارد المالية التي توفرت خلال الحقبة النفطية بصورة سليمة, إضافة لتوجهاتٍ "سياسية" أدخلت البلاد في عزلة دولية خانقة. ليس صحيحاً ما قالهُ رئيس اللجنة الاقتصادية من أنَّ "الحكومة توفر حاجتها من الدولار لشراء الأدوية والقمح والوقود", فشركات الدواء تتحصل على الدولار من "السوق الأسود", وكذلك بقية الشركات التي تستورد المواد الغذائية, والحكومة نفسها تدخل بطرق مختلفة لذلك السوق كي تتحصل على الدولار. كما أنَّ السودان – يا أستاذ حجير - لا يستوردُ هذه السلع الثلاث فقط (قمح, دواء, وقود), بل يستورد جل غذائه, من السكر والقمح والشاي ومنتجات الألبان وحتى الخضر والفواكه (أنفق السودان في 2012 ما يزيد عن 2 مليار دولار في استيراد المواد الغذائية). وقد نقلت "سودان تربيون" يوم الثلاثاء عن مسؤول في أحد مطاحن الغلال الكبرى أنهم ظلوا (يترددون طوال أسبوع على بنك السودان المركزي بغية توفير النقد الأجنبي اللازم لاستيراد القمح) وسط مخاوف من توقفهم عن الإنتاج. لا يليق بشخصٍ يترأس مثل هذه اللجنة البرلمانيَّة المهمة أن يعزو ارتفاع سعر الدولار "لإكسسورات وكريمات النساء" وهو يعلم أنَّ العجز في الميزان الخارجي وصل إلى 6 مليارات دولار، وهو أكبر عجز في تاريخ السودان. هذا هو مربط الفرس, صادراتنا لا تكافىء الواردات, بلدنا لا "يُنتج" شيئاً, وهو يستورد كل شىء, من الغذاء وحتى الملابس, ومن هنا تتناسل جميع المشكلات الاقتصادية بما فيها مشكلة سعر الصرف. لم يكتف الأستاذ حجير بتصريحه البائس أعلاه بل أنه - بحسب صحيفة "الجريدة" الناقلة للخبر - أرجع التدهور الاقتصادي وارتفاع أسعار الدولار في الأسواق لما أسماه بالسلوك الاستهلاكي الخاطئ للمواطنين ، وقال (مالم نغير ثقافتنا الاستهلاكية لو تحول النيل لبترول فلن يكفي البلاد) . لقد تحطمت الزراعة والصناعات الوسيطة, بفعل السياسات الخاطئة, وهاجرت رؤوس الأموال, وأوضح دليل على ذلك هو ما صرَّح به الأسبوع الماضي رئيس جمعية لجنة الأعمال السودانية للمستثمرين في إثيوبيا الذي قال إن عدد المستثمرين السودانيين في إثيوبيا بلغ (800) مستثمر, وأبان أن هذا العدد يضع السودان كثاني أكبر بلد مستثمر في إثيوبيا بعد الصين، وكسابع دولة من حيث رأس المال بواقع (2.4) بليون دولار. ما الذي جعل هؤلاء المستثمرين يهربون لإثيوبيا؟ هل هى "إكسسوارات وكريمات النساء" كذلك؟ أم هو السلوك الاستهلاكي للمواطنين؟ لا يا سيدي إنها البيئة الاستثمارية الطاردة, القوانين البالية, الرسوم الباهظة, الفساد الإداري, عدم الاستقرار السياسي, الحصار الاقتصادي, هذه هي المشكلات الحقيقية التي يجب أن نبحث فيها عندما نتحدث عن التدهور الاقتصادي و موضوع سعر الصرف وغيره من القضايا الاقتصادية. قد بلغ الحصار الاقتصادي مبلغاً من الخطورة بحيث أضحى متعسراً تحويل الأموال عبر البنوك, وما الحادث الذي تعرَّض له الموظف بسفارة السودان بالقاهرة مطلع هذا الشهر والذي كان يحمل مبلغ 150 ألف دولار تخص السفارة في كيس أو حقيبة لتعذر تحويلها عبر البنوك إلا دليلًٌاً على ما وصل إليه