البحر هو الماء الواسع الوفير ورد ذكره في محكم التنزيل قال تعالى (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فأتخذ سبيله في البحر سرباً) صدق الله العظيم وقد يطلق البحر على النيل مصدر الخصب والنماء والرخاء وتكمن عظمته في أنه أحد روافد الجنة كما وصفه الشاعر التيجاني يوسف بشير بأنه «سليل الفراديس» اما النهر فهو مجرى الماء العذب لقوله تعالى (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) وقد تضاف مفردة النهر إلى النيل لتصبح لفظاً واحداً هو نهر النيل، ومنه اتخذت أسماء ذات معاني ودلالات فيدعى الذكر «بحر» مجرداً والأنثي بحر النيل، وكذلك حمد النيل والنيل ويجوز فيها تشديد الياء وايضاً سيف البحر وسيف هذه تعني ساحل وبحر الصفاء بحر العاشم بحر العلوم بحراوي بحاري بحيري، وفي المدن والبلدان البحرين بحر دار، بحري ، البحير وغيرها في القرى والأرياف تمارس بعض الطقوس والعادات التي إرتبطت بالذهاب إلى البحر أو النيل في مناسبات بعينها كالزواج والختان والوضوع للتيمن والتبرك والتفاؤل وجلب السعادة والهناء وسط غناء الفتيات وزغاريدهن.. عريسنا ورد البحر يا عديلة قطع جرايد النخل الليلة زينة وعلى ذكر الطقوس قد لا تبرح ذاكرتنا «عروس النيل» عند قدماء المصريين بأختيارهم إحدى الحسناوات والقائها على النيل حتى يدر عليهم الخير الكثير والرزق الوفير.. والنيل ملهم الشعراء والأدباء والفنانين فقد أورده أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي مطلعها.. من أي عهد في القرى تترقرق وبأي كف في المدائن تغدق وكذلك شاعرنا الكبير أحمد محمد الشيخ «الجاغريو» نظم في «بنت النيل» كلمات رقيقة تغنى بها عميد الفن/ أحمد المصطفى اما الشاعر الفذ ابو الطيب المتنبىء فقد أنشد فيه كثير من الأشعار.. هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله وفي موضع آخر كالبحر يقذف للقريب جواهراً جوداً ويبعث للبعيد سحائبا نستشف من هذه الأبيات الرصانة وبلاغة اللفظ والتعبير وهي تتحدث عن الكرم تلك القيمة الإنسانية الرفيعة وما يندرج تحتها من التكافل والترابط والتراحم ..الخ استعير هذا «البحر» او تلك القيمة إذ أنها تجسد المآثر والمناقب التي جُبل عليها والدي العزيز حسن المكي المامون عليه الرحمة وأنا أستعرض بعض الجوانب المشرقة والمضيئة في حياته بمناسبة ذكرى رحيله الثالثة التي حدثت في السادس عشر من شهر رمضان المعظم 0341ه الموافق السادس من سبتمبر 9002م فقد كان «أبحر» الرجال ديناً وخلقاً وكرماً وتكرمةً وعلماً ومعرفة وبالرغم من أنه لم ينل حظاً في التعليم الاكاديمي غير انه كان واسع الثقافة خاصة الإسلامية فقد كان «متبحراً» في علوم الفقه والحديث والسيرة استمدها من مكتبة صغيرة ورثها من جده لأبيه الشيخ المامون الفك يوسف عليه الرحمة وكان يعد من العلماء والشيوخ.. المتحدث مع حسن المكي لا تخفى عليه بلاغته وفصاحته ولباقته وقوة حجته وبرهانه كان جريئاً في أفكاره وآرائه يثري نقاشه بالحكمة والموعظة والصراحة والوضوح خاصة في قول الحق الذي لا تلومه فيه لومة لائم فكل أمر فيه يقطعه بالحسم والحزم والصرامة والشدة ولا يقبل أبداً «الحقارة» والهزيمة والذُل والإنكسار بيد انه كان