تعرضت حكومة نميري في مطلع الثمانينات، الى زنقة مالية، وأنشأت جهازا للتنكيل بالمغتربين.. وظلت نظرة الجهاز وطريقة تعامله مع المغتربين عدائية طوال أكثر من ربع قرن.. أذكر ان بدر الدين سليمان قال عندما كان وزير المالية في احدى حكومات نميري (ولا احد يعرف كم حكومة شكل جعفر نميري تماما مثل جهل الناس بعدد زيجات المطربة صباح) قال بدر الدين في معرض التعليق على شكاوى المغتربين من تعسفية الجبايات التي يخضعون لها: علي بالطلاق المغترب لو جاب شيلة العرس نجمركها .. كان الرجل على الأقل أكثر صراحة وأمانة ممن أعقبوه في المنصب، الذين مارسوا سادية عجيبة وهم يرغمون المغتربين على دفع ضرائب لا سند لها في أي قانون أو عُرف .. والله مرت على المغتربين سنوات كان مجرد تذكر ما ينتظرهم في جهاز المغتربين من شرشحة ومرمطة كفيلان بجعلهم يصرفون النظر عن السفر الى الوطن. في ذات سنة طفت شبابيك الجهاز، وتمسحت بعتباته طلبا لمخالصة تخولني الحصول على حق السفر، وفوجئت بموظف يقول لي انني لم أقدم إيصالات سداد ضرائب أعوام معينة، وان كنت قد قدمت إيصالات أعوام سابقة ولاحقة لها .. قلت له: أليس وجود ايصالات لاحقة تفيد صراحة بأنني «خالي طرف» دليلا على أنه ليست علي متأخرات؟.. المهم شرح لي ان الطريقة الوحيدة لإعفائي من ضرائب تلك السنوات هي ان أذهب الى المحكمة وأحلف بأنني سددتها... فقلت له:على إيه المحكمة؟ سأحلف أمامك «اقسم بالله العظيم أنني لن أذهب الى أي محكمة لأداء قسم يتعلق بتلك الضرائب.. ووالله وتلاتة بالله (هل من يشرح لي معنى هذا الجزء من القسم الذي نردده كثيرا في السودان) سأحصل اليوم على تأشيرة خروج أو تأشيرة دخول السجن».. وتعالت الهمهمات من المغتربين من حولي: الله أكبر .. يا زول دا جعلي .. جعلي شنو؟ علي بالطلاق دا من تنظيم القاعدة عديل.. وجاء مسؤول كبير في الجهاز الهضمي (اخترت له يومها اسم الدلع هذا لأنه كان متخصصا في هضم حقوق المغتربين كمواطنين).. وشرحت له سبب صراخي فقال إنه سيسهل علي الحصول على تأشيرة الخروج، ولكنني قلت إنه لابد ان يسبق ذلك شطب سنوات الفجوة المزعومة من السجل الخاص بي،.. ولما رأى الرجل انني مسنود جماهيريا بمغتربين يتطاير الشر والشرر من عيونهم، قادني الى مكتبه وبعد بعض الطقطقة على الكمبيوتر قال لي ان الشطب قد تم بس روح لجماعة الزكاة وبعدين تعال نسهل ليك مسألة التأشيرة.. ورحت لجماعة الزكاة وقلت لهم: هاتوا نصيبي لأنني من «الغارمين» حيث انني استدنت مالا لسداد جبايات الاغتراب التعسفية، فقالوا لي: خلاص يا ابن العم، سنعطيك تأجيلا.. وتعال السنة الجاية وجيبك مليان. إسماعيل حميم تكلم عن هذا الأمر بشعر بديع: وضرائب أب عاج ندفعها والزامي حمدي نحولها (هنا إشارة الى البدعة المسماة بالتحويل الإلزمي حيث كان مفروضا على المغترب ان يسرق او يتسول لتحويل مبلغ معلوم سنويا الى حساب مصرفي في السودان)، واحلامنا صبحت زي سراب نمشي ونجِرْ ما نحصلها/ يا ريت يكون هم القروش يا غربة فيك هو المعضلة/ لكن تعال شوف الهموم الما افتكرنا نقابلها/ ذلة ومهانة واحتقار خلوا النفوس متململة .. نعم إذلال على يد كفيل بلا رحمة، ولكن الإذلال على أيدي ذوي القربى يبقى أشد مضاضة ومرارة.