أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    لجنة تسييرية وكارثة جداوية؟!!    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    المريخ يتدرب بالصالة    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنار .. تزييف التاريخ : إحتفال ب 500 سنة من الركود
نشر في حريات يوم 06 - 12 - 2013


د. حيدر إبراهيم علي
[email protected]
(…أن التاريخ مدرسة الحرية لأننا نتعلم من أخطاء
ومحاولات من سبقنا ما ينير لنا سبل الحرية والانعتاق.
المؤرخ الذي يستخرج العبرة من الماضي يعرف بالضبط من كان علي
صواب ومن كان علي خطأ،يقينا منه أن للتاريخ غاية هي الحرية).
(عبدالله العروي –مفهوم التاريخ1992:44)
في تأرخة التاريخ السوداني
(1)
يُعتبر تاريخ كتابة تاريخ السودان أمرا حديثا، وغير مكتمل، ومتكرر.كما يتسم بكثرة ما أهمله التاريخ عمدا أو سهوا،بالإضافة لما سُكت عنه خجلا، أو تآمرا.وينقصنا التراث التاريخي السوداني الطويل الأصيل،فنحن لم تكتب تاريخنا. فقد كتب الأجانب أهم القضايا والحقب.إذ لا نجد في القديم المكتوب(أي قبل القرن العشرين) غير طبقات ود ضيف الله(نشر أول لسليمان داود منديل عام1933 ثم الشيخ إبراهيم صديق أحمد)وأحدث تحقيق ليوسف فضل(1970).ثم المؤرخ الشيخ (أحمد بن الحاج أبوعلي) المعروف بكاتب الشونة،صاحب مخطوطة:تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية حتي عام1838م تاريخ كتابتها.وقد نقحها:الزبير ود ضوة والأمين الضرير وابراهيم دفع الله ثم حققها مكي شبيكة(1صيل947)ثم شاطر البصيلي(1961).وبعد صمت طويل جاءت كتابة تاريخ البلاد علي أيدي غير سودانية،حين ألف السوري(نعوم شقير)كتاب(حغرافية وتاريخ السودان)في ثلاثة أجزاء عام1903.وكانت كتب الرحالة الاجانب، وسجناء فترة المهدية،تمثل المصدر الأساسي لتاريخ السوداني
لم يبادر السودانيون عقب استعمار بلادهم إلي كتابة تاريخية حتي لأسباب قومية تستنهض الشعور القومي.واقتصر الأمر علي كتابات(محمد عبدالرحيم)ومقالات متفرقة في مجلات(الفجر)و(النهضة).وقام الأجانب بكتابة التاريخ،وحافظوا عليه نيابة عن السودانيين،فلا يحق لنا مهاجمة الكتابة الاستعمارية.فقد حاول الأجانب إدخال أساليب البحث العلمي، والمناهج الحديثة في تحقيق الوثائق والتدقيق في المصادر المحلية.ومن الصعب إنكار أننا اعتمدنا كثيرا علي المراجع التي كتبها أجانب،وصارت أفضل ما وصلنا.وقد يقول المرء بكثير من الخجل، أنه لولا(آركل) و(شيني)و(رايزنر)و(جريفث)و(جنكر)و(هينتز)،لما عرفنا شيئا عن تاريخنا القديم.وللقارئ أن يتأمل في عناء الحفريات، والبحث عن الآثار في أرجاء البلاد تحت مناخ السودان الفظيع لقادمين من اوربا.
