نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    بالفيديو.. شاهد أول ظهور لنجم السوشيال ميديا الراحل جوان الخطيب على مواقع التواصل قبل 10 سنوات.. كان من عشاق الفنان أحمد الصادق وظهر وهو يغني بصوت جميل    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    هل انتهت المسألة الشرقية؟    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    لأهلي في الجزيرة    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما يصبح التضامن نمط حياة
ستيفان كروبلين في السودان

جامعة برلين الحرة
يقوم البروفسور ستيفان كروبلين في هذه الأيام بزيارة للسودان وذلك بناءً على دعوة من المركز السودانى للخدمات الصحفية (smc). أجد في هذه المناسبة فرصة لتعريف الرأي العام السوداني بشكل خاص والعربي بشكل عام على النشاط الإعلامي المكثّف الذي يبذله البروفسور كروبلين في مواجهة الحملة الإعلامية المعادية المضلِّلة والتي تروّج منذ سنين لتبرير السياسة العدوانية إتجاه السودان.
ولد الدكتور ستيفان كروبلين في مدينة ميونخ- جمهورية المانيا الإتحادية عام 1952. كان والده في ستينيات القرن العشرين يعمل صحفيا ورافق مراراً هيلموت شمت القيادي في الحزب الديمقراطي الإشتراكي ، الذي أصبح فيما بعد مستشارا لحكومة ألمانيا الإتحادية، في زياراته الرسمية لعدد من الدول العربية من بينها السودان. وكثيرا ما حدثه والده عن طرق القوافل التجارية وأطلعه على صورٍ إلتقطها إبّان زياراته. يعتقد كروبلين أن تأثير والده كان من الأسباب التي دفعته منذ طفولته للإهتمام المميز بالعالم العربي: أتذكر- يقول كروبلين- أنني عندما كنت تلميذا وأثناء حصة الجغرافيا وعند تصفحي الأطلس بالذات كانت أفكاري تطوف العالم العربي والصحراء الكبرى وعندما يُطرح علي سؤالٌ أثناء الحصة كنت أدرك أن التمعن في هذه المنطقة ألهاني عن متابعة الدرس. هذا التأثير دفعه إبّان فترة الدراسة إلى زيارة عدد من الدول العربية والصحراء الكبرى تعرّف أثناءها على المناخ الثقافي العربي.
دَرَس كروبلين الجغرافيا والجيولوجيا في "جامعة برلين التقنيّة" و"جامعة إكس إن بروفانس " في فرنسا. أعد أطروحة الماجستير في جامعة برلين التقنية حول "هضية الجلف الكبير". وبعد إنهاء دراسة الماجستير أثارت فضوله صور الأقمار الصناعية للصحراء الكبرى. اكتشف أثناء إطلاعه على بعض هذه الصور مجرى سابق لأحد فروع نهر النيل في وادي هور السفلي شمال السودان والمثير لهذا الإكتشاف أنّ هذا الفرع لم يكن مدون في أي أطلس أو خريطة. دفع الفضول كروبلين إلى التوجّه إلى هذه المنطقة حيث أمضي قرابة عام ليثبت أن هذا المجرى كان - حتى جفافة قبل حوالي 3000 عام- أكبر فروع نهر النيل. تقدم كروبلين بنتائج أبحاثه حول وادي سوات السفلي في عام 1990 وحصل من "جامعة برلين الحرّة" على درجة الدكتوراه.
بعد الإنتهاء من دراسة الجيولوجيا والجغرافيا تخصص كروبلين في الأبحاث حول تاريخ كوكب الأرض الحديث والمعاصر أي الجيولوجيا الحديثة التي تحاول التعرّف على ظروف المناخ والبيئة في الآلاف الأخيرة من السنين.
يعمل ستيفان كروبلين منذ عام 1995 في جامعة كولونيا رئيس قسم الأبحاث المختص " بالتحوّل الحضاري والجغرافي في الصحراء الأفريقية" وهو أضخم مشروع علمي يتم تنفيذه في الآونة الأخيرة.
