في مساء ذلك اليوم من يونيو 1989 بعمارة الفيحاء والجبهة القومية الاسلامية وقتها قطعت شوطا كبيرا في تحضيرها لانقلابها المشئوم تم اجتماع للكادر المهني للجبهة بحضور عرابهم الكبير حسن الترابي ، الكادر المهني المكلف بادارة المرافق الحيوية للدولة في حالة دخول القوي الموقعة علي ميثاق الدفاع عن الديموقراطية في اضراب سياسي عام عند وقوع اي انقلاب عسكري…. تقاعست تلك القوي عن تنفيذ الاضراب السياسي لتقديرات ذاتية خا طئة وتوهمها بعدم نجاح الانقلاب لعزلة الجبهة جماهيريا ، وتامر من كانوا بالسلطة وقتها وغضهم السمع والبصر عن كل البلاغات الثلاثة المتعددة المصادر والموثقة بالادلة الثابتة بان الجبهة الاسلامية قد شرعت في التحضير لانقلاب عسكري ….دفع الشعب السوداني نتيجة لذلك 27 عاما من المعاناة والتشريد والتعذيب والتقتيل ، وتم نهب وتدمير موارد السودان في ظاهر الارض وباطنها بصورة ممنهجة ومستمرة ولقد قيل في كل ذلك ما لم يقله مالك في الخمر !!!! . من بين سنوات الشقاء والمعاناة والاحباط تولدت الطاقة الجماهيرية الثورية وانتقلت عبر تراكماتها من حالة المهادنة الي المواجهة ممتلئة بروح الجراءة وذات معنويات عالية صاعدة في حركتها ، هذه الحالة المزاجية للجماهير المشبعة بالمصادمة تتوأم مع التطور التاريخي الذي راكمته في معاركها المختلفة ضد الانقاذ ، ولهذا يبقي واجب اساسي العمل علي بناء حركة الجماهير وضرورة تنميتها وتوسيع صفوفها وحشدها صوب الاهداف النهائية لحركتها. وبنفس القدر هذا الواقع يفرض علي القيادة السياسية طرح التكتيكات والشعارات السياسية الصحيحة وهو مشروط بان تقتنع اوسع الجماهير بصحتها وبتجربتها الخاصة وهذا يتشكل بالترابط الوثيق مع نشاط حركة جماهيرية منظمة بحيث تطور هذه الشعارات من مجرد شعار عام الي شعارتمارسه بوميا ضمن وعيها السياسي . الاستفادة من رؤية جديدة للتطور التاريخي الثوري والوعي بقوانينه الموضوعية يتم الوصول اليه خارج نماذج ومشروعات جاهزة سلفا او من ارادة فوقية تفرض رغباتها واهواها ، ولادة هذا التاريخ وتطوره يتم من افرازات الواقع ومن تناقضات وصراعات واختبارات وجهود مشتركة تقوم علي التحليل السليم للواقم الملموس وتعمل يوميا دون كلل وملل ودون استعجال للنتائج المحددة. انتقاء التكتيكات السليمة في حالة المد الجماهيري او التراجع الصحيح يتمان وفق رؤية وقراءة سليمة للواقع السياسي …. اضراب مهني محدد، مظاهرات احياء متقطعة وعفوية ، عصيان مدني محدد ، عصيان اوسع ، اضراب اقتصادي، اضراب سياسي ، انتفاضة او ثورة….هذه ليست تشكيلة ثورية حتمية وانما مثال للتعميم المجرد ، فالثورة تندلع كل مرة بصورة مختلفة تحددها التحالفات والقوي الداخلة فيها والقوي التي تقود هذا الحراك الثوري ، ولان الثورةنتاج تغيير كامل في العلاقات الاجتماعية وبالتالي من الصعب التنبؤ او التكهن بتوقيتها اولحظة اندلاعها. لم يخطر علي بال محمد بوعزيزي وهو يشعل النار علي جسده في سيد بوزيد بتونس انه سيشعل عدة ثورات في عدة دول ماسميت بثورات الربيع العربي وفي تلك الحظة المحددة انتقلت الازمة الثورية الي الوضع الثوري في تلك الدول الذي لم يهدأ حتي الان وانتجت مخاضا ذو نتائج سلبية وايجابية لم تكتمل كل معالمه بعد. في خضم المد الجماهيري يجب باستمرار الانتباه الي قوي الثورة المضادة وهي ليست بالضرورة ضمن تشكلية النظام الحاكم فمن ضمن قوي المعارضة تبرز مجموعات تلتقي مع النظام في بعض القضايا او ليست ذات مصلحة حقيقية في اجراءات ثورية تمس جوهر النظام السابق وانما تعمل من اجل اصلاحات شكلية فقط ، هذه المجموعات تتحول الي الهجوم عند اول ضعف للنضال والمد الجماهيري. ان العمل المستديم والتدريجي المنظم في قيادة كل مظاهر الصراع والانفجار الجماهيري الحقيقي يقدم الشرط الضروري لتحويل الغضب والرفض الي حشد الجماهير الواسعة وتحويل معركتهم من معركة تخص مجموعة محددة او حزب بعينه الي ان تصبح معركة كل الشعب ، وهذا الحشد الجماهيري الواسع يصبح ضرورة موضوعية تاريخيا وبديل اصيل وحقيقي لسلطة الانقاذ الشمولية واي تفكير سياسي او جمعي لا يستوعب هذه الحقيقة الموضوعية يصبح خارج معركة الجماهير ومعطل لها . والحركة الجماهيرية تصعد في معاركها ضد النظام لابد من التنظيم اليومي المستمر… مزيد من التعبئة والجراءة والمواجهة في حركة الجماهير، وبعيدا عن اي اوهام رومانسية سياسية بان النظام سوف يسقط بعصيان محدد ، فالنظام سيظل يتمسك حتي اخر لحظة من عمره بالسلطة وسوف يقاوم بكل الادوات في سبيل بقائه وقمع اي عمل جماهيري يصب في ازالة النظام ويجب علي قوي الثورة الاستعداد لكل السيناروهات التي يمكنها ان تحدث في كل المنعطفات الحادة والمقدرة علي رد الصاع صاعين ،ازالة النظام تستجوب استلام السلطة اولا، و الحفاظ علي السلطة يتطلب تامينها وحمايتها وعدم الاسترخاء او التهاون في ذلك، ان انتصار الثورة لن يكون مضمونا الا اذا وجدت قوي الثورة في نفوسهم ما يكفي من الوحدة والادراك والاخلاص والتفاني والصلابة لمنازلة النظام حتي ازالته. والنصر لشعب السودان