أذكر أن الأستاذ كمال عمر، الأمين السياسي السابق للمؤتمر الشعبي وعضو البرلمان الجديد عن حصة الحزب ، كان قد كرر غير ما مرة وفي غير صحيفة مقولة قال إن المرحوم الترابي خصه بها مفادها «من نعم الله عليك أنك لم تذق البيرق»، ولكن كمال عمر كاد أن «يرفس» هذه النعمة ويتذوق طعم البيرق بالاستوزار في الحكومة الجديدة عريضة المنكبين ، لولا أن انقذته اختيارات الحزب التي ذهبت به الى البرلمان .. الحقيقة أن للبيارق التي تربط في مقدمات العربات الرسمية السيادية وتتقدمها عربات السارينا «الونانة» سحراً وسطوةً وعظمةً، تجعل صاحبها مثل صاعد الجبل، يرى الناس صغاراً تحته، وقد اعترف بذلك مرة أحد شاغلي المناصب الدستورية الولائية بعد مفارقته المنصب وصار بلا بيرق، قال هذا السيادي السابق على رؤوس الأشهاد بعد أن صارت عربته صلعاء لا يزينها بيرق، إنه أصبح مواطن «ساكت»، لا يأبه به أحد ولا يبجله أحد، والحكمة الدارفورية القائلة «سلطة لي ساق ولا مال لي خناق»، كانت قد انتهت إلى هذه النتيجة منذ زمن بعيد، كما تشير إلى ذلك أيضاً الحكمة التي أفرزتها التجربة الإنسانية الطويلة، ومؤداها أن السلطة في حد ذاتها مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، تورث الإحساس بالعظمة والقوة والجاه والسلطان، ولهذا يستمسك بها صاحبها ويستميت من أجلها بكل السبل والوسائل، وقبل الخبرة الإنسانية فقد رصد القرآن الكريم هذه الظاهرة وخصها بالعديد من القصص والآيات الكريمة، وقد رأينا ذلك عياناً بياناً في المحاولات المستميتة لأكثر من رئيس عربي سابق للبقاء على سدة الحكم، رغم الإجماع الشعبي الكاسح على رفضهم.. ومن شدة تعلق البعض بالسلطة وتشبثهم بها وببيارقها وبريقها ، فالواحد منهم عندما لا يحظى بوظيفة ذات بيرق أو بريق عند جماعته ، فانه لا يتورع من أن «يفك البيرق» من الجهة التي لم توفر له بيرق إلى الجهة التي تتوافر فيها البيارق وترفرف بكثرة، فيستبدل بكل بساطة ودون أن يطرف له جفن جلده السياسي أو الحركاتي «من حركة» ، وللعلم فإن عملية «فك البيرق» التي عنيناها هنا ليست بمعنى «طي البيرق»، وإنما قصدنا معناها الشعبي الذي يعني الفرار، إما هرباً من مصيبة أو هرولة نحو غنيمة ، والمصيبة أن السلطة نفسها خشوم بيوت ومقامات ودرجات ، وطالبيها أيضا مقامات ودرجات ، فمن يرى نفسه صاحب مقام رفيع لا يرضى بمستوى سلطوي أقل من مقامه ، ولكن منهم من يقبل بالدنية فلا يضيره أن يتدحرج من مستوى سلطوي أعلى الى ما هو أدنى .. وأحم اللهم البلد من مرض السلطة ومرضاها..