الدكتور ستيفان كروبلين هو أيضا كبير معدي الدراسة عن تاريخ الصحراء والتي شارك في إعدادها علماء من بلجيكا، كندا، الولايات المتحدة، السويد وفرنسا وأظهرت دراسة تطور طبقات الغبيرات واللقاحات والجسيمات المائية القديمة في ترسيبات بحيرة يوا، واحدة من آخر البحيرات الصحراوية في شمال تشاد، أنه كان ذات يوم في هذه المنطقة مراع مغطاة بالأعشاب وتنتشر فيها البحيرات وسهول السافانا وترتع فيها الزرافات والنعام والفيلة والأسود. وكانت البحيرات منتشرة في الصحراء حيث النباتات المتعددة الأشكال مثل نباتات السرخس والأقاقيا تتناثر فيها أشجار السنط والأعشاب قبل أن تتحول تدريجيا منذ ستة آلاف سنة عندما شرعت كميات كبيرة من الغبار بسبب الجفاف والتغيرات الجوية قبل نحو 2700 سنة.
يقوم الدكتور كروبلين منذ 30 عام بأبحاث في الشمال الغربي للسودان حول التاريخ الإستيطاني والثقافي للصحراء والتحوّلات البيئية في المناطق الإفريقية الجافة.
منذ سنوات بادر بجانب مشاريعه العلمية الأخرى إلى تأسيس محمية طبيعية كبيرة ومحمية حضارية ومنتزه وطني في شمال غرب السودان. وافقت حكومة السودان المركزية وكذلك حكومات الولايات الثلاث المعنية: شمال دارفور، الولاية الشمالية، وقردفان عام 2000 على هذا المشروع الذي سيصبح بعد تنفيذه ثاني أكبر محمية طبيعية على الصعيد العالمي. يرى الدكتور كروبلين أنّ هذا المشروع سيكون مثلا رائعا لحماية البيئة الصحراوية ، للتراث الحضاري، للجمال الطبيعي والتنوع الحيوي للمناطق الصحراوية. هذا المشروع الذي كان من الممكن إنجازه منذ عشر سنوات وقع ضحية السياسة السلبية (الحصار) للدول الغربية التي تحول بذلك دون حماية البيئة والتراث الأثري وتبطئ بذلك عملية تحسين الظروف المعيشية لسكان دارفور.
قام كروبلين منذ عام 1980 بما يقارب الاربعين رحلة علمية للبحث في تحولات البيئة والمناخ كذلك في التاريخ الاستيطاني للقسم الشرقي من الصحراء الكبرى دام بعضها عدة أشهر. وتعرّف أثناء إقامته على الإنسان السوداني بثقافاته المتعددة، طيبته المتناهية وأنماط حياته ونزعته البديهية للسلام. عندما رأى كروبلين أن الصورة النمطية التي يرسمها إعلام مايسميهم كروبلين "المستعمرين الجديد" تتناقض وبشكل مطلق مع قناعته التي تبلورت عبر السنين شعر ببساطة أنّه ملزم بإطلاع الرأي العام على حقيقة ما يدور في السودان.
يقول كروبلين: "لقد قمت بذلك ، ليس منذ أن تصدّر السودان عناوين الصحف بسبب أزمة دارفور، بل قبل ذلك بزمنٍ بعيد. لقد مكثت في السودان سنوات طويلة لكي أكون قادر على إطلاع الرأي العام على الإنطباعات الشخصية التى حصلت عليها أثناء سنوات إقامتي في هذا البلد. أما دارفور فهذه ليست المرة الأولى التي تحاول القوى الغربية فيها أن تحقق أهدافها. بإستطاعتنا أن نعود بذاكرتنا إلى حقبة الإستعمار البريطاني التي دامت طويلاً، ارتُكبت خلالها جرائم رهيبة في حق الشعب السوداني".
بجانب إنتاجه العلمي الكثيف والذي من الممكن الإطلاع على حيثياته في موقعه على الشبكة العنكبوتية يبذل البروفسور كروبلين على الصعيد الإعلامي جهداً مميّزاً للتصدي للآراء المضللة حول السودان والتي تسود معظم الصحف والمجلات وبرامج الإذاعة والتلفزيون ومواقع الشبكة العنكبوتية في آوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
تجلّت مواقفه في عشرات الأبحاث والتحليلات العلمية، سأتطرّق إلى نماذج منها:
نشرت صحيفة " الفرنكفورتر روندشاو" وهي أحد الصحف الأوسع انتشاراً في ألمانيا مقالاً لكروبلين تحت عنوان "كرة القوى العظمى –حول كارثة لاجئي دارفور في السودان " يتصدى فيه لتقارير متحيزة تتضمن أنصاف الحقائق". ويتطرق فيها إلى الأساطير حول مايطلق عليهم "الجنجويد" وحول الشهود الذي يقوم الإعلام الآوروبي بتقويلهم ما يراد تعميمه من آراء مغرضة حول السودان.
