شوارع الخرطوم يخنقها الزحام نهاراً ويخنقها الهدوء ليلاً، لذلك تعرض لنا هذه الشوارع كل يوم صوراً من الفوضى العاقلة والعقل الفوضوي! فى شارع خرطومي سارتْ سيّارة لا يعرف سائقها وسيلة للرزق غير السياقة، يجلس قُبالة مقود السيارة لتسييرها حينما يطلب منه رؤساؤه ذلك... كان سائقنا مُؤدّباً بأدبين: أدب المجتمع وأدب المرور، فجأةً مرّت بجانبه سيّارة أظهرَ زجاجها أنّ سائقها ضابط من الشُرطة... كانت سيّارة الضابط تسير بطريقة السُلّم والثعبان، فأعاقَ السائق بأدبه المروري على الضابط لُعبة السُلّم والثعبان التى تسير بها سيارته فأمرَ الضابط السائق بالتجنيب مع إنّ السائق لم يكن فى موضع مساءلة والضابط ليس ضابطاً للمرور! أمَر الضابط السائق بإحضار رُخصته ففعل السائق، وفى وقتٍ لا تحسبه وحدة زمنيّة انطلقَ الضابط بسيّارته ومعه الرُخصة وتركَ السائق مذهولاً بينما تنتظره سيّارته! اختطفت السائق دهشة اللحظة ثمّ عاد إلى سيارته منكسر الخاطر ومكسور الوجدان فأخذ سيّارته إلى موقع العمل ليحكي لمسئوليه ورفاقه أنّه الآن لا يستطيع العمل لأنّه فقد بطاقته المهنيّة وصار سائقاً بلا شرعيّة! ومّرَتْ الأيّام والسائق يقص قصّته لكل من يلاقيه، بعضهم يلومه وبعضهم يستغرب وآخرون يتعاطفون معه... لم يعرف السائق ماذا يقول إذا ذهب للمرور وماذا يدوّن فى بلاغة ضد ضابط يرتدي زيّه الرسمي... اضطرَت وحدته بالعمل لايقافه عن العمل لرفضه أنْ يقود سيارته بلا رُخصة فاعتبرته اللوائح متغيّباً عن العمل! ذات صباح بعد أكثر من اسبوع رنّ هاتفه الجوال ذي الأرقام التى لا تفصح عن رقمٍ له وزن، فاستقبلت زوجته صوتاً آمراً صاحب هذا التلفون بالتوجّه إلى مكتب تابع للدفاع المدني لأخذ رخصته... طارت زوجته من الفرح فطارت إليه لتخبره بالإفادة، وفى أقل من ساعة كان السائق فى ذلك العنوان ليجد رخصته لدى موظف الاستقبال... عاد إلى عمله يحمل رُخصته وقال للمسئولين عبارة يسمعها لكنّه لا يعرف معناها: الآن عادتْ لي شخصيتي الاعتباريّة... يا سادة يا كرام عادتْ إلى السائق شخصيّته الاعتبارية بعدَ أنْ إنتزعها منه ضابط الدفاع المدني!!