(تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربع قرن على انقلاب الانقاذ : شباب السودان
نشر في حريات يوم 13 - 08 - 2014


[email protected]
في حديث لي مع احد الاصدقاء من الكهول، تطرقنا إلى الشباب وقد قرظ لي شباب اليوم وكان حديثه عن شجاعتهم، توسع مداركهم المعرفية، لكن اكثر ما لفت نظري في حديثه كان اصراره على قدرتهم على تجاوز التفكير الابوي. كان هذا تناولاً مختلفاً عن الكثير من الذين يقرعون الشباب، يتحدثون عن ضعف محصولهم الثقافي والفكري عند المقارنة بالجيل الاسبق، نقص الخبرات والتجارب وغيرها. ولأن الشباب سوى اردنا ام لا هم الذين سوف يصنعون المستقبل، عزمت على التفرس في كل هذه الاراء ومحاولة فتح حوار حول صورة الشباب لدي الاكبر سناً وصورتهم نحو انفسهم والقضايا والهواجس التى تدور في اذهانهم. المقال أيضاً تحية اعزاز وتقدير من ستيني لشباب بلدي في كافة ارجاء الوطن العريض.
هذا مقال من سلسلة مقالات سوف اكرسها لتناول ربع قرنية الانقاذ من بعض جوانبها. وقد فضلت البدء بموضوع الشباب لاعتبارات لست في حاجة لابررها. المقالة لاتعتمد على دراسة بحثية محددة او استقصاءات، لكن على ملامسات محدودة بفرق العمر مع مجموعات مختلفة: ابناء الاسرة، ناشطين في مجالات مختلفة، كتابات متفرقة في الصحف والانترنت والفيس والواتساب وغيرها، سائقي الامجاد والركشة عبر حوارات متقطعة وحسب المتاح، ماسحي العربات، بائعي الاسكراتشات وغيرهم. المفالة مجرد ملاحظات من ستيني ينظر عبر السنوات ليرى اثر ربع قرن من حكم الانقاذ على شبابنا.
يمثل الشباب قوة تتراوح من 50-60% أي حوالي 15 مليون ما بين 18-45 سنه. وبحكم هذا العدد فهم موجودون في كافة نواحي الحياة، من مؤسسات دولة، مجتمع مدني وغيرها ويترك بصماته الواضحة على تفاصيل الحياة اليومية. يحدث بدون أن نحس انقطاع جيلي كامل بين الشباب وغيرهم في ثلاث مجالات: المجال الاول علي مستوى المرجعيات "ابوية، اسرية، مدرسية وغيرها"؛ المجال الثاني علي مستوى "المدارك المعرفية للشباب" والمجال الثالث على مستوى "مرجعيات النشاط الميداني من تأريخ، تجارب ومضمون حضاري". سوف نحاول التفرس فيها بتفصيل.وسوف اتناولها من مداخل: التجاور الجيلي، الابوية، تكافؤ الفرص، شجاعه الشباب، وتوسع مداركهم المعرفية والنشاط الشبابي.
مفهوم تجاور، تحاور وتجاوز الأجيال
نبدأ تحليلنا من أن بداية تكون الطبقة الوسطي وتنظيماتها بدأت بعد ثورة 1924 وعلية فان أول الأجيال التي سنعتبرها هي التي كانت في شبابها في نهاية الثلاثينات. يعرف الجيل أنه مرحلة التعاقب الطبيعية من أب إلى ابن، ويعرّف تقليدياً على انه "متوسطالفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائه" ومدة الجيل 33 سنة"وهي قاعدة خلدونيةوهي بالطبع قاعدة حسابية تقريبية. جاء جيل الرواد من خضم الكفاح ضد الاستعمار وبنوا الأحزاب، التنظيمات النقابية، الصحف ومنظمات المجتمع المدني..الخ.
هذا الجيل امتد في الزمان إلى نهاية الستينات، وكجزء من تقاليد الخدمة المدنية والعسكرية كان هناك تجاور وتحاور جيلي، أي أن هناك فرص للتدريب على العمل العام في الاتحادات الطلابية ومن ثم التنظيمات النقابية والأحزاب وانتقال للخبرات في العمل الوظيفي. برغم التقاليد الأبوية فقد تم الانتقال الجيلي بسلاسة وببداية السبعينات فقد تم التجاوز ومن ثم الإحلال الكامل لكافة الأحزاب (السيد الصادق بديلاً عن الهادي المهدي، الشريف الهندي بديلاً عن إسماعيل الأزهري، السيد محمد عثمان الميرغني بديلاً عن علي الميرغني والأستاذ محمد إبراهيم نقد بديلاً عن عبد الخالق محجوب).