وفي مجلة "انترناشنل-مجلة السياسة الدولية" التي تصدر في فيينّا-النمسا يتطرّق كروبلين إلى الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول الثروة النفطية في إفريقية والحجج الواهية التي يسوقها الإعلام حول جنوب السودان ومن ثم دارفور لطمس حقيقة هذا الصراع. يتطرق كروبلين إلى زيف اهتمام الدول الغربية بالديمقراطية وحقوق الإنسان في السودان. ويبيّن كيف يتم استغلال التخلف المعرفي حول السودان لدى المجتمعات الآوروبية بشكل عام والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص لتضليل الرأي العام.
وفي محاضرة ألقاها البروفسور كروبلين في "المتحف المصري" في برلين بعنوان: "الإبادة الجماعية في دارفور هي مجرّد دعاية"، وجّه فيها النقد اللاذع للإعلام في ألمانيا بسبب تقاريره السطحيّة وإتهاماته "السخيفة" للسودان مما يعيد حسب كروبلين الذاكرة إلى أساليب دعاية حقبة الإمبراطورية الثالثة (العهد النازي) السوداء. كما وقارن كروبلين بين الإدعاءات التي نُشرت في تقارير لاتحصى حول دارفور مع المزاعم التي نشرت في نفس الصحف والمؤسسات الإعلامية الأخرى حول حقوق الإنسان وأسلحة الدمار الشامل في العراق والتي سخّرت كمبرر لغزو هذا البلد العربي قائلاً:" كما لم يُعثر في العراق على أسلحة دمار شامل لايوجد أي دليل –على سبيل المثال صور أقمار صناعية حول " مقابر جماعية" في دارفور ولو وجدت صورة واحدة لتم نشرها في جميع أنحاء العالم. هذه مجرّد إدعاءات لاغير لتقنيع الأطماع الإستعمارية في خيرات السودان".
تسائل كروبلين في محاضرته المذكورة في المتحف المصري لماذا واستناداً الى أي معطيات تتدعي الأمم المتحدة بأن 200 ألف إنسان فقدوا حياتهم بسبب الصراع في دارفور وأن 2,5 مليون شُرّدوا من ديارهم؟ ويجيب بشكل غير مباشر على هذا التساؤل بتذكير الحضور بالرأي الذي عبّر عنه فيرنر داوم الدبلوماسي الألماني المخضرم وسفير ألمانيا السابق في الخرطوم:
" من يعمل ضمن إطار منظّمة ( ويقصد هنا الأمم المتحدة) ويعارض وجهة نظرها يفقد وظيفته".
وأثناء مقابلة له مع مؤسسة "عالم واحد للبحث والإعلام" قال كروبلين حول الأسباب الحقيقية لهذه الحملة:
"طبعا هنالك العديد من الاسباب في مقدمتها المصالح الإقتصادية، المواد الخام بدءا بالبترول، اليورانيوم، الذهب والمواد الخام الأخرى التي قد تكتشف بعد. وهنالك المصالح الإستراتيجية والتي تدفع بعض القوى إلى بسط نفوذها على أكبر بلدان القارة الأفريقية من أجل التحكم بالعديد من الدول المجاورة وهنالك طبعا المصالح السياسية التي تريد صرفَ الأنظار عن المظالم المرتكبة في مناطق أخرى من العالم، في العراق أثناء الحرب، أو فضيحة أبو غريب أو الجرائم التي ترتكب منذ ستين عاما في فلسطين. هنالك من هم بحاجة إلى طفل شرير أو "دولة مارقة" لكي يتم تحويل الأنظار إليها و يُدّعي أن ما يتم في تلك الدولة هو في غاية السوء أو أسوأ مما يحدث في مكان آخر وحتى لو كانت تلك الإدعاءات باطلة تماما"
قلّة من الساسة الألمان يملكون الجرأة للوقوف ضد تيّار المحافظين الجدد. السيدة إلكي هوف –عضوة البرلمان الألماني الإتحادي عن كتلة الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) والناطقة باسم الحزب في قضاية السياسة الدفاعية- هي من القيادات السياسية النادرة في ألمانيا والتي زارت السودان بما في ذلك ولاية دارفور، تثمّن-بحكم معرفتها للواقع- عالياً آراء البروفسور كروبلين وترى أنه على الحكومة الألمانية أن تساهم فعليّاً في دعم النشاط الإنساني بدلاً من رفع أصبع الإتهام.