ويعود الفضل ل(آدامز) في تقديم تاريخ النوبه والعصور الوسطي.وكل التفاخر بالأنساب الحالي يرجع لجهود(هارولد ماكمايكل)في حفظه لوثائق الأنساب،وكتاباته عن تاريخ العرب في السودان،ثم واصل(محمد عوض محمد)في(السودان الشمالي-سكانه وقبائله1951).واضاف المصري (مصطفي مسعد)كتاب(الإسلام والنوبة في العصور الوسطي-1960)وأردفه ب(المكتبة السودانية العربية- 1972)حيث قام بمهمة صعبة بجمعه كل النصوص والوثائق العربية الكلاسيكية الخاصة بتاريخ السودان في العصور الوسطي.ومن المساهمات المبكرة كتاب(الإسلام في السودان)تأليف(سبنسر تريمنقهام -1949).أما سلطنات: دار فور مرجعها(اوفاهي)والفونج(اسبولدنق)و(شاطر البصيلي).وكتب (ريتشارد هيل)التركية في(مصر في السودان)؛أما المهدية فقد كتبها(هولت)و(ثيوبولد)كذلك(جبرائيل واربورج).واهتم كثير من الاداريين بكتابة فترة الحكم الثنائي ابتدءا من (ونجت).ومن يريد التاريخ السياسي المعاصر عليه ب(تيم نيبلوك)و(بيتر وودوارد)أما (كوريتا) اليابانية فهي أفضل من كتب-مطلقا- عن ثورة1924 وعلي عبداللطيف.وأخيرا،المصدر الأساسي في الثقافة السودانية،كتبه(عبدالمجيد عابدين)اقصد(تاريخ الثقافة العربية في السودان-1953).أما الشعر السوداني فقد أرخ له(محمد النويهي)في:(الاتجاهات الشعرية في السودان-1957)وأعقبه(عبده بدوي)بكتاب(الشعر الحديث في السودان)وهو في الأصل وسالة دكتوراة.ويظل كتاب(عبدالعزيز عبدالمجيد)المسوم(تاريخ التربية في السودان-1949).
(2)
قصدت من هذه المقدمة المسهبة، توثيق حقيقة ضعف الحس التاريخي لدينا نحن السودانيين.ومن قبل قال(أحمد بهاءالدين)أن الإنسان حيوان له تاريخ،وهذا يعادل القول أنه حيوان يفكر ويدرك،وبالتالي يتطور لأنه يستفيد من تحاربه ولا يكررها.ورغم فصاحة المثل"الفات قديمه تاه" إلا أن السوداني لا يتعامل مع قديمه لاستخلاص العبر والدروس متجنبا أن يعيش حياة دائرية تتكرر ولاتصعد إلي أعلي أي تتقدم للأمام.ويُقال أن التاريخ لا يكرر نفسه أبدا،وحين يكررها تكون المرة الثانية في شكل مأساة.فالتاريخ في السودان غائب علي المستوي الثقافي الحياتي،وعلي المستوي الاكاديمي والمعرفي.وقد إنعكس غياب الحس التاريخي في التعامل مع الزمن أو الوقت واحترام المواعيد واستثمار الوقت،وما الحياة إلا حاصل جمع هذه الساعات والأيام المهدرة.ويتبع هذا التعامل العبثي مع الوقت ،عدم المثابرة أي مواصلة أي ّعمل أو نشاط حتي نهايته بنفس روح البداية.فلدينا كثير من المشروعات علي المستوي الشخصي أو العام غير المكتملة.ويمكن للسوداني أن يوقف دراسته في السنة الثالثة بالجامعة مثلا دون وجود أي عذر مقنع.كذلك علاقة السودانيين بما يسمي"الموعد النهائي" مثل تسليم بحث أو ورقة،أو تسديد فاتورة أو قسط.واشتهرنا بيوم الوقفة أي قبل العيد بيوم.وطريقة رجل الثواني التي كانت تثير الاعجاب ب"دريسة"الذي دائما ما يحرز هدفه بعد خروج الجمهور.كذلك الفنان الذي يتدلل علي الجمهور ولا يحضر إلا متأخرا.هذه ممارسات تبدو ثانوية ولكنها تنعكس في مجمل جدية الشخصية.