فقد التجاور والتحاور الجيلي فعله بفعل ظروف عديدة طوال الفترة المايوية، إذ فقدت الأجيال المتتابعة نسبياً ساحات التعلم العام من الاتحادات الطلابية والتنظيمات النقابية والأحزاب، واثر التشريد والصالح العام والهجرات الكثيفة على انتقال الخبرات في العمل الوظيفي. كانت ما بعد انتفاضة 1985 الفرصة الضائعة في الحوار الجيلي عن طريق نشر الديمقراطية في الأحزاب وتغيير تركيبتها بما فيها القيادات من الجيل الثالث إلى الجيل الرابع. لابد أن نشير أن جميعنا كنا نعمل كأن هذه الديمقراطية ستعيش أبداً واجلنا كل ما هو ضروري وحاسم في استدامتها. بعد أكثر من العشرين عاماً امتدت أعمار القيادات الحزبية جميعها من 35 إلى 45 عاماً، ومضت السنون وتأجل ما كان ضرورياً في الثمانينات، حتى صار لا مفر منه في القرن الحادي والعشرين والجيل الرابع والخامس قد هرم. هذا يصدق على كل الأحزاب والمنظمات والخدمة المدنية. هذا هو دوافع المذكرات التي تم رفعها في بعض الاحزاب (مذكرة الألف أخ ومذكرة حزب الأمة)، وهو أيضا مكون في خلافات وانشقاقات الإتحادي الديمقراطي وغيرها.
الابوية
لظروف عديدة ساد المجتمع السوداني مفهومان متجاوران: المحافظة والابوية. تطورت الابوية كنظام اقتصادي اجتماعي مع التطور البشري خلال قرون عديدة، وهناك العديد من المفاهيم التي تفسر نشأتها. لكنها كلها تلتقي في تركز السلطة في يد الاب لتقرير مصير الاسرة في حاضرها ومستقبلها، إن هذا يفرض بالضرورة التحكم الاقتصادي، إتخاذ القرار والتراتبية الذكورية. مع تطوره استحوذ الاب على سلطة القرار السياسي وأقصيت المرأة عن المشاركة في الشؤون العامة وانحصر دورها في الانجاب والشؤون المنزلية، واصبح الابناء منفذين لقرارات الاب. انتقلت السلطة الابوية من الاسرة إلى العشيرة، القبيلة ومن ثم إلى السلطة السياسية في احزابها، منظماتها المدنية ومؤسساتها المختلفة. تضخمت سلطات الأب في أوقات الضعف الحضاري كثقافة سلبية تقوم على الحماية الأبوية متجاهلة، لدور الأسرة في التدريب التربوي المستمر للأبناء على التعامل مع الواقع، تحمل المسئولية جزئياً واكتساب مهارات اتخاذ القرارات السليم، واكتساب التجارب بأنفسهم وتقرير مساراتهم الحياتية.
استطاعت الديمقراطية من خلال عملها على الابنية الاجتماعية طوال قرون أن تفكفك هذه السلطة، لكن في السودان سوف تعمل الديكتاتوريات على تكريس الابوية السياسية وتفكيك السلطة الابوية على مستوى الاسرة والقبيلة. لقد اشار جون لوك الي اهمية تفكيك السلطة الابوية كشرط لقيام المجتمع السياسي الحديث، وفي ضرورة إيلاء المرأة موقعاً خاصاً ليصير فعل تحررها شرطاً وليس نتيجة. إن الهدف هو إشاعة الديمقراطية في الدولة من العلاقات داخل الاسرة، التعليم، الحياة العامة والتي عمادها الحريات والحقوق تحت الإطار الكبير من "حقوق الإنسان". في مسيرة الحياة السودانية تراجعت الديمقراطية ومع الانقاذ انعدمت تماماً. قامت الإنقاذ على مثالها في حزب الجبهة الاسلامية القومية التي قامت على الابوية المطلقة والتراتبية القاسية، فانعكس هذا بتكريس السلطة الابوية والذكورية في كافة الفضاء السياسي والاجتماعي بشكل ممنهج. كرست لهذا القوانين، النظام العام، التعليم المنغلق الشحني، قهر المرأة، قيام الجهاز الفقهي بتحديد المسارات الحياتية، التعبدية والسلوكية، السيطرة على كافة اجهزة الدولة والمجتمع (الخدمة المدنية، الاعلام، اتحادات الطلبة، الشباب، النساء، الاتحادات، النقابات، الاشكال الثقافية وغيرها). ادى غياب الديمقراطية الشامل والقهر المستمر إلى مردود عكسي على السلطة الابوية المباشرة
اولاً: القهر الذي تركز على الاباء في بداية الانقاذ، من تشريد وسجون وقمع مخيف، بدأ يتمظهر في تعامل الاباء مع الموقف، فقسم محظوظ وكبير نسبياً في الحجم استطاع النفاذ بجلده وقصد المهاجر المختلفة. الجزء الاكبر منهم اتخذ موقفاً واعياً او غير واعي من الوطن باللعن والتحقير، او الاهتمام المتواصل او المتقطع بشئون الوطن. كلا الموقفين كان لهما الأثر على الابناء. الجزء الاكبر ظل داخل الوطن يقاسي ويلات القمع المباشر والغير مباشر. الاذلال السياسي اليومي وشظف العيش، أديا إلى تراجع قدرة الاباء على القيام بدورهم الابوي المفترض، هذا مع الدور التكفيري والضار للمدارس الانقاذية. أيضاً مع رضوخ الكثير من الاباء للضغوط واكتفائهم بالصمت او الطنطنة، وتفاعلهم السلبي مع القضايا التي يواجهها الابناء في المدارس او الشارع. هذه الحالة من القمع القسري المستمر ادى إلى اصابة الاباء باليأس والقنوط مما افقدهم القدرة على تقديم مثال يحتذى.
ثانياً: أساس السلطة الابوية هو توفير العيش الكريم لاسرهم، وقد انهار هذا الاساس بشكل تدريجي. الانهيار الاول جاء من خروج النساء الجماعي لسوق العمل باشكال متنوعة: من ستات شاي، بائعات قطاعي، نساء اعمال، مزارعات، موظفات، بائعات هوى، البيع بالدين، خابزات كسرة، غسالات ملابس، طباخات المناسبات، حنانات واحياناً عاملات بناء وغيرها. هذا الخروج نقل السلطة من الابوية إلى المشاركة واحياناً في غياب الاب إلى تكون سلطة الام. الانهيار الثاني جاء من التشريد المتواصل والتراجع الاقتصادي المزري، اللذان أديا إلى تراجع قدرة الاباء في التكفل بالحاجيات الحياتية بالاسرة. لقد خاض هؤلاء الاباء نضالاً بطولياً في كافة طبقاتهم وفئاتهم الاجتماعية للصمود والقتال من اجل لقمة عيش لاسرهم المنهكة. لكنهم مع تضعضع هذه القدرة حدث انتقاص بين لسلطتهم.
مع بدايات الانقاذ تعرضت الكثير من الاسر في جميع الوطن إلى تغيرات ماحقة: التشريد المنظم، تصاعد شظف العيش وهبوط كثير منها إلى هاوية الفقر، النزاعات الاهلية، تعليم حشوي لم يعد هو ذاته يمثل أي ضمانة للعمل، ازدياد البطالة وآخيراً اقسى اجراءاتها خطف الابناء إلى حرب الجنوب عبر الدفاع الشعبي والخدمة الوطنية الالزامية. كانت هذه البيئة هي التي عاش فيها من نراهم شباباً اليوم. إذن ما الذي حدث في مسيرة الابناء للتمرد على السلطة الابوية او بالاحرى تفككها بحيث لم يجد امامه سوى الرضوخ للواقع والخروج من اسرها؟.
مع تضاؤل امكانيات الاسر كان الاطفال يذهبون إلى مدارسهم مع افطار ضعيف (شاي مع قطعة رغيف غالباً) او شاي بدون افطار. في المدرسة تواجههم طلبات الاساتذة (وهم في غالبيتهم اباء يائسون من الفقر) والمدرسة، التي جردت من ميزانياتها وتجمع التبرعات لأدارتها. المناهج عدلت لتجعل من العقول الصغيرة مجرد مخزن لكم مذهل وخاوي من المعلومات التحريضية ضد مجتمعهم واسرهم والقيم الانسانية الرفيعة كلها. عند عودتهم إلى المنازل المتواضعة تكون الام قد فعلت مستحيل توفير وجبة الغذاء من مكونات تبرع فيها المرأة السودانية. سوف يترعرع هؤلاء الاطفال ليواجهوا الامرين في المراحل اللاحقة، بعضهم سوف يتسرب إلى العمل، الحركات المسلحة، ينضم لجيش المشردين وأبناء الشوارع او يهاجرون الهجرات العشوائية. كثير منهم اتجه للعمل في الاجازات وبعد المدارس وهم من نراهم في شوارعنا: سائقي ركشة، موزعي كروت الشحن وغيرها. من سيواصلون من أبناء الطبقة الوسطى المحدودة سوف يواجهون الاختطاف إلى معسكرات الدفاع الشعبي ويقتلون فيها، يغرقون في نيل القطينة او الشحن إلى الجنوب ويموتون في ساحة لا يؤمنون بها (عبر عنهم عبد العزيز بركة ساكنفي رواية مسيح دارفور بشخصية ابراهيم خضر ابراهيم، المثقف السوداني، الذي يجبر على خدمة أيديولوجيا لا يؤمن بها، يحارب في جبهات لايعتقد انه على علاقة بها). هؤلاء هم الذين وجدوا أن الإنقاذ في بنائها السلطة المطلقة والشاملة، دمرت كل السلطات الموازية من سلطات القبائل، الابوية، الحزبية، المدنية وسوف نري لاحقاً كيفية تمظهر هذا.
تكافؤ الفرص
إذا كان جيل الاباء قد واجه الظلم الكامل بحرمانهم من اعمالهم، اعتقالهم ومنعهم من العمل الخاص عن طريق ارهاقهم بالضرائب والجبايات وغيرها، فقد واجه الابناء ظروفاً اسوأ، فقد اضمحلت الشبكة الاجتماعية التي كانت تسند الابناء حتى يشقوا طريقهم في الحياة. عوامل عدة ساهمت في ان يعاني نصف شبابنا من الجنسين من البطالة، كلها مرتبطة بالنظام السياسي وكيفية ادارته. عندما سيطرت الانقاذ على الحكم وكافة مفاصله، اتبعت استراتجية التمكين والفساد. تطور الفساد في السودان كآلية لتكوين طبقة رآسمالية تابعة للنظام، ومع تدهور الاقتصاد أصبح منفذاً للصفوة الحاكمة التي فقدت قدرة التراكم الاقتصادي والانتاج وتراكم الثروة في يدها لمواصلة الحكم. ادى نهب الاموال لفقد المزيد من الوظائف في القطاع العام (بيع المدابغ إلى الخطوط الجوية السودانية، البحرية وقصص الفساد الخرافية الحالية وغيرها)، تقليل الانتاج وتدهوره وغيرها. هذه هي التي اعطتنا ابناء الصفوة الحاكمة والذي اتجه معظم ابنائهم إلى البزنس وتراهم في فلل دبي، الدوحة، ماليزيا وغيرها، كما تراهم في عربات البرادو والباجيرو المظللة وغيرها. الجانب الاخر من الفساد كان في تعيين ابناء السلطة والمنتمين إلى "العشيرة السياسية" في الوظائف القليلة المتاحة والتي يعرفون كيف ينفذون منها إلى المال العام. من هم في قمة الهرم يعملون في الشركات "الحكومية الخاصة"، البعيدة عن أي رقابة او محاسبة. البعض الاخر يتم استيعابهم في اجهزة الامن المتعددة، المليشيات وهكذا.