مايؤكده البروفسور كروبلين في مقالاته حول الأسباب الحقيقية للحملة العنصرية ضد السودان وأهدافها جهرت بها القيادة الصهيونية في إسرائيل:
لخّص آفي ديختر - وزير الامن الصهيونى فى معهد ابحاث الامن القومى الاسرائيلي – في محاضرة ألقاها بتاريخ 4 سبتمبر 2008 التوجهات الإستراتيجية الإسرائيلية اتجاه السودان كالتالي:
"حين بلورت إسرائيل محددات سياستها وإستراتيجيتها حيال العالم العربي انطلقت من عملية استجلاء واستشراف للمستقبل وأبعاده وتقييمات تتجاوز المدى الحالي أو المنظور(...)
السودان بموارده ومساحته الشاسعة وعدد سكانه كان من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول عربية رئيسة مثل مصر والعراق والسعودية (...)
كانت هناك تقديرات إسرائيلية حتى مع بداية استقلال السودان في منتصف عقد الخمسينات أنه لا يجب أن يسمح لهذا البلد رغم بعده عنا أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي لأن موارده إن استمرت في ظل أوضاع مستقرة ستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب. وفي ضوء هذه التقديرات كان على إسرائيل أو الجهات ذات العلاقة أو الاختصاص أن تتجه إلى هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلة يصعب معالجتها فيما بعد
. كون السودان يشكل عمق إستراتيجي لمصر، هذا المعطى تجسد بعد حرب الأيام الستة 1967 عندما تحول السودان إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري وللقوات البرية هو وليبيا. ويتعين أيضا أن نذكر بأن السودان أرسل قوات إلى منطقة القناة أثناء حرب الاستنزاف التي شنتها مصر منذ عام 1968 1970 كان لابد أن نعمل على إضعاف السودان وانتزاع المبادرة منه لبناء دولة قوية موحدة رغم أنها تعد بالتعددية الإثتية والطائفية لان هذا من المنظور الإستراتيجي الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي
وقد كشفت عن هذا المنظور رئيسة الوزراء الراحلة (جولدا مائير) عن أن إسرائيل وعلى خلفية بعدها الجغرافي عن العراق والسودان مضطرة لاستخدام وسائل أخرى لتقويض أوضاعهما من الداخل لوجود الفجوات والتغيرات في البنية الاجتماعية والسكانية فيهما.
إن جميع رؤساء الحكومات في إسرائيل من بن جوريون وليفي إشكول وجولدا مائير وإسحاق رابين ومناحم بيجين ثم شامير وشارون وأولمرت تبنوا الخط الاستراتيجي في التعاطي مع السودان الذي يرتكز على تفجير بؤرة وأزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب وفي أعقاب ذلك في دارفور (...)
هذا الخط الاستراتيجي كانت له نتائج ولا تزال أعاقت وأحبطت الجهود لإقامة دولة سودانية متجانسة قوية عسكريا واقتصاديا قادرة على تبوأ موقع صدارة في البيئتين العربية والأفريقية
في البؤرة الجديدة في دارفور تداخلنا في إنتاجها وتصعيدها، كان ذلك حتميا وضروريا حتى لا يجد السودان المناخ والوقت لتركز جهودها باتجاه تعظيم قدراته. ما أقدمنا عليه من جهود على مدى ثلاثة عقود يجب أن لا يتوقف لأن تلك الجهود هي بمثابة مداخلات ومقدمات التي أرست منطلقاتنا. الإستراتيجية التي تضع نصب أعينها أن سودان ضعيف ومجزأ وهش أفضل من سودان قوى وموحد وفاعل(...)