أما علي المستوي الأكاديمي والمعرفي،فقد كان (مكي شبيكة)هو
رائد المدرسة التاريخية السودانية الحديثة.فقد ظل منذ نهاية الاربعينيات يُدرّس في الجامعة،ويشرف علي الرسائل الجامعية.ولذلك يمكن القول أن المدرسة التاريخية السودانية قد تكونت علي يده، واكتسبت طريقته في البحث،كما تأثرت برؤيته للتاريخ.فقد كان واضحا في توجه(شبيكة) قلة الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي؛وطغي الاهتمام بالتاريخ السياسي والإدراي.ورغم تأثير(شبيكة)الكبير في البدايات،إلا طلابه الكثر استمروا في إهمال التاريخ الاجتماعي حتي بعد أن أصبحوا هم أنفسهم اساتذة مؤثرين،وتعرضوا لتيارات مختلفة.وأظن أن السبب يعود الي نزوع في الاكاديمي والمثقف السوداني عموما،الذي يهاب التجديد والمغامرة.وهو يميل كثيرا للمجاملة،ويخشي المواجهة أيّا كانت طبيعتها.فالتاريخ السوداني شائك ومعيب في كثير من تجلياته.فتاريخنا مثقل بعار ممارسة الرقيق وهذا مما يتجنب المؤرخون معالجته بموضوعية(احمد سكينجا هو الاستثناء).ومع الرقيق هناك موضوعات حساسة مثل الدين والصوفية،والنزاعات القبلية،والموقف من المهدية فهي دولة وطنية قهرت المحتل ولكن هذا لا يعني تجاهل الخراب والعنف الذي لازمها.وبالمناسبة،تعرض(شبيكة)للضرب من الانصار عام1946 بسبب نقد عابر للمهدية. يُرجع(القدال)أسباب هذا النقص الخطير في المعرفة التاريخية السودانية،لاسباب إيديولوجية مبالغ فيها نتيجة الانتماء الحزبي، مما أبعده عن صواب التقدير والحكم،يكتب:
" المدرسة التاريخية السودانية تنتهج الايديولوجية البرجوازية،وهي غارقة فيها تتنفسها بوعي أو بغير وعي،أرادت ذلك أم لم ترد.فخلف كل موقف فكري تقبع قاعدة ايديولوجية صلبة.فالمدرسة التاريخية السودانية جزء من حقل ايديولوجي كبير له تجلياته في مجال الأدب والاقتصاد والسياسة".(القدال،الانتماء والاغتراب،بيروت،دار الجيل،1992، ص29).ليتها كانت برجوازية ،فقد تميزت هذه الطبقة عند صعودها في أوربا بتقدميتها وعقلانيتها وهي التي فجّرت الثورة الفرنسية ودشنت عصر التنوير،وجاءت بالتصنيع وقضت علي الإقطاع.هذا طبعا بالاضافة للسلبيات المعروفة،واتمني لو تأثرت المدرسة السودانية بعقلانية وعلمية البرجوازية الصاعدة في فكرها المبكر وليس اقتصادها االلاحق.
(3)
تخضم الذات والنرجسية القومية
تأثر بعض المؤرخين بنظرة شمولية سياسيا تتخلي عن المعايير العلمية والموضوعية لخدمة اغراض أخري.فهم يدعون ل:"إعادة كتابة التاريخ السوداني"، وهذا منحي خطير في توظيف المعرفة واستغلالها.فهناك فرق بين إعادة تفسير وتأويل التاريخ،وبين ثبوت الوقائع والأحداث.ولصعوبة الأمر الأخير،يشتط كثير من الكٌتّاب في الحديث المبالغ فيه عن دور السودان في العالم والتاريخ البشري.وقد استوقفتني شطحتان تدعيان وضوح الفكر والنظرة الشاملة.إذ تقول الاولي بأن السودان هو "مركز دائرة الوجود".أما الثانية فهي أكثر جنوحا وخطرا لأن الدولة تتبناها من خلال الاحتفال بمرور 500 عام ميلادي(سبق الاحتفال بالعام الهجري)علي قيام دولة سنار الإسلامية.وهي تستند علي فكرة"إنسان سنار واطروحة المخلص".(حسن مكي:الثقافة السنارية،ص74).
يناقش عدد من الأفراد بجدية فكرة السودان "مركز دائرة الوجود". استنادا علي مقولة للاستاذ(محمود)في رد علي(أحمد لطفي السيد) ،فقد كتب:" أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم.. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن، وحاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يهولن أحدا هذا القول، لكون السودان جاهلا، خاملا، صغيرا، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء".(الشعب،27 يناير1951).جميل اعتراف الاستاذ بجهل السودان،وخموله،وصغره،ولكن هناك فعل المعجزة:"يضع سره في اضعف خلقه".