عندما اطلت الانقاذ كانت احد انجازاتها التي تغنوا بها كثيراً، توسيع التعليم العالي. الذين تصدوا لهذا لم يكن لديهم علاقة باستراتيجيات التعليم، ففتحوا جامعات في كل انحاء السودان وهذا مطلوب، لكن أي نوع من التعليم وارتباطه مع النشاط الكلي للسودان. نتائج هذا التوسع العشوائي كان ملايين الطلاب الجامعيين الذين تخرجوا من جامعات الوطن. لقد ارتبط التوسع التعليمي بانغلاق فرص العمل وغياب تكافؤ الفرص المريع فيها. رغم النقد الموجه للتعليم وقصوره وعشوائية مناهجه فقد استطاع بعض الشباب بشكل ما أن يتجاوزوا هذا النقص ويكملوه بقدراتهم الذاتية، اغلب هؤلاء هم من هاجروا في السنوات الاخيرة واثبتوا قدرتهم، اغلبهم ظلوا في الوطن ينتقلون من عمل محدود، لركشة او امجاد وشبيهاتها من الوظائف.
التشابك المذهل بين الشباب سواء عن طريق الفضاء الالكتروني، الاتصالات او حتى المشافهه المشهورة في السودان واللقاءات الاجتماعية المتنوعة، جعلهم على علم بغياب التنافس وعدم تكافؤ الفرص. البطالة المرتفعة لديها تفاعلات مختلفة ومن الصعب التحدث عن أي ارقام او احصائيات، لكن البعض اتجه فوراً لأي عمل إذا توفر (لاقيت كثيراً من العمال وبعضهم يحمل شهادة ماجستير ما)، اخرون يعتمدون على اسرهم سواء المحلية او المهاجرة ويتحملون كثيراً من النقد والتقريع من اسرهم، جزء يحلم بالهجرة ويعمل لها لأي مكان خارج هذا الوطن، واخرون اخذوا اتجاهات وخيارات سيئة من مخدرات، جريمة وغيرها.
تطرح هذه القضايا، خاصة الظلم الاجتماعي، قضية المواطنة بشكل حاد، ونعني بالمواطنة احساس الشاب بالارتباط بوطنة. هذا الاحساس منتشر وسط الشباب، فهم يحسون بالم وعمق أن هذا الوطن لم يوفر لهم شيئاً وانهم غير مدينون له، خاصة وسط ابناء المغتربين. لقد انتقلت الوطنية السودانية من العناية بابنائها على اسس واحدة، بفرص متكافئة، من مدارسها التي استوعبت ابناء الفقراء في الداخليات والاغنياء، ومشافيها التي تقدم العناية للجميع، وتحول الوطن إلى وطن "العشيرة السياسية" المغلقة وليذهب الجميع ويبحثوا عن وطن آخر. فقد ذهب الجنوب بحثاً عن حلم اخر وربما تبعه دارفور وغيرها.
تربي السودانيون على احترام التعليم وحسبوه الطريق للتقدم في الحياة، ولوجود دولة مسئولة او دولة الرعاية الاجتماعية والتي كانت توفر التعليم والصحة المجانية، كانت منفذاً للتحرك بين الطبقات الاجتماعية واملاً دافعاً للجميع في التفوق والحاق الابناء بالتعليم. اصبح التعليم الاساسي هو الوحيد المتاح امام الفقراء، الثانوي للطبقة الوسطي الدنيا، والتعليم الجامعي السيء للطبقة الوسطى والتعليم الجيد لابناء الاسر الموسرة. حدث شيئان مهمان في انسداد الافق امام الشباب. اولاً: فقدت الشهادات العلمية قيمتها في سوق العمل، فهي في النهاية مجرد ديكور ورقي، وسوف يتاح لابناء الطبقة الوسطى العليا الامكانيات والتشجيع من الاسر للتقدم وتحسين المستوى العلمي، وأن كانت اسر اقل وزناً اجتماعياً ولكنها مثقفة أن تدفع ابنائها للتقدم.
