" الشارع الطويل العريض يصبح قصيراً ضيِّقاً دون أن تمسّ شبراً منه أيادي المشرفين على تخطيط المدينة باقتطاع ميدان على طرفه على سبيل التعدِّي أو بناء رصيف على جانبه بداعي التجميل، ودون أن يُقارَن بشارع رئيسي مجاور طويل وعريض يتمدّد بشكل منطقي وطبيعي طمعاً في مزيد من الطول والعرض للوفاء بمتطلبات السيارات الخاصة وحافلات النقل العام التي تضاعفت أضعافاً كثيرة بتوالي السنين والأجيال. ما طرأ على الحيّ من تغيير بفعل البشر والسنوات الطوال كبير بالفعل، ولكن الأدعى إلى التأمُّل رهبة الطفولة مع الأشياء والدنيا على وجه العموم، فطول الشارع الممتد وعرضه الشاسع ليسا سوى عقولنا الصغيرة وأحلامنا البريئة وهي ترسم لنا حدود المغامرة فيما مضى على قدر طاقتنا من الاحتمال. تقودنا الأقدام الصغيرة الحافية، أو المتأنقة على أفضل أحوال الاحتياط و"الحنكشة" بال "سنفجة" في خطة لعب غيرة مدروسة كالعادة لإحدى "العصريّات" إلى "خشم باب" ناس الوليد فنلقى أخته الكبرى سميرة "اللجناء" يأخذنا فيها وقار الأخت الأكبر بضعف أعمارنا الصغيرة فنحتكم إليها في جدال طازج لا يحتمل البت في شأنه تأجيلاً: "سميرة.. صَحِيْ الجنة فيها بحر عسل؟"، ولا تخذلنا سميرة فتجيب من فورها: "آي.. الجنة فيها بحي عسل.. وبحي لبن.. وبحي.."، ولا تنقص اللُثغة شيئاً من تبجيلنا للأخت الكبرى بل تزيده مسحة من بهجة واستملاح. وعلى الجوار المباشر لناس الوليد نلقى أميرة وهي في مثل عمر سميرة ولها بذلك مثل ما للأخيرة من التوقير في أعيننا. نسأل أميرة (وقد فرغنا لتوِّنا من البت في جدال قريب بقدر ملحوظ من المرح) أن تعرض لنا شيئاً مما اشتهرت به في الحي من بلاغة: "كدي يا أميرة قولي لينا ألف با تا ثا بسرعة" فتنطلق مبتسمة: "ألف با تا ثا جيم حا.. ميم نون ها واو لام ألف يا"، وإضافة إلى السرعة فإن ما كان يميِّز أبجدية أميرة هو الحرف "لام ألف"، ولأن أميرة تعرف ذلك فإن ابتسامتها تتسع مباشرة قبل الحرف الأخير من أبجديتها تلك، ونعجب بلام ألف دون أن نعرف المراد منه، وأشك في أن أميرة نفسها كانت تعرف حينها مصدراً لحرفها الدخيل على ما كنا نحفظه من ألف باء المدرسة. تنقطع الكهرباء ليلاً فنهرع إلى الشارع على سبيل الاحتفال، وأظهر دلالات الاحتفال أن الانقطاع كان حينها حدثاً استثنائياً عندما كانت "الدنيا بخير"، والدلالة الباطنة المشاكسة لعشاق "الزمن الجميل" أنه لم يكن أيامها ما نفتقده بانقطاع الكهرباء أبعد من النور، فلا إنترنت ولا كمبيوتر ولا فضائيّات، ولا حتى تلفزيونات في "الحلّة" أكثر من اثنين أو ثلاثة، والمادّة الأكثر متابعة في أيٍّ من التلفزيونين أو الثلاثة كانت المسلسل العربي (المصري غالباً) الذي يُعرَض مرّة في الأسبوع لأقل من ساعة قلّما توافق ساعة احتفالنا بالكهرباء المقطوعة. وفي الإجازة السنوية يتوافد على الجيران الأقرباءُ من الأقاليم، فنتحدّق حول سهام القادمة لناس زهير من بعض نواحي الجزيرة، وسهام ليست كسميرة تكبرنا بضعف أعمارنا وإنما بسنتين أو ثلاثة على أبعد تقدير، ولكن ميزان الطفولة يجعل ذلك الفارق الطفيف في العمر كفيلاً بإحاطة سهام بهالة من المصداقية والإعجاب وهي تجلس على التراب (وذلك طقس طبيعي بامتياز لدى الجميع في تلك الأيام) وترمي "الودِع" بثقة محترفة لتحكي ما وراء الودعات المتناثرة من أخبار، ثم تعود فتلمّها لتنثرها من جديد وهي تبتسم مغتبطة بالدهشة تبدو على وجوهنا التي انطلى عليها من الحكايات ما لم يقع بعد. لست متأكداً مما إذا كان ثمة من أطفال أحياء خرطوم هذه الأيام من لا يزال يردِّد عبارة من قبيل "طالعني الخلا"، وإذ لا أجد رغبة في الإدِّعاء بأنني كنت من محترفي مطالعات الخلاء، فضلاً عن أن طقساً كذاك كان للحق أكثر شيوعاً في الأحياء الأقل وسطيّة من حي الزهور، فإن المشاركة في "شكلة" حارّة بالمشاهدة كان أمراً جلّاباً لمتعة من نوع خاص، وعندما تتصاعد إرهاصات "الشكلة" ثم تتأخر عن القيام وتعلو صيحات "المديدة حارة" تكون الإثارة من قبيل شديد الخصوصية قلّما ينجو بعده طرفا الخلاف مهما يكن بسيطاً من التورُّط في معركة حامية مترقِّبوها في لهفة جمهور سينما جاء من مكان قصي موعوداً بفيلم الموسم يقتطع ثمن تذكرته من أغلى قوت يومه. تغيّر كل ذلك لأن ما مضى عليه من العمر يقاس بالعقود تهويناً وتلطيفاً وليس السنوات، ويبدو أن الواحد قد بات في مرحلة من العمر يخونه معها مخزون الحكايات وشدة التوق إلى الماضي فلا يعود بإمكانه الاحتفاظ بما يشي بسنِّه قيد الكتمان. تغيّر كل ذلك ومن الطبيعي أن يتغيّر، غير أننا نصرّ على محاسبة الزمان وكأنه قد قطع وعداً علينا بأن لا يتغيَّر، ونصرّ على أن الماضي كان أكثر جمالاً لأن العيش فيه كان أكثر رغداً، وعندما تخوننا الأرقام في إثبات رغد العيش في الماضي نسارع فنؤكِّد أن همومنا كانت أقل برغم ظروف عيشنا المتواضعة، والأرجح أننا نبكي الماضي لأننا كنا أصغر سِنَّا وأقوى على استقبال ما تيسّر من متع الحياة والطمع في المزيد منها مستقبلاً.. فقط لا غير، وهذا وحده كفيل بأن نحتفظ للأيام الخوالي بامتنان عظيم. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته