بعض المناطق تتيح لك تمرينا سياسيا ضروريا : تقف على خط فاصل تضع على يمينه قدمك اليمنى وعلى يساره قدمك اليسرى ... ثمّ تظل دقيقة على هذا الوضع! يمكنك إجراء هذا التمرين في عدد من المواقع والمواضع : الكرمك السودانية والكرمك الاثيوبية ... رفح الفلسطينية ورفح المصرية ... بيروتالشرقية و بيروتالغربية ... كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية ... قبرص التركية وقبرص اليونانية ... اسطنبول الآسيوية واسطنبول الأوروبية! على هذا النحو قمت قبل أيام قليلة بإجراء هذا التمرين السياسي على آثار أو أنقاض جدار برلين الألمانية ... مدينة واحدة منذ أن كانت ألمانيا قطعة شطرنج سياسية ثمّ أذاقتها شهوة التوسّع الجامحة أسوأ مصير يمكن أن تلقاه مدينة : أن تصبح المدينة مدينتين و أهلها أهلين! ربض القدر السياسي لبرلين بعد هزيمة ألمانيا وتحطّمها ليختارها خطا فاصلا بين نقطتين جغرافيتين : ألمانياالغربيةوألمانياالشرقية ... ونقطتين تاريخيتين : نصف ألمانيا الذي يحميه حلف الأطلسي ونصف ألمانيا الذي يحميه حلف وارسو ... فأذعن الألمان لقوانين الجغرافيا والتاريخ فصار الأهل أهلين ... الصديق في ألمانياالغربية والصديقة في ألمانياالشرقية وبينهما جدار برلين! وسارت السياسة في ألمانيا ستّة وأربعين عاما موازية لأقدارها ... يقف جدار متصلّب بين مشروعين سياسيين : مشروع حياة البناء على الجانب الغربي ... ومشروع بناء الحياة على الجانب الشرقي ... حتى جاءت أول لحظة تاريخية ناضجة فاستجابت المنطقة الجغرافيّة فصارت (البرلينان) برلين واحدة ... سقط الجدار في نفوس الألمان قبل أن يسقط أنقاضا على الأرض! تداعت أمامي الصور والأخيلة وأنا أضع قدمي اليمنى على آثار حائط برلين في جانبها الغربي وأضع قدمي (اليسار) على جانبها الشرقي ... فشعرت بقسوة أن يكون بين قدميك حائطا! بإمكاننا جميعا ممارسة هذا التمرين السياسي الشاق في السودان ... بأن نذهب إلى منتصف منطقة ابيى ... فنضع قدمنا اليمنى على القسم الشمالي وقدمنا اليسرى على القسم الجنوبي ... لنستشعر الآلام المبرّحة التي تصيب القدمين حين يكون بين قدميك حائطا : جدار ابيى!!