ثانياً: تمر الدول في تطورها بالاحتياج لوظائف وعمالة كثيفة عند البدء ببناء البنيات التحتية والاساسية من مشاريع عملاقة (طرق، سكك حديدية، مباني، مشاريع صناعية وزراعية وغيرها)، ومع تطور التكنلوجيا تحل محل العمالة الكثيفة، وتبدأ في التراجع خاصة في الزراعة (الزراعة تستوعب حوالي 4% في امريكا) ونسبياً في الصناعة وتتحول العمالة إلى الخدمات. وقد رصد جيرمي ريفكين في كتابه "نهاية عهد الوظيفة: انحسار قوة العمل وبزوغ حقبة ما بعد السوق، اصدار مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، عام 2000″، هذه الظاهرة بدقة وتفصيل. لم يمر السودان بعد بهذه المرحلة، بل لازال لم يستكمل البنيات التحتية والاساسية، بالتالي فهو إذا طرق المسار الصحيح سوف يوفر ملايين فرص العمل لكافة ابنائه العاطلين. أتيح للسودان هذه الفرصة، فقد توفرت لديه تدفقات مالية من البترول والديون، وموارد طبيعية هائلة، لكن الفساد المخيف، سوء الادارة والحروب الاهلية الجهادية، استنزفت كل هذا. بالاضافة إلى قلة الموارد المخصصة للتعليم والخدمات عامة، انعكس هذا على العطالة وعلى شباب بلا امل.
شجاعة الشباب
تعرض جيل الشباب لمعارك على طول حياته، من الاجتهاد في توفر الغذاء الكافي اليومي، مقاومة الحشو والظلامية في المناهج الدراسية والتمسك بقيم الاسرة والمجتمع المحيط، لم تكن هذه مجرد مقاومة سلبية فقد تحولت احياناً لمعارك فردية وجماعية. لقد نازعوا السلطة في اتحاداتهم ومنهم من اعتقل، عذب واستشهد. رفضوا تنظيمات السلطة الكرتونية الخاوية وقارعوها في اتحادات الجامعات وانتزعوها منهم بجهود بطولية.وفي كل المعارك تركوا ورائهم شهداء، في كوستي، القطينة، نيالا، الفاشر ومختلف الجامعات وغيرها. كانت تحركات سبتمبر- اكتوبر 2013 قمة البطولة والشجاعة، فقد واجهوا كتائب مسلحة وقناصة وهم لايحملون حتى السلاح المعتمد في هذه الحالات –المولوتوف.عندما خرجوا في كافة انحاء العاصمة ومدني ومدن اخرى ومشوا لباحات الخلود، عيونهم مفتوحة وصدورهم مكشوفة، وتساقط الشهداء كانوا يمثلون كل قيم الشجاعة التي تمثلها السودانيون طوال اجيالهم.
يخوض بائعي الاسواق، سائقي الركشة والامجادات والهايسات، ستات الشاي، بائعي اللبن وغيرهم، حروباً يومية مع اجهزة السلطة، دركها وجامعي الاتاوات ومنتسبي الامن. وفي القرى الدارفورية وجبال النوبة يواجه شعبنا القتل، التدمير، الحرق، القصف الجوي والاغتصابات اليومية، لكنهم يعاودون بناء منزلهم، ويرفعون الراس عالياً وبعضهم يتجهون للمعسكرات ويخوضون حروباً من نوع آخر. كل نهار يتوافد الشباب من انحاء العاصمة لتنظيم الاعتصامات، الوقفات الاحتجاجية، التضامن مع المعتقلين والمطالبة بلجان التحقيق في قضايا الفساد ويتوافدون على الندوات. جميعهم يعلمون أنهم في مرمى النيران وقد يعتقلون، يعذبون او يقتلون، لكنهم لا يكلون ولا يملون. لقد وصف تشرشل جموع الانصار في كرري وجبال الشرق "انهم هزموا ولكنهم لم ينكسروا"، وهذا هو المغزى. فقد تعرضوا لكل انواع العسف، الاذلال والتهديد، لكنهم لم يحنوا جباههم العالية ابداً.
هناك فرق بين الشجاعة وهي عمل في قدرة الشخص العادي والبطولة وهي عمل في قدرة اشخاص معينين. الشجاعة ملهمة لمن حول الفعل لأنها تشجع المحيطين على التقدم واتخاذ خطوة مماثلة. بينما البطولة عمل غير عادي من شخص مميز، الناس تحب البطل لكن لاتستطيع أن تأتي بمثل فعله وترسل رسالة خاطئة للمحيطين، لأنها تظهر ضعفهم وعدم قدرتهم وتجعلهم اكثر يأساً، وغالباً توصف بالتهور ويكون مردودها سلبي. من المهم التفريق بين الاعمال الشجاعة والبطولية. البطولة أيضاً مهمة في لحظات فاصلة، لكنها مرتبطة بحركة المجاميع أي كان حجمها لأنها تبث الترابط والامن بين المشاركين واحساس معاً.
المدارك المعرفية للشباب
عندما يتحدث الكثير من الاجيال السابقة عن الشباب يتمثلون صورة نمطية عن النسق الثقافي، المعرفي والتعليمي للقرن العشرين وهم في بعض ما يظنون محقين، فالمناهج، البيئة التعليمية، الاساتذة في اردأ حالاتها، والميزانيات ضعيفة وحتى هذه تتعرض للتجنيب والنهب، لكنهم لا ينظرون جيداً للطالب. لقد تغيرت طرق تحصيل العلم جذرياً في العقود الاربع الاخيرة وخرجت من عباءة السلطة، الاستاذ، المعلم، الخبير إلى فضاء الاتصالات، القنوات الفضائية، الاسفير وغيرها. لقد قاومت السلطة القنوات الفضائية، تراقب الاتصالات، الانترنت ولكن لم تفلح.