أما دور سنار الإسلامية فهو ضمن ما يسميه الإسلامويون:التأصيل.وهي طريقة عقيمة لأنها لاتاريخية(ahistorical) أي تتجاهل التاريخ الحقيقي، وتشرع في بناء تاريخ متوهم ،هو في حقيقته مجرد ايديولوجيا بائسة، لأنه لا يحمل من الوقائع شيئا.وقد حاول البعض البناء علي سنار أو سلطنة الفونج ،والانطلاق منها كبداية للدولة الاسلامية الاولي، وللثقافة السنارية الإسلامية الأصيلة.وهنا يقدم(مكي)تاريخا أقرب إلي الكاريكتير أو روايات الغرائبية السحرية،وهو يملك خيالا غير ملجوم.حسب نظريته الحديثة،فقد عوّض الله المسلمين عن خسائر الحروب الصليبية،واجتياح التتار لبغداد،ثم سقوط الأندلس.فيكتب:" عاش المسلمون ثلاثة قرون لا يكادون يسمعون خبرا سعيدا حتي جاء ذلك الخبر السعيد والبشري الطيبة بكسب الإسلام لأرض بكر تعادل أضعاف الأندلس في قلب قارة إفريقيا.كسب الإسلام في إفريقيا ببزوغ نجم مملكة سنار الإسلامية وخسرت المسيحية بأفول ممالك النوبة وعلوة المسيحي".(ص35).فالكاتب يختزل التاريخ إلي صراع أديان فقط،لذلك يبتهج لخراب مدينة سودانية حضارية هي سوبا،لأنها مسيحية ولا تغفر لها سودانيتها عند إسلاموي يحتقر فكرة الأوطان،ويتوق ل:"أمة محمد".
هذه رؤى تاريخية ضارة لأنها قادت السودانيين إلي تضخم شوفيني ونرجسية قومية،فلم يعرفوا قدر أنفسهم، وعاشوا الغيبوبة التي أودت بهم إلي أدني موقع في تطور العالم حصريا،عكس أوهامهم.ووضعية السودان الحقيقية تثبتها كل تقارير الأمم المتحدة والمتخصصون في التنمية.ففي هذه اللحظات التي اكتب فيها،جاء تقرير منظمة "الشفافية العالمية" مدرجا السودان ضمن أفسد خمس دول في العالم وماقبل الأخير بين177 دولة،قبل الصومال فقط.وصدر تقرير الأمم المتحدة الإقليمي مبينا أن للسودان أعلي نسبة في انتشار مرض الإيدز في منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا. وقبل أيام في ورشة العنف الأسرى، كشف مدير دائرة الجنايات بشرطة ولاية الخرطوم اللواء(محمد احمد علي) تسجيل بلاغين تحرش و عنف ضد الاطفال يوميا بالولاية.(الاهرام اليوم 14/11/2013).هذه مجرد نماذج قليلة للغاية لضيق الحيز المتاح.
وهذا هو المشروع الحضاري الإسلامي أو سنار الثانية التي عوضت فقدان الاندلس!وحقيقة لا أدري علي ماذا يستند اصحاب شطحات "مركز دائرة الوجود" أو نموذج الدولة الإسلامية بديلة الأندلس؟هذا مجرد امتداد للنرجسية الوطنية المريضة التي تري في أهلها-السودانيين،أشجع الناس،وأكرمهم،وأذكاهم،وأتقاهم.أما الشعب السوداني فهو في وصفهم :الشعب العظيم،والمعلم،والعملاق الذي يحكمه أقزام.إن الفخر القومي مطلوب،شرط ألّا يكون حاجبا بين الناس ومعرفة عيوبهم،وألا يعمينا عن تدهورنا وتخلفنا.
هذا ليس جلدا للذات بل علينا أن ننقد ذاتنا بلا رحمة لأننا نتجه للهاوية والسقوط بسرعة الصاروخ.ولا يحتاج الأمر لعلم وبحث وتنظير،فمن يطالع الصحف كل صباح،يدرك كيف يقودنا الإسلامويون الي الإنهيار والتفكك باقتدار وتصميم.وأخطر ما فعله النظام هو اسقاط فشله علي المجتمع،لكي نصل الي مرحلة الدولة الفاشلة والمجتمع الفاشل في نفس الوقت.وهذه حالة بدأ البعض في لمسها(محمد بشير أحمد/الصاوي). وقبل أن نُحول إلي مجتمع فاشل،علينا أن نتواضع قليلا ونري بموضوعية حقيقة أمرنا ماضيا ،وحاضرا، ومستقبلا. لأنه لو استمر النهج الذي نسير عليه الآن،فسنصل-أكيد- في زمن وجيز لقاع المجتمع الفاشل.فلنبدأ بالاعتراف، بأننا شعب عادي مثل الآخرين وقد يحدث لنا ما حدث لمن هم أفضل منّا.فقد تفككت يوغسلافيا تيتو،وتبعثر الاتحاد السوفيتي العظيم،وقديما سقطت روما وامبراطورية الاسكندر.
سنار… وهم الدولة الإسلامية
يواجه السودان إشكالية ومشكلات بنائية تاريخية،لأنه يحمل تاريخا يجعله أقرب الي الوهم منه للحقيقة والواقع.فقد كان موقعه سببا في عدم الاستقرار طوال تاريخه. وظل السودان بالفعل، مجرد تعبير جغرافي يفتقد الدولة المركزية والمجتمع المستقر.فقد خضع باستمرار للغارات والحملات العسكرية من جاره الشمالي القوي-الأسر المصريه.وصارت المنطقة قليلة السكان، ومن بقي لم يجد الأمن للبناء. وفترات الحضارة والاستقرارالقصيرة،هددها ايضا خطر جديد من الشرق-الاثيوبيون.وبقي السودان أو بلاد النوبة قبائل مترحلة،ومما زادها فوضي، هجرات قبائل عربية هاربة من شبه الجزيرة العربية، ولم تضف شيئا غير مزيد من البؤس.
هل تحول السودان فعلا إلي دولة عربية إسلامية تمثل نموذجا للمسلمين بعد عام1504 مع قيام سلطنة الفونج؟من البداية لابد من إقرار حقيقة أن العرب لم يتخلوا عن نظرتهم العنصرية والدونية تجاه"السودان" مقابل"البيضان" بسبب اللون وخضوعهم حتي زمن متأخر لتجارة الرقيق.ومع أن الإسلام ساوي نظريا بين الناس إلا أن كثيرا من العرب أسلموا عقديا،بينما استمرت جاهليتهم ثقافيا.وقد كانت اتفاقية (البقط)عام31/651م دليلا علي هذه النظرة الدونية،لأنها لم تطبق ثانية علي أي شعب آخر.ودهشت كثيرا حين احتفلت(جامعة إفريقيا العالمية)قبل سنوات بمناسبة مرور1400 عام هجري علي الاتفاقية.وقد اعتبرتها: "نواة من النوى التي قام عليها القانون الدولي لأنها قامت علي قبول بالآخر والاعتراف به والتعايش معه".وهذا حكم فيه كثير من التزييف والتدليس،فأين الاعتراف والقبول والمساواة،في اتفاق يقول:
"…وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا تدفعونها إلي إمام المسلمين
من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب يكون فيها ذكران(أي ذكور)وإناث
ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم(…)أو منعتم شيئا من
الثلثمائة رأس والستين رأسا فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وانتم علي سواء حتي يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين".(عن المقريزي،ج1ص200).
