على مبدعينا مباشرة وغير مباشرة باب واسع من ابواب الأدب المقارن، والوصول إلى المنابع التي استقوا منها وأغنت سنوات تكريمهم والمراعي التي تغذوا على عشبها الطري عمل مضن وشاق ولكن لا بد من خوض غماره لمعرفة حظ المبدع من المشاكلة والاختلاف والمفارقة والاحتذاء والتقليد والاصالة. منذ باكورة الستينيات ازدهرت حركة الترجمة في العالم العربي حتى تركت بصمة واضحة في الثقافة العربية ابداعاً ونقداً وفلسفة، وكان رأس الرمح منها لجنة التأليف والترجمة والنشر والهيئة العامة للكتاب تؤازرها موجات متتابعة هبت من بيروت في لبنان، فظهرت ترجمات متفاوتة في الجودة والرداءة لعيون الفكر الغربي بتياراته المختلفة وسطع نجم الوجودية «سارتر سيمون دي بوفوار البيركامو» وترجمة أشعار بودلير ورامبو وفيرلين وت .س إليوت، كما برزت ترجمات جورج طرابيشي لهيغل خاصة في علم الجمال كما ترجم شفني جورج لوكاتشي رائد علم الجمال الماركسي المعاصر وترجمت العديد من الروايات المؤثرة مثل «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست وغيره من كلاسيكيات الرواية في الغرب. كما صدرت في مصر سلسلة المسرح وكانت من الأهمية بمكان كما صدرت ترجمات للأدب الروسي خاصة في كلاسيكياته الشهيرة فعرف المثقفون تولستوي وجوجول وتورجنيف وجوركي وفي المسرح والقصة القصيرة شيكوف «انظر تأثيره على يوسف إدريس وسعد مكاوي» وكان لهمنجواي القدح المعلى في الترجمات البيروتيه وترك بصمته على الكثير من القصاصين العرب امثال جمال الغيطاني ويوسف القعيد وأحمد هاشم الشريف وعلى عدد من الكتاب السودانيين كما نشرت ترجمات عن اللغة الألمانية وعلى رأسها مسرحيات برتولد بريخت «رائد كسر الحائط الرابع في المسرح» وترك أثراً جلياً في المسرح العربي «الفرد فرج وبعض كتاب المسرح السودانيين». وتمكن التيار الوجودي من وجدان وعقول المثقفين السودانيين حتى خصص له بشير الطيب مجلة «الوجود» وترك المذهب الوجودي أثراً فلسفياً في اذهان الذين استوعبوه جيداً من مبدعي تلك الحقبة أمثال عيسى الحلو وعثمان الحوري وسواهما ولضيق الحيز سنفصل هذا الأمر وخاصة تأثير جوركي على كتاب القصة اليساريين في مقالات قادمة لان ما يهمنا هنا الكاتب الانجليزي كولن ولسون صاحب «اللا منتمي» وكان قد استوحى هذا النموذج من الكاتب الفرنسي البير كامو «الغريب» على ان ولسون آثر ان يشق طريقاً جديداً في التحليل الفلسفي، وحشد عشرات النماذج من التراث الغربي ليدعم نظريته على اللامتمني، وقد اثار ظهور هذا الكتاب المترجم عن الانجليزية في بيروت ضجة كبيرة وانتشر انتشار النار في الهشيم كما ترجمت رواية «طقوس في الظلام» التي تركت تأثيراً غير مباشر في ابطال بعض الروايات العربية، وكذلك في الاعمال النقدية لبعض كتابنا المشهورين انذاك «انظر اللا منتمي لأدب نجيب محفوظ لغالي شكري» ويعد كولن ولسون مثالاً صارخاً للكاتب المصر على تحقيق ذاته وبلوغ غايته رغم ما قوبل به من اجحاف ولم تثبط همته رغم الصعوبات، فبعد الفرقعة والضجة التي أثارها «اللا منتمي» وكان انذاك شاباً لم يتجاوز الرابعة والعشرين من العمر، فقد التفتت إليه المؤسسة «الاكاديميا» وصبت على رأسه اللعنات وادارت له ظهرها بإحتقار، ولكنه صمم على السباحة ضد التيار حتى يومنا هذا «تجاوز الخامسة والسبعين من العمر» برغم من انه اصدر حوالي ثمانين كتاباً فإن اسمه لا يمكن رصده في أيٍ من موسوعات تاريخ الادب الانجليزي. في مقالاته التأسيسية «النقد الوجودي 8591م» يكتب ولسون «اني لآمل خلال العقدين القادمين ان تشيع تقنيات التفكير الوجودي في انجلترا وامريكا وانها ستوفر بلا شك حلاً في الكثير من المشاكل التي نعتبرها الآن خاصة بمنتصف القرن العشرين» ولكن لسوء حظه فإن هذا لم يتحقق ولم يكن اتجاه ولسون الانساني العريض هو ما صارت إليه الموضة في العقدين التاليين وما بعدهما ولكن المنهج اللا إنساني لهوجة المفكرين الفرنسيين الجديدة أمثال ديريدا ويارت وفوكو وتأكيدهم على التفكيكية وخداع المعنى وموت المؤلف. ومن المثير للسخرية ان اولئك المفكرين منحوا جميعاً من اعمال الفيلسوف الالماني الرومانتيكي نيتشه الذي رأي فيه ولسون مؤشراً على الطريق لحقبة جديدة من التطور الانساني من خلال شكل من اشكال التركيز الذهني القادر على الوصول إلى المعنى الأعمق ويجعل الناس اقوى وأكثر صحة لذا فإن ويلسون بمنظور الجهد الضخم الذي بذله في تكوين وجوديته الجديدة الذي يتحرك في الاتجاه المضاد للمواقف العدمية للوجودية «القديمة» يستحق ان نجد له العذر كونه شعر بالمرارة لنجاح هؤلاء المنظريين الما بعد بنيوبين الذين كان تأثيرهم صاعقاً ويشير إليهم بأنهم مجرد «قازورات» وحاول طيلة الزمن اللاحق ان يثبت بأن فلسفتهم مجرد «طرطشة لنظرية زائفة». ومهما يكن فإن ولسون ادرك منذ وقت مبكر انه لن يكون قط مؤثراً على معاصريه الانجليز بالطريقة التي أثر بها سارتر في فرنسا «عندما اصدرت اللا منتمي كانت التيارات الرئىسية هي الحقيقة المنطقية والتحليل اللغوي وسرعان ما تراخت قبضتهما واختفيا كلياً ولم يحل مكانهما شئ ملموس ولكن هذا لم يكن يهمني مع انني اعتدت ان اقول لنفسي في ثمانينات القرن العشرين هانذا اهجس بأيادٍ غاية في الأهمية ولا أحد يهتم. قد تقول أنني اصرخ في فراغ، كنت متأكداً ان أعمالي لن تندثر وأنا حي أرزق». ويستمر ولسون في حديثه لأحد الصحفيين المتعاطفين عشية ميلاده السبعيني «ورويداً رويداً، ويالسعادة وجدت خلال العشر سنوات الأخيرة ان الاشياء قد بدأت تتحرك ببطء نحوي مثل مواقع شبكات العنكبوت التي تخصص لي أو الاعداد الهائلة من القراء الذين يكتبون لي وقد أثرت كتاباتي عليهم لذا فإن كل السنوات من العمل في الظلام لم تكن لم تكن في الظلام حقاً لقد كانت هناك اصداء وتفاعلات»