اتابع شخصياً بعض قروبات الواتساب، مجموعات الفيس بوك، التويتر ومجموعات اخرى ويدهشني عمق النقاشات وهذه احدى الظواهر، إن الشباب يتبادلون الخبرات، المعارف والثقافة. من الصعب التوصل لملامح آليات التراكم الثقافي والمعرفي عن طريق هذه الوسائط، فهذه ظاهرة عالمية لم تتحدد معالمها بعد، لكن المؤكد أنني عندما اناقش بناتي اشعر أنني اتعلم كثيراً. ربما لايقرأ الشباب كما فعلنا في اقتناء الكتب وشراء الصحف، لكن من المؤكد انهم يطلعون على العناوين في الواتساب يومياً، وقد أمتلا الانترنت بالمقالات القصيرة والطويلة، الكتب الالكترونية. وربما كما تحولنا من مقامات الحريري إلى الروايات ومن الاغاتي للاصفهاني للكتب الاصغر حجماً، ربما نحن على أعتاب تحول في نوع الكتابة.
لقد اثبت شباب السودان قدراته السياسية، التنظيمية والادارية في مناسبتين اخيرتين. الاولى كانت في تحركات سبتمبر- اكتوبر 2013 ، هذه الطاقة الجبارة التي حرمت من الانفاس في المدارس بالاتحادات المفروضة او المحاصرة بالقيود الادارية، في الفضاء المدني بالمنظمات الاخطبوطية العملاقة القائمة على العمل التجاري ومراكمة الثروة والقيود الادارية ايضاً، منظمات السلطة الشبابية، النسائية، اللجان الشعبية، الاتحادات وغيرها، سدت المنافذ واغلقت مداخل الرياح. بعضهم اعضاء في احزاب تنحصر مهامهم في حماية الزعيم، تنظيم الندوات، جمع التبرعات وغيرها. كل هذه لم تستوعب الطاقة المتفجرة داخلهم. عندما انفجر الحدث وتمت التحركات، رأينا تنسيقاً وهارمونية في تحريك المجاميع من قادة لم نرهم او نسمع عنهم.
عندما تفجرت سماء العاصمة بالامطار وتحولت لسيول ومجار، اصاب العطب طرقات المدينة، انهارت مبان لم تكن حقاً مبان ولكن القدرة على عمل سقف. ومع صيحات الشعب الفقير في الاحياء الطرفية من المدينة، فجاءة ظهرت منظمة نفير. بسلاسة وبراعة تولت منظمة تكونت في يومها العمل الطوعي في كامل الخرطوم. كل المنظمات العملاقة والمنظمات الحكومية والاجهزة المترهلة غابت تماماً. لقد ظهرت القدرات التنظيمية والادارية لشباب متطوع في امكانية انشاء جهاز لادارة الازمة بدون أي امكانيات سوى الايمان العميق بشعبهم وابداعهم الخاص. لم يكن هذا من فراغ ولكن من اتساع مداركهم المعرفية وتحصيلهم من المتاح لديهم.
هذه العملية في ادراك العرفة لها أيضاً وجه سلبي، فالشباب في غالب الاحيان يقتات على افكار بعضهم البعض. ظروف كثيرة تلعب ادواراً مختلفة في هذا، بعضها كما تناولناها من إضمحلال الابوية، انسداد افق العمل الديمقراطي الحر (ربما ظاهرة المنتديات هي مدخل لتجاوز هذا)، الادقاع الاقتصادي لشراء الكتب (يتم ابتداع ظاهرة مثل مفروش وهي مناطق بيع كتب مستعملة باسعار رخيصة طريقة لتجاوز هذا) وغيرها. هذه الحالة تؤدي إلى اتخاذ الشباب لرأي عام خاص بهم. إن هذه الظاهرة التي يمكن أن تصبح جهوية، ايديولوجية او مناطقية في ضعف التشابك القومي يمكن أن تصبح معوقاً لحركتهم للتغيير.
النشاط الشبابي
تقول الإستراتيجية الوطنية للشباب التي وضعتها وزارة الشباب والرياضة والمنظمات والمؤسسات المختصة في الشأن الشبابي "رعاية وتنمية وتمكين الشباب السوداني ليكونوا قادرين على تحقيق تطلعاتهم ومستجدات العصر وتحدياته بكفاءة وتحقيق التنمية المستدامة لوطنهم في إطار الالتزام والمحافظة على القيم والمعتقدات والموروثات السودانية". لم تحقق هذه الاستراتيجية سوى خنق الشباب، وهذه حالة كل الانظمة الديكتاتورية فهي لاتكتفي بالدولة ولكن الحزب استولى على الدولة وكافة وسائل التعبير والنشاط، فبحث الشباب عن مخارج بعضها اودى بهم إلى اللامبالاة والعجزمما يقود إلى طرقات ضارة، بعضهم تكأكأ حول انفسهم لايجاد مخارج فردية. لم تنشأ منظمات تستطيع ان تستوعبهم، حتى مشاركتهم في الاحزاب تتميز بالضعف والقلة، لكن مجموعات منهم شكلت ما عرف في ادبيات المرحلة باسم "الناشطين". وسوف نحاول ان نلقي بعض الضوء على مظاهرها العامة
تتميز المدن السودانية الكبرى –خاصة في العاصمة- بتنوع تكوينات الشباب، تأتي من تنوعها الثقافي، العرقي، المناطقي، الإجتماعي والسياسي. هذا التنوع ينعكس على التكوينات التي ينضوي تحتها الشباب. توجد في كافة المدن منظمات مناطقية تحت لافتات "ابناء منطقة…" ولها دور ورواد وانشطة متعددة، المنتديات الثقافية و الدور الرياضية منتشرة في كافة المناطق، وتحوز نوادي اصدقاء الفنانين والشعراء على حيز واسع من الشباب، وهذا ليس كلها.
هناك منظمات قومية عابرة لهذا التنوع وفي القلب منها التجمعات الشبابية التي تضم الكثير من الناشطين، حركات قرفنا، التغيير الان، منتدي الشروق بالقضارف وروابط دارفور، تجمعات الصحفيين ونضيف اليها الجامعات والتي تضم طلاباً في تنظيمات اغلبها ينتمي للاحزاب وبعضها للمستقلين وغيرها. هذه المنظمات هي التي تتواجد في المخاطبات، التوعية بالقضايا عن طرق مختلفة المنشور، الكتابة في الحائط وغيرها، تنظم الوقفات والاحتجاجات لمختلف القضايا المتعلقة بحرية التعبير وحقوق الانسان، التضامن مع قضايا المناطق مثل المناصير، بيع المدارس في بورتسودان وغيرها. أن الناظر للانشطة التي تقوم بها هذه المنظمات يذهل من كثرتها، تنوعها وابداعها في ظروف اقتصادية سيئة وتعطل الكثيرون منهم.
ثقافة التكوينات المستقلة وسط اي مجموعات مجتمعية، رغم تواجدها لفترات طويلة في اتحادات الطلاب المستقلين، إلا انها دائما كانت تحت نيران القوى المنظمة. يأتي الخطر الاول من اجهزة الامن والسلطة والتي لاتسمح بوجود أي تنظيمات خارج اطاراتها. الانظمة الديكتاتورية تسيطر على هذه المنظمات لكي تصبح جزءاً من الادوات التحشيدية عند اللزوم وتحصر انشطتها في مسائل لاتتعلق بالتعبير المتنوع او المطالبات الفئوية. ويتم التعامل مع هذه المنظمات بعدة استراتيجيات منها التضييق بالاعتقالات المصاحب بالتعذيب لكسر الارادة، التهديدات المتنوعة، الاختراق والفركشة وتشجيع الانشقاقات وغيرها. ويأتي الخطر الثاني من التنظيمات الحزبية، والعاجزة عن بناء تكوينات جماهيرية فعالة وتعتقد جازمة أن هذا فضائها. لاتختلف الاستراتجيات كثيراً ولكنها معنوية اكثر تبدأ بمحاولة اختراقها من عضوية الحزب، نشر الشائعات حولها، الاختراق والفركشة وتشجيع الانشقاقات وغيرها.
هذا التنوع صحي ويعكس حيوية هذه التجمعات، وتتعالى في احايين كثيرة المطالبة بتوحدها وهؤلاء يأملون ان تقود عملية التغيير، لضعف التكوينات السياسية التي من مهامها القيادة. هذه الدعوات تتجاهل حقائق التنوع وتريد فرض تكوين "الكتلة الحرجة" بدون تواجد ظرفها الموضوعي. انهم عملياً متحدون بمواقفهم من القضايا التي يشاركون فيها وتواجدهم معاً في كافة الميادين. هؤلاء يقدمون الشهداء في الهبات العامة ومنهم تتكون دائماً قوائم المعتقلين. رغم ذلك هناك ملاحظات على اداء هذة المنظمات القومية عابرة التنوع.
اولاً: على عكس افضل تجارب هذا النوع من المنظمات "كفاية المصرية" و "6 ابريل" والتي عملت بنفس الاستراتيجيات منذ قيامها حتى اسقاط نظام مبارك، والتي استطاعت التغلغل في مجتمعات الشباب، المثقفين وغيرهم، لكن الاهم من ذلك كافة الاعمار. استغنت المنظمات السودانية المشابهه عن غير الشباب، بل ربطت نفسها بالشباب فقط، هكذا خلت من رموز مجتمعية مهمة باستطاعتها تقديم الدعم المعنوي للحركة. أيضاً هناك تواصل غير محسوس بين هذه المنظمات والتكوينات الاخرى التي ذكرناها سابقاً.
ثانياً: ليس من الواضحتماماً هدف الحركات الشبابية، فهي تشترك مع الاحزاب السياسية في التوعية، وهذا جوهرى للاحزاب لأنها تبني هذا حول برامجها السياسية لبناء الاوطان. لكن من شعارها العام "اسقاط النظام" فالمفترض أن هدفها تحريك المجاميع وادخالها إلى دائرة الاهتمام السياسي والاجتماعي، ومن ثم دفعها إلى دائرة الفعل والمشاركة المباشرة، عبر ترجمة هذه الاهداف لإستراتيجيات عمل.
ثالثاً: رغم أنها جميعاً ارادت بنيات صادقةأن تخط تأريخاً جديداً للسودان، فقد ورثت الكثير من مساويء الحركة السياسية في شخصنة الخلافات، التخوين، الدفع بخلافات ثانوية إلى مستوى التناقضات الرئيسية وغيرها. هذا لايستبعد تغلغل الاجهزة الامنية في هذه التنظيمات، وهذا وارد لأن هذه المنظمات علنية وتمارس عملها بشكل شفاف، لكن سيادة هذه العقلية وطرق حل هذه الاختراقات هو المهم. عادة الموروث هو اطلاق الشائعات على عواهنها بدون التحقق، الاغتيال المعنوي وفرض العقوبات الاجتماعية. إن مهمتنا استرجاع حتى الذين انحنوا وتورطوا مع الاجهزة الامنية عن طريق الدعم النفسي والاجتماعي، لأننا بهذا سوف نهزم الاجهزة في هدفها الاساسي: كسر الشباب وتحطيم عزائمهم.
رابعاً: دارفور: اكتبحالياً عن كيفية اعادة توحيد السودان، ومن قراءات عديدة وصلت لحقيقة مفزعة. رغم اهتمامنا الكبير بالمواقف السياسية للقوى السياسية الجنوبية في انفصال الحنوب، لم ننتبه أن هذا بدأ في نهاية الستينات عندما بدأ طلاب الجنوب في الجامعات بتكوين اتحادات خاصة بهم، استمرت هذه التكوينات منذ ذلك التاريخ وخلقت جيلاً منفصلاً. السمة الاساسية كانت تكوين منظمة قائمة على احساس الضحية والمظلومية. نشاهد شيئاً مماثلاً في تكوينات روابط دارفور، فهي تتجمع في روابط منفصلة وتتعاطى مع قضاياها منفردة، وحتى عندما تحاول المنظمات المناظرة حشد المؤيدين والتضامن معهم، ترفض بحجج انهم المكتوية بنار العسف والقتل، قضيتهم مختلفة، وأن المنظمات تريد استغلال قضيتهم لاغير وغيرها من الحجج. هذه الاجيال هي التي سوف تقود المجتمع بعد حين قليل وسوف نراهم –إذا تجاهلنا هذه الاشارات- ينادون بتقرير المصير.
كتب صالح عمار في سلسلة مقالات بعنوان "لم امت يومها" في موقع التغيير الالكتروني عند محاولة المشاركة قي دفنالشهيد عبدالحكيم عبدالله موسي، الطالب بجامعة ام درمان الاسلامية الذي اخنطفته اجهزة الامن والقت به جثة في مستشفى امدرمان بعد ثلاثة ايام عصر يوم الخامس من أبريل عام 2012م."ما حدث بعد ذلك " وجدتُ نفسي مُحاطاً بجموع من النساء والاطفال والشباب تُحملني المسؤولية عن قتل الشهيد، والظلم الواقع عليهم، والعنصرية وتهم اخري لم استطع الاستماع لها جميعا فالكل كان يتحدث، ويشتم ومعظمهم "كان يسأل ثم يُجيب بنفسه علي سؤاله... حاولت جاهداً ان اشرح لهم انني جئت لاشارك في دفن الشهيد، وتعزية اسرته، وانني صحفي كنتُ اعمل بصحيفة تدافع عن المهمشين وأنني وأنني، .. الخ.… الشباب الذين يحاصروني الهتاف : " ناسك وصلوا جايين يفكوك"، وآخرين كانوا يهتفون "الليله موت مافي طلعه من هنا…. احدهم وبموافقة خمسه او سته منهم قال لي بهمس : "انه ليس امامي من حلٍ سوي الخروج بسرعة جرياً وانهم سيحاولون حمايتي"، ولكن الذين سمعوا هذه النصيحة من الشباب الغاضبين كانوا الاسرع وانهالوا عليَّ ضرباً بالايدي والعصي، بينما كنت اهرب وسط محاولات الستة لحمايتي".
وكما قال صالح عمار "في زمان وبيئة الطغيان الانقاذي وسيادة الفقر، والامية، وانسداد افق الحوار، والتطرف تتنامي افكار العنصرية وممارساتها ضد اهل الهامش العريض. ومن المتوقع والمفهوم في ظل هذا الوضع ان يمضي الضحايا في طريق العزلة والانزواء، او يفكروا في مواجهة العنصرية "بعنصرية مضادة". لم يكن هذا من الممارسات في كل مكان، فقد كان هناك تضامن حقيقي ورائع من المجموعات الشبابية والاحزاب السياسية، مثل ما حدث بعد مصرع عدد من طلاب إقليم دارفور يدرسون بجامعة الجزيرة بوسط السودان، نهار الجمعة 7 ديسمبر/ 2012م. وكنت الشرطة قد اعلنت عثورها على جثث ثلاث منهم غرقى بالقرب من مقر الجامعة، واعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش أنهم قد أُغرقوا بأثر مطاردتهم، ضرباً ودفعاً، إلى جوف تلك الترعة.
هذه الممارسات تحتاج لفتح حوار واسع حولها. إذا رضي جيلي بتكوينات جنوبية منفصلة، ولم نبذل جهداً حقيقياً في التواصل لأننا ببساطة لم نكن نعلم العواقب، فعلى التجمعات الشبابية ان تظهر بشكل عملي التضامن والمناصرة لقضية دارفور. لن يحل هذا الموضوع أن القضية قضية وطن، فدارفور مآساة وطنية وإذا كانت مشكلة الجنوب هي التي قادت لاكتوبر، فلنجعل من دارفور القاطرة التي يجب أن تقود للتخلص من هذا النظام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.