يحمل صدراً واسعاً «كالبحر» هيناً ليناً وشفيفاً هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً على الدُر وأحذره إذا كان مُزبداً ابو المكي عليه الرحمة هذا اللقب أطلقه عليه اصدقائه وزملائه فكان يسعد به كثيراً لإرتباطه باسم والده الذي كان باراً ورحيماً به وايضاً والدته فاطمة بت ابراهيم فقد كان يحبها ويحترمها ويخفض لها جناح الذل من الرحمة، فقد كان لا يمر عليه يوم دون أن يُقبل رأسها ويديها ويدعو لها بالصحة والعافية وكانت دعواته تتدفق وتنهمر عليها مثلما كان «بحراً» يفيض بالكرم والجود والعطاء والسخاء.. تمتد أياديه في انبساط تكفكف وتمسح دمعات المحتاجين والمحرومين والعدمانين والصرمانين يعطي هذا ويرفد ذاك في غير منٍ ولا أذى وكان أكرم ما يكون في شهر رمضان الذي يتأهب إليه منذ وقت مبكر روحياً ونفسياً وإجتماعياً فكثيراً ما كان يذهب «بفطور رمضان» إلى خارج المنزل حتى يُطعم منه الماشي والغاشي والداني والقاصي ويظل هكذا طيلة الشهر المبارك وكان باب بيته مسرعاً للضيوف يستقبلهم.. بوجه مطروح وقلب مشروح.. يحسن وفادتهم وضيافتهم وخدمتهم التي يقوم بها بنفسه حتى عندما تقدمت به السن واضعفه المرض رأيناه يتحامل على نفسه وهو يحمل صينية الطعام ليقدمها إلى ضيوفه وكنا نقول له في شفقة وعطف وتحنان يا أبوي انت ما بتقدر على حملها فيقول وهو يرتجف خلوني إنشاء الله «أقع» بيها ده واجبي وهذه قمة الأصالة والشهامة والكرم والحفاوة، وعندما كنا صغاراً كان يتناهى إلى مسامعنا «طرق الباب» منتصف الليل وكانت تعترينا الرهبة والدهشة والتساؤل من الطارق فنشاهده ينهض من فراشه بحيوية ونشاط وهو يقول «إتفضل» بصوت قوي ومجلجل حتى تخاله يزلزل أركان البيت ومن ثم يفتح الباب ليستقبل «ضيف الهجعة» بضحكته وابتسامته المعهودة التي لم تسقط وتنقص من هيبته ووقاره واحترامه، فيهيء له متكئاً ومستقراً حسناً وبهذه القيمة والمبادىء كأنه كان يُطبق ما ورد في إحدى أغنياتنا التراثية من «وصايا» وهي من الأعمال الشهيرة في برنامج «من ربوع السودان» تغنى بها الفنان عثمان عوض الله وآخرون.. بوصيكم على السيف السنين أسعوه بوصيكم على البيت الكبير أشروه بوصيكم على ضيف الهجوع عشوه بوصيكم على الفايت الحدود واسوه كانت تسبقه إلى «التُكل الكبير» وهو مكان اعداد الطعام والشراب رفيقة عمره ودربه فاطمة بت احمد عليها الرحمة لتقوم بعواسة الكسرة على الصاج الذي وقوده الحطب وعمل ملاح «المفروك» في ذلك الوقت المتأخر من الليل تقدمها لضيوفها وهي تفيض بالبشر والفرح والسرور وقد عرفناها إمرأة لا تتزاخى عن أداء واجبات بيتها وادارة شؤون أسرتها ويشهد لها بالكرم «الفاطمي» تمثيلاً وتشبيها بالكرم «الحاتمي» لا تعرف الكشل والخمول بل كانت صبورة لزومة مهولة مستورة الحال كما كانت أجمل النساء خُلقاً وخِلقة ولعمري لو كانت النساء كما هي لفضلت النساء على الرجال وقد كانت ايضاً «بحراً للمودة» يذخر بالصفاء والنقاء والحب والجمال والحنان تعلمنا وتعلم منها الكثيرون القيم الفاضلة والمعاني الراسخة، فقد أعطت ولم تستبق شيئاً نسأل الله العظيم في الشهر الكريم أن ينزل عليهما فيوضاً من رحمته و«بحوراً» من مغفرته «اللهم أرحمهما كما ربياني صغيراً»