استمرت هذه الاتفاقية العنصرية السيئة حوالي سبعة قرون ولم يحاول أي حاكم مسلم الغاءها لولا توقفها بسبب فوضي حكم المماليك، واعتلاء أمير نوبي مسلم(شكنده)العرش مما اسقط المبرر لاستمرار دفع البقط.وهذا يعني استمرارها حتي عام1274م ويمكن للقارئ حساب عدد السنوات مضروبا في عدد الرقيق المرسل.وكان من الطبيعي أن يرسل الحاكم المسلم الحملات التأديبية عند أي توقف أو تعطيل في وصول الرقيق للقاهرة.وكثيرا ما يراودني سؤال:لماذا لم يحاول(عبدالله بن أبي السرح)إدخال السودانيين في الإسلام أو طلب دفع الجزية المعهودة؟هذا يعود الي شخصية الرجل،فقد أراد أن يجعل من النوبة"مصنعا للرقيق" يزود الفاتحين بالضريبة البشرية.فالرجل لم يكن من المشهود لهم بحسن التدين والتقوى.فقد كان في البداية،فارسا وفاتحا ومقاتلا،ولكنه ارتد عن الإسلام رغم أن النبي(ص)كان يقربه،وموضع ثقته، ويكتب له التنزيل.ولكنه قام بتحريف الوحى أثناء كتابته، فكان النبى إذا أملى عليه (إن الله كان سميعاً عليماً) يكتُبها عبد الله (إن الله كان عليماً حكيماً) ولما لم يكتشف النبى ذلك التحريف،شك عبد الله في نبوة مُحمد وترك المدينة المنورة هارباً سراً إلى مكة ليلاً، وعند وصوله إلى مكة أعلن عودته إلى ديانة العرب وأنه اكتشف كذب نبوة مُحمد وروى قصته مع تحريف القرآن. وفي السنة الثامنة للهجرة، كان فتح مكة، وكان هُناك أحد عشر شخصاً (ثمانية رجال وثلاث سيدات) أمر النبى بقتلهِم ولو وجدوا مُتعلقين بأستار الكعبة، وكان عبد الله منهُم، ولم يُقتلوا جميعاً وإنما قُتل بعضهم وعفى عن بعضهم بعد أن توسط لهم أقاربهم ومعارفهم وأشقائهم وأزواجهم لدى النبى، وكان عبد الله بن أبى السرح ممن عُفي عنهم، وكان شقيق عثمان بن عفان في الرضاعة، فأختبأ في منزله – أى منزل عُثمان – ولما وجده عُثمان قال له عبد الله، يا أخى إنى والله أخترتُك فأحتسبنى ها هنا وإذهب إلى مُحمد وكلمه في أمرى، فإن محمداً إن رآنى ضرب الذي فيه عيناى إن جُرمى أعظم الجُرم وقد جئت تائباً فقال له عُثمان بل تذهب معى، فقال عبد الله والله لئن رآنى ل يضرب عُنقى ولا يناظرنى، فقد أهدر دمى وأصحابه يطلبوننى في كل موضع، فقال له عُثمان بل تنطلق معى ولا يقتُلك إن شاء الله، فلم يرع النبى إلا بعثمان أخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبى السرح واقفين بين يديه فأقبل عُثمان على النبى فقال يا رسول الله إن أمه كانت تحملنى وتمشيه وترضعنى وتقطعه وكانت تلطفنى وتتركه فهبه لى، فأعرض عنهُ النبى وجعل عُثمان كلما أعرض عنه رسول الله بوجهه أستقبله فيعيد عليه هذا الكلام فإنما أعرض عن النبى إرادة أن يقوم رجُل فيضرب عُنقه لأنه لم يؤمنه فلما رأى ألا يُقدم أحداً، وعُثمان قد أكب على رسول الله يُقبل رأسه وهو يقول يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبى وأمى يا رسول الله، فداك أبى وأمى يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبى وأمى يا رسول الله…، فقال رسول الله نعم، وبعد رحيلهما إلتفت إلى أصحابه وقال ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا فيقتُله ؟ فقال عباد بن بشر ألا أومأت إلى يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحق إنى لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى ف أضرب عُنقه فقال النبى أنهُ لا يجوز له أن يكون خائن الأعيُن وهكذا عاد عبد الله بن أبى السرح إلى مُجتمع الإسلام بعد وساطة عُثمان بن عفان له لدى النبى ويذكُر الرواة أن إسلامُه قد حسن بعد ذلك وإن كان ما نقلوه لنا عنُه – خاصة صراعه مع ابن العاص وما فعله ب مصر بعد أن تخلص من عمرو بن العاص واليها – لا يؤكد ذلك.(تفسير الطبري،سورة الانعام)
كان السودانيون غير محظوظين فلم يدخل إليهم الإسلام من البداية علي يدي رجال اتقياء وورعين ولم يرسل لهم العلماء والفقهاء،فقد كان الحكام نهمين للبقط فقط. ولذلك كان من العادي أن نقرأ في التاريخ:"ولم تشتهر في تلك البلاد مدرسة علم أو قرآن.ويقال أن الرجل كان يطلق المرأة ويتزوجها غيره في نهارها من غير عدة"يعلق باحث:-"ولا غرابة في هذه الحال فالعرب الطارئون علي السودان الذي خضع للفونج كانوا،حتي زوال سلطان العنج،في حال من البداوة لا يتيسر معها تأسيس مدرسة ولا نشر علم.فكان إسلامهم إذا إسميا،ولعلهم قد نسوا كثيرا من تعاليم الدين وأحكامه،لبعد صلتهم بمواطن العلم والعلماء. كانوا علي هذه الحالة من الجهل حتي قدم الشيخ محمود العركي من مصر وعلم الناس العدة وسكن النيل الابيض وبني قصرا يعرف الآن بقصر محمود".(عبدالعزيز عبدالمجيد:التربية في السودان،ج1،ص57).ويضيف(عبدالمجيد) واصفا وضعية متردية:" ظهر السودان في عهد اضمحلال الثقافة الإسلامية،وأنه كان مقلدا لغيره من الأمم الإسلامية.(…) وقد ظهر السودان في عهد التقليد فلم يكن للفلسفة أوالمنطق أو غيرها من العقلية،نصيب يذكر اللهم إلا ما كان يحفظ من متونها.من أجل هذا انصرف المتعلمون في السودان إلي العلوم المقصودة لذاتها،وفي مقدمتها الفقه وعلم الكلام".( ص135).وحتي (حسن مكي)مُمجد سنار الإسلامية بديلة الأندلس، يهجو الصفوة السنارية التي فرّت الي حّمي التصوف،فيكتب:"فان التصوف في حد ذاته كان في أشد حالات انحطاطه وتبدلت احوال المتصوفة من قادة لحركة المجتمع الي أسرى اشارات ورموز واصطلاحات فارغة،وتبدل حال التصوف من حركة قدوة ومجاهدة وزهد وتوكل علي الله واخلاق اسلامية سامية الي مجرد اشكال ومظاهر ومواكب شعوذة."( ص65).
ضمن هذا الوضع الذي لا يبرر التفاخر الحالي بدور سنار الإسلامية،لابد من طرح السؤال: هل طبّق سلاطين سنار الشريعة الاسلامية؟هل كان تولي السلطة وتعاقبها قائم علي أسس اسلامية؟هل يستوعب النظام الاسلامي كل هذه الخرافات، والمعجزات، والكرامات،والمناقب التي امتلأ بها كتاب طبقات ود ضيف الله؟ماهي الاضافات الفقهية والفكرية التي اسهم بها (الفقرا)المنتشرين في بقاع السودان،هل تركوا المصنفات الفقهية والمؤلفات الدينية كما فعل اهل (تمبكتو)؟ هل لإبن عربي عن وحدة الوجود أم اكتلفوا بمختصر الخليل وحزب السيف؟ ومن يقرأ كتاب:حسين سيداحمد المفتي –تطور نظام القضاء في السودان(1959)يتأكد له ان العرف كان سائدا ،حيث كان يحكم ما يسمي بقضاة الشريعة البيضاء في القرى والبوادي.وكان للفقرا موقفهم المتميز من القضاة الشرعيين وقد عبر عن ذلك الشيخ الهميم بقوله:-
فان كنت قاضيا قرأت مذاهبا فلم تدر ياقاضى رموز مذاهبنا
فمذهبكم نرفو به بعض ديننا ومذهبنا عمى عليكم وما قلنا
وأخيرا،يتم الاحتفال بقرية(قرّي) العاصمة ،فأين بقايا المعمار الإسلامي؟وأين ملامح المدينة الإسلامية القديمة مثل فاس،أو القاهرة الفاطمية،أو دمشق الأموية،أو بغداد الرشيد،أو قرطبة الاندلس؟أخرجوا من اضغاث الأحلام والهوس الايديولوجي.حقيقة أنتم امتداد ثان لسنار ودولة الفونج،فلو كانت بداية (سنار)الإسلامية هي1504،فدولتكم الإسلامية هي حقيقة في العام التالي1505م بحساب التنمية والحضارة للقرن الحادي والعشرين.وتعود قبلية وعشائرية الفونج جديدة ناصعة،فهذا الاحتفال يقوم بالتنسيق له مسؤول مجلس شوري العبدلاب يوم7/12/2013!
(نواصل…الحلقة التالية عن أصل الفونج وتاريخ دولة سنار الإسلامية).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.