لمرة ثانية وخلال فترة زمنية لا تتعدى العام يفشل لويس مورينيو أوكامبو ممثل إدعاء المحكمة الجنائية الدولية في كسب ود وتعاطف المؤسسة الدولية (مجلس الأمن الدولي) والترويج لتقريره نصف السنوي ليؤوب بذات المحصلة الصفرية التي عاد بها شهر يونيو المنصرم وهو يقدم تقريره الأول. وفي سيناريو يكاد يكون (حذو النعل بالنعل) لتقريره السابق ضرب تقرير أوكامبو مجلس الأمن الجمعة الماضية ليقسمه الى فريقين، الأول تقوده الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا وتضم الفرقة الثانية ضمن مكوناتها روسيا والصين، فيما المحصلة النهائية التي آلت اليها الجلسة الخروج دون أية قرارات أو بيانات رئاسية تصب لمصلحة أحد الفريقين. ----------------------------------------------------------- النتيجة التي انتهت عليها الجلسة ربما كانت متوقعة والسبب أن تقرير مدعي المحكمة لم يخرج كثيراً عن تقريره السابق؛ حيث تأبط أوكامبو تقريره الثاني على أمل أن يجد الدعم والتأييد الدوليين بإضفاء نوع من المشروعية لتقريره من قبل أعلى سلطة دولية، ويعد أهم ما حمله التقرير (القديم المتجدد) في أضابيره إتهامات من شاكلة رفض الحكومة السودانية التعاون مع الجنائية الدولية التي أمرت في وقت سابق بتوقيف الرئيس البشير على خلفية إتهامه بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية الى جانب رفضها تسليم علي كوشيب وأحمد هارون المتهمين بإرتكاب جرائم حرب بإقليم دارفور المضطرب منذ العام (2003م) بل ومنح الثاني مولانا هارون- منصب والى جنوب كردفان. وشدد أوكامبو على ضرورة مثول الرئيس البشير أمام الدائرة الثالثة لمحكمة لاهاي إنفاذاً لمبدأ عدم الإفلات من العقاب ولم ينس أوكامبو أن يشير الى محاكمة الرئيس الصربي ميلوفيتش ومثول بحر أبو قردة رئيس الجبهة الوطنية المتحدة المتمردة للدفاع عن نفسه أمام تهم من ذات الشاكلة موجهة اليه من ذات المحكمة وهو الموقف الذي وجد إشادة من مدعي الجنائية بإعتباره دلالة إيجابية لما يقوم به من أعمال. وضرب أوكامبو بكل التقارير الدولية التي تشير الى تحسن الأوضاع في دارفور عرض الحائط بما في ذلك تقرير قائد اليوناميد السابق مارتن لوثر أغواي الذي شدد بأن الأوضاع في دارفور مستقرة.. حيث أكد تقرير مدعي عام الجنائية إستمرار الإعتداءات الوحشية على سكان دارفور من المدنيين بصورة ممنهجة بما في ذلك عمليات القتل والإغتصاب وتجنيد الأطفال الأمر الذي قال أنه أدى الى مواصلة موجات النزوح وربط بين التضييق على مرتكبي مثل تلك التجاوزات وإنتهاءها. وحمل مدعي لاهاي على الرئيس البشير بشدة فضلاً عن التهم السابقة اعتبر التقرير البشير المعوق الرئيس في حجب ما يحدث من إنتهاكات وعلل لذلك بقراره طرد (13) منظمة أجنبية متهمة بتجاوز التصديق الممنوح اليها كما وزاد بأن الرئيس البشير عمد الى تسخير امكانات الدولة السودانية ووسائل الإتصالات لأجل مناهضة عدالة محكمته، وختم حملته بالإشارة الى أن الرئيس البشير يعمل جاهداً لصرف الأنظار الى ما يجري من تطورات في جنوب البلاد بغية صرف الأنظار عما يحدث من الإقليم الغربي. وتمثل جديد أوكامبو هذه المرة في دعوة صريحة منه الى ملاحقة من ينكر حدوث جرائم بدارفور قضائياً وقال على نحو لا يقبل التشكيك: إن المسؤولين السودانيين الذين ينكرون ويخدعون العالم بشأن الجرائم التي ترتكب في دارفور ربما يواجهون إتهامات جنائية ومن ثم وقبل أن ينزل عن المنصة الدولية أرسل اشارة للحكومة السودانية مفادها أن تتباحث مع إمبيكي حول بعض الجوانب في تقريره. وبالعودة الى مواقف الدول داخل بلاط الجلالة الدولي تجاه التقرير