الوضع الاقتصادي. الاقتصاد – يا أستاذ حجير – علمٌ له نظريات وقوانين وقواعد, وليس ضرباً من التنجيم والرجم بالغيب, والدولار (شأنه شأن أية سلعة) تتحكم في "سعره" قوانين "العرض والطلب", وإذا كان بنك السودان يمتلك احتياطياً مريحاً من النقد الأجنبي فلماذا لم يضخ منه في المصارف والصرافات ما يكفي حتى لا يجد تجار "الإكسسوارات وكريمات البنات" فرصة للتلاعب بسعره. واقع الأمر أنَّ الاقتصاد يُعاني من شحٍ حقيقي في النقد الأجنبي, حتى أنَّ وزير المالية, بدرالدين محمود, صرَّح قبل فترة وجيزة تصريحاً في غاية الغرابة مفادهُ أنه لا يستطيع الإفصاح عن حجم احتياطي النقدي الأجنبي, وبرَّر ذلك بالقول : (المرة ما بتوري عُمرها) أي (المرأة لا تفصحُ عن عمرها الحقيقي). تصريح الوزير أعلاهُ يفضحُ طبيعة "العقلية" التي تدير الشأن الاقتصادي في السودان, وهى عقلية لا تعنى بالشفافية والمصداقية, بل تعتمد التمويه والمراوغة, فمثل هذا التصريح لا يُمكن ان يصدُر من مسؤول في حكومة "تحترم شعبها" لأنَّ عاقبته ستكون بلا شك وخيمة على المسؤول و حكومته. ولكن ليس مستغرباً أن "تخفي" الحكومة أرقام احتياطي النقد الأجنبي عن الشعب, فهذه الممارسة "الشاذة" أصبحت أمراً معتاداً لديها, ولا يوجد من "نواب الشعب" من يُحاسبها على أفعالها, فقبل عدة أشهر كشف الممثل المقيم لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي في السودان, لويس إرسموس, عن أنَّ الصندوق ينفذ مع الحكومة السودانية حالياً برنامجاً "سرياً" للإصلاح الاقتصادي يُعرف بالبرنامج رقم (14). وعندما سئل إرسموس عن طبيعة ذلك البرنامج قال بصراحة يُحسدُ عليها: (غير متاح لي الإفصاح عن البرنامج رقم (14) بالتفصيل، كما تعلم فإن الحكومة وافقت عليه لكن لم توافق على تمليك معلومات تفصيلية حوله لعامة الناس بعد). فمن الواضح أنَّ سياسة العتيم"باتت سياسة رسمية تتعمد الحكومة من ورائها إخفاء الحقائق المتعلقة بالسياسات والأوضاع الاقتصادية وهو الأمر الذي كان مؤملاً أن يتصدى له "نواب الشعب" بدلاً عن البحث عن مبررات ساذجة لأسباب الفشل الاقتصادي. الأسباب الحقيقية لارتفاع سعر الصرف لا تكمن في "استيراد الإكسسوارات والكريمات" ولو كان الأمر كذلك لشهدنا تراجعاًً كبيراً في سعر الدولار بعد انتهاء موسم استيراد تلك الكريمات, ولكننا ظللنا منذ فترة نسمع بالوعود الصادرة من بنك السودان ووزارة المالية بإجراءات تحدُّ من ارتفاع الدولار, ومع ذلك فإنَّ سعره يتزايد باستمرار حتى شارف على الوصول لعتبة العشرة جنيهات. من الأجدى للحكومة وأشياعها في البرلمان أن يبحثوا عن حلول جادة للمشكلات الحقيقية التي تواجه الاقتصاد السوداني, وهى في أساسها مشكلات "سياسية" مرتبطة بالحروب والحصار الخارجي وعدم الاستقرار السياسي, وطالما ظلت هذه القضايا مُعلقة دون حلول ناجعة فإنَّ الأزمة ستتفاقم وسيخرج علينا في كل مرَّة مسؤول حكومي أو برلماني ليدلي بتصريحات لا نملك معها سوى أن "نضحك" ولكنهُ للأسف ضحك كالبكاء. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته