هذه المرحلة في بلادنا تتطلب من صناع القرار الخارجي والدبلوماسي درجة عالية من الحكمة والذكاء والقدرة على رسم التوازن المطلوب ما بين المحافظة على إيقاع التطور الذي يتم في علاقات السودان مع الولاياتالمتحدة وانفتاحه على المجتمع الدولي، وما بين ضبط ارتدادات هذا التطور وهذه العلاقة على المستوى الداخلي وفرز فواتيرها بمراعاة لنفسية شارع سياسي وديني تربى على عدم الثقة المطلقة في نوايا الولاياتالمتحدة، وتربى على نظرية المؤامرة التي تفرض التعامل بسوء ظن وتوجس وحذر من أية تصريحات أو وجهات نظر أمريكية بخصوص قضايا سياسية أو دينية في السودان، خاصة في المرحلة الأولى الحالية بعد رفع العقوبات، حيث ترتفع حساسية الرأي العام تجاه هذه التصريحات باعتبارها محاولات ضغط لإخضاع السودان لأجندات صهيونية معادية للإسلام وتستهدف إفساد تربية المجتمع السوداني الدينية وزلزلة وتحطيم الحصون التشريعية والقانونية في السودان. وقد تكون تلك المحاولات ترجو فعلاً تخفيض صوت الالتزام والتدين في المجتمع السوداني، لكن الحقيقة التي يجب إدراكها جيداً أن هذه المطالب والدعوات والخطط الأمريكية ليست شروطاً من جانب الولاياتالمتحدة للتعاون والتعامل مع السودان إلا في إطار المطالب المشروعة التي يلتزم السودان باتفاقيات والتزامات أخلاقية ودولية لتنفيذها.. أي أن الولاياتالمتحدة حين تطرح مثل هذه المطالب التي قدمها جون سيلفيان، نائب وزير الخارجية الأمريكي، في لقاء مع رجال الدين السودانيين (مسلمين ومسيحيين) في مسجد النيلين يوم الجمعة وهو يطالب بحذف وتعديل مواد إسلامية في القوانين السودانية في ما وصفها بخطة أمريكية، حددت المواد (الردة: 126، الكفر: 125، الأعمال الفاضحة: 152) من القانون الجنائي، ومواد رعاية الطفل والميراث في قانون الأحوال الشخصية لسنة 1991. فإن ذلك الحديث يجب التعامل معه على أنه يعبر عن مجرد وجهة نظر من جانب الولاياتالمتحدة تتضمن مقترحات مثل إنشاء آلية استشارية رسمية بين الحكومة والمجتمع المدني لحماية الحرية الدينية. ومن حق الحكومة أن ترفض هذه المقترحات أو تهملها بهدوء وتحقق ما تراه مناسباً لضمان كفالة الحقوق الدينية للأقليات وحقوق الإنسان وتحقيق التعايش الديني المطلوب بالآلية التي تراها. فالعنوان المتفق عليه هو كفالة جميع تلك الحقوق التي يعترف السودان بها ويلتزم بضمانها، أما آليات ذلك فمتروكة للدولة السودانية مهما تحدث سيلفيان أو غيره، وهذا بالضبط ما ظل يتم بين الولاياتالمتحدة وأصدقائها من الدول العربية والإسلامية.. دائماً تصدر تصريحات من الخارجية الأمريكية تتضمن ملاحظات ومطالبات للكثير من الدول العربية والإسلامية الصديقة والحليفة لأمريكا، لكن استجابة أو عدم استجابة تلك الدول لم تمثل محكاً مفصلياً للعلاقات والتعاون وتبادل المصالح معها.. الإدارة الأمريكية تتحدث كثيراً عن حقوق الإنسان في السعودية وتطالب بحقوق المثليين في البحرين والمغرب وغيرها، لكن تلك الدول لا تنشغل كثيراً بتنفيذ مطالب تخالف الشرع الإسلامي أو تتقاطع مع قوانينها ودساتيرها. نحتاج للكثير من البرود والهدوء في التعامل مع مثل هذه الدعوات والتصريحات الأمريكية التي سنستقبل منها الكثير في مراحل علاقتنا الجديدة مع الولاياتالمتحدة بقليل جداً من الانفعال والتفاعل حتى لا يستيقظ ذلك الحمق فينا من جديد. شوكة كرامة