نصف السنوي للجنائية نجد تبايناً واضحاً في وجهات النظر فقد أوضحت سوزان رايس السفيرة الأمريكية لدى المجلس أن الولاياتالمتحدة وبالرغم من كونها ليست عضواً بنادي لاهاي الا أنها لا تساند بحال من الأحوال سياسية الإفلات من العقاب وأن بلادها لن تسمح بإستمرار الفظائع في دارفور وجددت دعوة بلادها بضرورة حظر الطيران في أجواء الأقليم، وفي ذات سياق الموقف الأمريكي أوضح السيناتور إسكوت غرايشون مبعوث إدارة أوباما للسودان أمام جلسة إستماع باللجنة الفرعية لإفريقيا أنه وافق على مضض قيادة حوار مع حكومة الخرطوم التي قال إنها ترتكب جرائم إبادة جماعية ضد سكان دارفور وأعلن رفضه أثناء الزيارات لمقابلة الرئيس البشير والإكتفاء بمقابلة مسؤولين كبار في الحكومة السودانية. ولم تشكل تصريحات غرايشون عنصر مفاجأة في ظل الضغوط التي يتعرض لها من قبل جماعات الضغط (اللوبيات) ومناهضين داخل أروقة الإدارة الأمريكية في التعامل مع السودان حيث أتهم أعضاء بمجلس الشيوخ الأمريكي (الكونغرس) إدارة أوباما بتبني مقاربة متساهلة تجاه الحكومة السودانية وأبدى السيناتور الجمهوري سان براونباك أمام الكونغرس قلقه من السياسة التي تتبعها واشنطن تجاه الخرطوم وقال: السياسة الجديدة التي ينتهجها اوباما ستشجع مجرمي الحرب في التمادي بالفظاعات التي يرتكبونها. وسارت تصريحات بريطانيا وفرنسا برفقة الموقف الأمريكي فأشار المبعوث البريطاني الى ما أسماه عدم إيفاء الحكومة السودانية بما عليها من التزامات تجاه تحسين الأوضاع في دارفور وأستند إلى تقرير لجنة الخبراء الأممية الخاص بالسلاح الذي تحدث عن تعويق الحكومة لعمل بعثة اليوناميد، ولكن الموقف الفرنسي الى جانب تأييده الولاياتالمتحدة وبريطانيا أضاف فقرة جديدة بدعوة مجلس الأمن لإتخاذ خطوات عملية لإجبار ودفع السودان للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية. في المقابل دعمت دولاً تمتلك حق النقض الدولي (الفيتو) روسيا والصين الى جانب عدد اخر من الدول الموقف السوداني وطالبت الصين المجلس بضرورة مراعاة عدم التأثير سلباً على مبادرات تحقيق السلام عند إستصدار أي قرارات فضلاً عن موقف التنين الصيني فإن المبعوث الليبي كال إتهامات حادة للقرار (1593) الصادر من المجلس وتم بموجبه إحالة الأوضاع بدارفور الى المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي فيما دعت يوغندا الى ضرورة الإلتزام بقرارات لجنة حكماء إفريقيا برئاسة ثابو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق وفي مقدمتها إعادة القضية الى داخل البيت الإفريقي. وكان عبد المحمود عبد الحليم سفير السودان لدى الأممالمتحدة رحب بمواقف أصدقاء السودان داخل المجلس وحرصهم على استمرار العملية السلمية ولم يخف سعادته من فشل مساع أوكامبو في الحصول على دعم المجلس للمرة الثانية- بقوله ل (الرأي العام) بان الجلسة أنتهت الى لا شىء وأرسل تساؤلاً لم يخل من سخرية عن أين ذهبت التصريحات التي ساقها أوكامبو عن التعاون الدولي الذي لمسه تجاه محكمته؟ وفي سياق متصل نقل د. حسين أبو صالح وزير الخارجية الأسبق الأنظار في حديثه مع (الرأي العام) تجاه وجهة نظر جديدة مفادها أن مجلس الأمن الدولي هو أس البلاوي التي تلم بالبلاد حيث أنه ولولا قراره - أي مجلس الأمن- رقم (1593) الذي نعته بالضربة الموجعة للسلام لما آلت الأوضاع السودانية الى المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها وأعتبر عدم خروج المجلس بقرارات تدعم تقرير أوكامبو نتاجاً لموقف السودان الصلب والرافض لإرسال أي من مواطنيه تجاه المحكمة الجنائية الدولية. موقف