شاعت في الساحة الفرنسية في الستينيات عبارة “من الأحسن أن نخطئ مع سارتر من أن نصيب مع آرون”. تترجم هذه العبارة المشهورة الجدل الفكري– السياسي المحتدم أوانها داخل فرنسا بين رمز “اليسار” الصاعد المهيمن على الحقل الثقافي والميدان الجامعي (جان بول سارتر) ورمز “اليمين” المحافظ، الذي كتب أقسى الردود على الفكر الماركسي (ريمون آرون). تخرج المفكران في الدفعة نفسها عام 1924 من مدرسة التعليم العليا العريقة في باريس، وسلكا مسلكين متعارضين. في الوقت الذي كتب سارتر “أن الماركسية هي الأفق الفكري، الذي لا يمكن للإنسانية أن تتجاوزه”، اعتبرها أرون “أفيون المثقفين”(محورًا كلمة ماركس الشهيرة حول الدين). أنشا “سارتر” مع بعض أصدقائه صحيفة “ليبراسيون” للتعبير عن مواقفه السياسية والإيديولوجية، ودأب “أرون” على كتابة عموده الأسبوعي في صحيفة “لفيجارو” اليمينية. وفي الوقت الذي كانت مقالات “أرون” تتمحور حول فضح جرائم العهد السوفييتي، كان “سارتر” يدبج الكتابات حول “مجتمع الحرية والرفاهية” في الدولة الستالينية، التي دأب على زيارتها مطولاً سنويًا. وعندما كان يسأل الفيلسوف الوجودي الكبير عن بعض تجاوزات النظام الشيوعي في موسكو يجيب أنها مجرد “تفاصيل” وأن “الحصيلة في عمومها إيجابية”. لما مات “سارتر” عام 1980 خرجت الملايين في جنازته يتقدمها الرئيس اليميني “جسكار دستان”، في حين رحل خصمه عام 1983 في صمت. بعد عقدين من رحيل الرجلين، لم يبق من “سارتر” سوى إنتاجه الفلسفي وأعماله الأدبية، وظهر كما كان ساذجًا ومضللاً في رهانه على الستالينية، وكم كان أرون ثاقب النظر في دراساته الاجتماعية الرائدة حول المجتمع الصناعي والطبقات الاجتماعية والاستبداد السياسي. عاد الجمهور الجامعي لإعادة اكتشاف “أرون”، الذي لم يكن له في حياته موطئ قدم في الوسط الجامعي الملتهب بأفكار اليسار والتمرد. استحضر هذه المقارنة اليوم في استكناه موقف المثقف العربي من الثورات التي اندلعت في العديد من الساحات العربية. ففي حين تحمس الجميع (وحق له التحمس) لانهيار النظامين “الديكتاتوريين” في تونس ومصر، لم نلمس الحماس ذاته عندما اندلعت انتفاضات شعبية مماثلة في ليبيا وسوريا. في الحالة الأولى، ربط بين تحالفات النظام الخارجية وطبيعة النظام السياسي واحتفي “بانهيار الأنظمة العميلة”، وفي الحالة الثانية تحول التدخل الخارجي إلى المشكل الرئيسي وأصبح مطلب الإصلاح ثانويًا أو مشروطًا بانتهاء “الأزمة الداخلية”، مع العلم أن الأمر يتعلق بالمشهد الثوري نفسه، الذي عشناه من قبل في مصر وتونس. المشكل هنا ليس مجرد قصور في التحليل والاستشراف، وإنما هو في عمقه مشكل أخلاقي جوهري يتعلق بضمير المثقف وشجاعته على إدانة الظلم والوقوف مع حقوق الناس. وكما بينا باستعراض نموذج “سارتر”، قد لا يسعف عمق الفكر وصلابة التكوين المعرفي في أخذ المواقف الصحيحة في الوقت المناسب. تكررت المأساة ذاتها مع فيلسوف ألمانيا الكبير “مارتن هايدغر”(أهم فيلسوف معاصر) عندما انحاز للنازية، واعتبر أنها “تجديد للكينونة الجرمانية”. كما تكررت مع العديد من كبار كتابنا ومفكرينا العرب الذين أيدوا احتلال الكويت عام 1990، ورأوا فيه ما رآه “هيجل” في حصان نابليون خلال غزوه لألمانيا من “تجسد العقل في التاريخ”(استخدم المفكر التونسي هشام جعيط العبارة نفسها). في هذه الحالات كلها يرجع خطأ التقدير والموقف إلى وهمين متداخلين هما: ربط عدالة القضية بخلفياتها القيمية لا بآثارها العينية العملية، واعتماد منطق الأولويات في التقويم المعياري للحدث. وفق هذا المنهج، تصبح “الممانعة” حصانة من الإدانة، ويصبح الشعار القومي الثوري عاصمًا من الخطأ، ويغدو استقرار الدولة ووحدتها مقدمًا على حرية المواطن وحقوق الإنسان. إن ما نريد أن ننبه عليه هو أن ما يميز التصورات الحديثة للعدالة، هو من جهة طابعها الإجرائي التوزيعي، ومن جهة ثانية طابعها المؤسسي الهيكلي. فإذا كانت العدالة في الفكر الأخلاقي والسياسي القديم تستند لتصور أولى مسبق للخير الجماعي المشترك، فإنها في المجتمعات الحديثة أصبحت مسألة قواعد إجرائية توافقية شاملة تنظم الحريات الجوهرية، وتفضي إلى تداول مفتوح حول النظام الاجتماعي، الأمثل دون قيود أو خيارات مسبقة أو موجهة. ومن ثم ليس من شأن الدولة أن تحدد بذاتها سقفًا مرجعيًا للقيم الحاكمة باسم إيديولوجيا معينة أو منظومة عقدية ما، مما يفضي حتمًا إلى الشمولية والاستبداد باسم الفضيلة والشعارات الأخلاقية. كما أن تجسيد القيم المدنية، لا يتم خارج هياكل ومؤسسات تداولية انتخابية، تضمن حقوق الناس في الاختلاف والتعددية، من خلال فصل حقيقي بين السُلطات، وعبر مدونة تنظيمية محكمة توفر مقياسًا عمليًا دقيقًا لتقويم الفعل السياسي. عندما انحاز الفيلسوف الفرنسي “برنارد هنري ليفي” لقضية الثوار الليبيين وعبأ لها رئيس بلاده “ساركوزي”، قرأت لكاتب عربي أن موقف هذا الكاتب “اليهودي الصهيوني”، يدل أقوى دليل على أن ثوار بنغازي “ليسوا على صواب، بل هم من عملاء إسرائيل وأميركا”. ومع أنه من الصحيح أن “ليفي” شديد التعاطف مع إسرائيل وقريب من الأوساط الصهيونية المتطرفة، وله مواقف نظرية سيئة تجاه الدين الإسلامي، إلا أن دعمه للقضية الليبية لا يقلل من عدالتها، ولا يلقي عليها آثارًا من التشكيك غير المبرر. ولقد سبق للرجل أن وقف بقوة مع مسلمي البوسنة أيام محنتهم، دون أن تثار هذه التهم. فبقدر ما أننا ندين ازدواجية المعايير في الخطاب السياسي الغربي، علينا أن لا نمارس هذه الخطيئة في مواقفنا، فننحاز للأنظمة القمعية التي ترفع شعارات المقاومة والممانعة، ونبتهج لسقوط مثيلاتها من الأنظمة التي توصف بموالاة الغرب. إن ما نعيشه راهنًا هو انحسار نموذج المثقف بالمفهوم “السارتري”، أي المفكر الذي يبني قيم الالتزام على أساس خياراته الفلسفية والعقدية وليس طبيعة الواقع والحدث العيني. لا يحتاج المثقف بالمفهوم الجديد عمق الفكر وسعة الاطلاع وبراعة الأسلوب، وإنما شجاعة تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة دون تزييف أو تزويق. نقلاً عن الأزمة