أخر أحتسبه د. أبو صالح على مجلس الأمن وعده بالشاذ والمعادي للخرطوم متمثلاً في رفض الأخير لموقف المجموعتين العربية والإفريقية المنادي بضرورة تأجيل النظر في محاكمة الرئيس البشير لمدة عام مع إمكانية التمديد بهدف إعطاء فرصة للسلام تقديماً له على مبدأ العدالة وأكد وزير الخارجية الأسبق أن المخرج الوحيد لأزمة الجنائية يتمثل في حلين لا ثالث لهما الأول بالغاء القرار (1593) والثاني رفع الجنائية يدها عن السودان بقرار من مجلس الأمن الذي أصدر القرار سبب الأزمة. غير أن لأستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية د. صلاح الدومة رأي آخر حيث أشار الى خطورة خطوات مدعي الجنائية الدولية ضد الحكومة السودانية تأتي من أنه يمض بخطى وإن كانت بطيئة نحو أهدافه بإتخاذه لعدة مسارات هدفها الضغط على الخرطوم ودلل الدومة في حديثه مع (الرأي العام) بالدعم الذي يجده مدعي لاهاي من الثالوث الأعظم (الولاياتالمتحدة، بريطانيا، فرنسا) الى جانب المانيا التي قال أنها لعبت دوراً كبيراً داخل أروقة الإتحاد الأوروبي للضغط على السودان وأرتكز في تحليله ذلك على موقف الإتحاد الأوروبي الأخير الرافض لإستقبال الرئيس البشير في الأراضي التركية. مكمن أخر للخطورة أشار اليه الدومة ويمكن أن يلج منه مدعي الجنائية تمثل في السند الذي يلقاه الأخير من مجلس الأمن والذي يفتح أبوابه على مصراعيها أمامه وذلك من خلال مخاطبة المجلس بتقارير دورية، ودعا الدومة للتعامل بروية وبمنأى عن التهافت لتجاوز أزمة الجنائية. ولم يستبعد د. الدومة في حديثه إمكانية إستصدار أوكامبو قرارت ضد مسؤوليين سودانيين ليضافوا الى قائمته السابقة التي حوت أسماء من بينها رأس الدولة بتهمة تشويش العدالة عن طريق إخفاء المعلومات عن الأوضاع في الأرض، غير ان السفير عبد الحليم الذي كر على تقرير لجنة خبراء لجنة السلاح بشدة واصل على ذات النهج بإنتقاد تقرير مدعي الجنائية الذي قال أنه أمتلأ بالأكاذيب والإختلاق والتضليل وأضاف بأن المدعي العام قد وصل الى ذروة الإفلاس بحديثه عن ملاحقة كل من ينكر حدوث فظاعات بدارفور وهي محاولة من مدعي الجنائية لتكرار سيناريو معاداة السامية السائد في الغرب ضد من يستنكرون الأحاديث الرائجة عن إنشاء القائد النازي أدولف هتلر محارقاً لإبادة اليهود فيما عرف لاحقاً ب (الهلوكوست). نتيجة الفشل في امتحان مجلس الأمن والتي مني بها أوكامبو لمرة ثانية كانت مخيبة له بكل معني الكلمة خاصة نبرة الأمل الواضحة التي كانت تبدو عليه ولم تمنعه من التصريح بأنه وجد دعماً ملموساً من بعض الدول تجاه توقيف الرئيس البشير إضافة الى النشاط الملحوظ والدؤوب الذي أتسم به المدعي العام في المرحلة التي سبقت الجلسة بزيارات الى عدد من الدول شملت يوغندا، جنوب إفريقيا، إضافة الى أثيوبيا كما قال أوكامبو- أنه أجرى إتصالات مهمة بالدول العربية والإفريقية بغرض حشد التأييد اللازم لتقريره ولم يخف حاجته الى دعم المجلس بقوله: (بوصفي مدعي الجنائية الدولية أحتاج الدعم الكامل مع المجلس لضمان مواصلة التركيز على الحاجة لإلقاء القبض على الرئيس البشير والمطلوبين السودانيين للمثول أمام المحكمة). الرياح الموسمية التي هبت من أقصى الغرب الجغرافي (نيويورك) حيث مقر مجلس الأمن نحو (لاهاي) مقر الجنائية الدولية أتت بعكس ما تشتهي أشرعة وسفن المحكمة الجنائية الدولية التي عليها الإنتظار حتى يونيو المقبل موعد تقديم التقرير الجديد، وعلى الحكومة السودانية التي كسبت كل من معركتي يونيو وديسمبر 2009 الأستعداد والإحماء الجيد لتكرارها في العام 2010 إبتداءً بإجتياز إمتحان الدوحة.