صانعو القرار في البلاد كانوا من أوائل المبادرين إلى وضع خطة للتدخل الإسرائيلي في دارفور 2003 والفضل يعود إلى رئيس الوزراء السابق إرييل شارون. أثبتت النظرة الثاقبة لشارون والمستمدة من فهمه لمعطيات الوضع السوداني خصوصا والوضع في غرب أفريقيا صوابيتها. هذه النظرة وجدت تعبيرا لها في كلمة قاطعة ألقاها رئيس الوزراء السابق خلال اجتماع الحكومة في عام 2003 حان الوقت للتدخل في غرب السودان وبنفس الآلية والوسائل وبنفس أهداف تدخلنا في جنوب السودان(...)
لابد من التأكيد مرّة أخرى بأن قدر هام وكبير من أهدافنا في السودان قد تحقق على الأقل في الجنوب وهذه الأهداف تكتسب الآن فرص التحقيق في غرب السودان في دارفور".
ولتحقيق هذه الأهداف التي حددها وبوضوح آفي ديختر كان لابد من تطوير أساطير تُقَنّع الأهداف الحقيقية للمستعمرين الجدد بمساعدة ما أطلق عليهم دختر "الأذرع" و"الأدوات".
أهم هذه "الأذرع" و"الأدوات" دون شك هي مؤسسات المحافظين الجدد وعلى رأسها متحف الهلوكوست في الولايات المتحدة الأمريكية و"الإئتلاف من أجل العدالة الدولية" ومعاهد الأبحاث الصهيونية في إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكيةز
كان هناك مأزق لتبرير أسطورة الإبادة الجماعية في دارفور: عدد الضحايا.
فمن يطّلع على أرشيف الكونغرس الأمريكي وموقع وزارة الخارجية الامريكية يستنتج أنه كان هناك إجماعاً بين أعضاء الكونغرس ووزارة الخارجية الأمريكية بأن عدد "ضحايا العنف" منذ بدء الصراع في دارفور في مطلع عام 2003 و لغاية الخامس من أغسطس 2004 لم يتجاوز حسب تصريحات أعضاء مجلس الشيوخ ووزارة الخارجية الامريكية ال 30 ألف ضحية.
ونجد هذا العدد أيضاً في "مقالة رأي" نشرها مايك ديواين السناتور الجمهوري عن ولاية أوهايو وجون مكين السناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا في صحيفة الواشنطن بوست في 23 يونيو 2004 وأعيد نشرها في موقع وزارة الخارجية الأمريكية: "لقد تم تشريد حوالى 1,1 مليون شخص من منازلهم، ووصل عدد القتلى حتى الآن إلى ثلاثين ألف شخص".
أما السناتور كورزاين فقد طالب في المؤتمر الصحفي الذي عقده سام براونباك السناتور الجمهوري الذي يمثل ولاية كانزاس في مجلس الشيوخ وشارك فيه كل من النواب دونالد باين، وفرانك وولف، وتوم تانكريدو، واعضاء اخرون من تجمع النواب السود في 13 يوليو 2004:
"حان الوقت للكونغرس كي يتصرف وعلى أميركا ان تتصرف؛ فقد هلك اكثر من 30 الف شخص حتى الآن".
وفي 22 يوليو 2004 وبعد موافقة مجلسا الشيوخ والنواب بالكونغرس الأميركي على قرارين متزامنين ومتوافقين صادرين عن كل منهما، أعلن إد رويس رئيس اللجنة الفرعية لشؤون أفريقيا، وهو جمهوري من ولاية كاليفورنيا أنّ هذا القرار يشهد أنّ ما يقارب 30,000 مدني من الأبرياء قُتلوا بأسلوب وحشي.
وفي الكلمة التي ألقاها كولن باول وزير الخارجية آنذاك في الخامس من أغسطس في مؤتمر "يونيتي" بواشنطن رأى:
"إن التحديات الأخيرة في اقليم دارفور بغرب السودان، حيث قتل 30,000 شخص تقريبا منذ اندلاع التوترات العرقية في شباط / فبراير عام 2003، هي تحديات تتطلب عملا من جانب الولايات المتحدة وسنعمل بأقصى ما نستطيع مستخدمين كل طاقتنا لجلب مواد الإغاثة إلى الشعب السوداني".
هذه المعلومات التي أدلى بها باول كانت نتيجة معاينته الشخصية لما حدث في دارفور على أرض الواقع، فإبان زيارته اواخر يونيو 2004 اطّلع كولن باول شخصياً على الأوضاع في دارفور. وفي مقابلة أجرتها معه ميشيل نورِس من هيئة الإذاعة القومية الأميركية في الخرطوم بتاريخ 30 حزيران/يونيو2004 ، لخّص ماشاهده:
"سنحت لي فرصة التحدث إلى منظمات غير حكومية تعمل هناك، اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة أوكسفام ومنظمات عظيمة كثيرة أخرى، بالإضافة إلى موظفيّ في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (...) وأنا أكثر خبرة من أن أقوم بمجرد أخذ انطباع عن مخيم أخذني الناس لمشاهدته وأعتبر ذلك أساساً لفهمي (للمشكلة). لقد أجريت محادثات متعمقة جداً مع جميع قادة المنظمات غير الحكومية هناك. هناك الآن حوالى خمسة وسبعين مخيماً تحت إشراف دولي. وسيصبح ثلاثون مخيماً آخر تحت إشراف ودعم دولي خلال الشهر القادم أو ما قارب ذلك وتتمكن الأمم المتحدة، مع مرور كل يوم، من القيام بالمزيد في المنطقة من خلال إقامة مخيمات جديدة ووضعها تحت سيطرتها. ولكنني متأكد أن هناك مخيمات رديئة جداً ولا تشابه ما شاهدته اليوم بأي شكل. وأعرف أن هناك أناساً لم أرهم اليوم يقاسون من حاجة أكبر بكثير من الذين شاهدتهم".
وفي إجابته على سؤال نورس حول سبب نفور الحكومة من استخدام تعبير إبادة جماعية أجاب باول:
"لمَ نصفها إبادة جماعية. يشترط انطباق مواصفات قانونية على تعريف الإبادة الجماعية. إنه حكم قانوني. وبناء على ما شاهدناه حتى الآن لم تكن هناك مؤشرات تؤدي إلى تعريف قانوني بالإبادة الجماعية، وفقاً للمواصفات التي اشترطتها الاتفاقيات الخاصة بالإبادة الجماعية. هذه هي النصيحة التي قدمها الحقوقيون العاملون لديّ.
أثارت مقارنة نورس مايدور في دارفور بالمجازر التي حدثت في روندا ونفور الإدارة الأمريكية عن وصف ما يحدث في دارفور بالإبادة الجماعية بأنه يذكر برواندا غضب باول:
"إنه ليس كرها أو نفورا، ليس كرها. أنه بناء على الأدلة المتوفرة لا يرقى الأمر إلى التعريف المحدد للإبادة الجماعية، ليس كرهاً في ذلك أو نفوراً من ذلك (...) وحقيقة كوننا لم نصفها بالإبادة الجماعية لا يقوم على أساس كره لأن نفعل ذلك. إن هذه ليست رواندا قبل عشر سنوات؛ إنها السودان الآن".
لم يستطع باول الحفاظ على قناعته ففي افادة ادلى بها أمام لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ الأميركي في واشنطن في 9 ايلول/سبتمبر، 2004 ، اعلن وزير الخارجية كولن باول ان اجراءات حكومة الخرطوم ومن يتبعها، أي ميليشيات الجنجاويد، ضد السكان في دارفور هي بمثابة ابادة جماعية.
مستنداً إلى نتائج تحقيقات استكملتها وزارة الخارجية مؤخرا واجريت داخل مخيمات اللاجئين في تشاد وبمساعدة جمعية المحامين الأميركية و"التحالف من اجل العدالة الدولية"، حدد باول نمطا ثابتا وواسع النطاق من الفظائع مثل القتل واحراق القرى التي ترتكبها قوات الجنجاويد والقوات الحكومية ضد قرويين من غير العرب "والتي استنتجنا منها ان ابادة جماعية ارتكبت في دارفور وان حكومة السودان وقوات الجنجاويد تتحمل المسؤولية، وان الابادة الجماعية قد لا تزال جارية".
ما الذي دفع وزير الخارجية كولن باول تغيير قناعته التي عبّر عنها في مقابلته المذكورة؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال لابد أن نعود إلى استراتيجية المحافظين الجدد والتي عبّروا عنها في وثائقهم لفرض نظام هيمنة عالمي كان إعادة استعمار السودان جزء أساسي منه.
هناك مؤسسة حققت منذ عام 1979 نجاحا باهراُ في تطوير أساطير الهلوكوست والإبادة الجماعية وكجزء من هذه المؤسسة يوجد لجنة يطلق عليها "لجنة الضمير" يرأسها جيري فاولر وهو عضو قيادي في المنظمة الصهيونية ساهم بشكل فعّال ولعدة سنوات في تطوير ونشر أساطير الإبادة الجماعية في جنوب السودان. وحين قررت القيادة الصهيونية التدخل من أجل فصل دارفور- كما ذكر آفي دختر- نقل جيري فاولر مجال نشاطه من جنوب السودان الى تشاد حاملا معه أساطير الإبادة الجماعية في جنوب السودان إلى منطقة نشاطه الجديدة: دارفور.
كان من الطبيعي تكليف جيري فاولر الذي بدأ منذ أبريل 2004 بتنسق الحملة الهادفة الى التدخل العسكري في دارفور. وبالتعاون مع الإئتلاف من أجل العدالة الدولية الذي أسسته نينا بانج-جنزن وهي من قيادات المحافظين الجدد التي عملت ولمدة خمس سنوات مستشارة للسيناتور جوزيف ليبرمان المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل وهو أحد أنشط الداعين لغزو العراق. والتي تملك خبرات طائلة في تحضير وتبرير الحروب العدوانية كما فعلت في يوغسلافيا والعراق.
كلّف الإئتلاف المذكور (والذي يعرّف نفسه بأنه منظمة غير حكومية غير ربحيّة) من قبل وزارة الخارجية الأمريكية مقابل مكافئة قدرها مليون دولار بتأليف فريق تحقيق وإرساله إلى مخيمات اللاجئيين شرق تشاد. شكل هذا الفريق في مطلع يوليو 2004 حيث اقترح جيري فاولر أن يكون من بين أعضاء الفريق البرفسور ايريك ماركوزن والبرفسور صامويل توتن وهما عضوان في "معهد دراسات الهلوكوست والإبادة الجماعية" ومقرّه القدس المحتلة.
لم بتوجّه هذا الفريق الى مكان الجريمة المزعوم (دارفور) حيث تنشط عشرات من المنظمات الدولية "الغير حكومية" بل اتجهوا الى دولة مجاورة وهي تشاد. وبعد اسبوعين انهوا لقاءاتهم مع عدد من اللاجئين بتقرير رُفع الى كولن باول- وزير الخارجية الأمريكية آنذاك- اعتمد عليه في شهادته المذكورة أمام لجنة الكونغرس للشؤون الخارجية.
هكذا ولدت اسطورة الإبادة الجماعية في دارفور لتبرير الابتزاز المستمر للسودان والقرارات التي اتخذها مجلس الأمن في الولايات المتحدة لحصار السودان وفرض العقوبات عليه.
لقد ساهم بجانب إئتلاف "أنقذوا دارفور" العديد من معاهد ومؤسسات المحافظين الجدد في الترويج لهذه الاسطورة والمطالبة بغزو السودان حتّى لو تتطلّب ذلك الانسحاب من العراق تحت شعار "فلننسحب من العراق ونجتاح دارفور".
ان دراسة قائمة أعضاء إئتلاف "أنقذو دارفور" كما هي موثّقة في موقع الإئتلاف تثبت أنّ الأغلبية الساحقة لهذه المنظمات هي فروع للمنظمة الصهيونية العالمية. كما أنّ دراسة الميزانية السنوية لهذا الإئتلاف تثبت أنّ الإئتلاف يقوم بتمويل مؤسسات وفروع المنظّمة الصهيونية العالمية كما يشرف على نشاطات 46 منظمة عربية وعلى موقع "إفهم دارفور" باللغة العربية وأخيراً يقوم باستثمار ملايين الدولارات التي جمعها الإئتلاف لدعم فقراء دارفور لتمويل المستعمرات الصهيونية في الضفّة الغربية.
يؤكّد البروفسور كروبلين أنّ:
"الشعارات الإنسانية للإئتلاف هي مجرد أقنعة. لا يكترث أحد من هؤلاء لتحسين الوضع الإنساني في دارفور. وحسب معلوماتي لم يقم إئتلاف "انقذوا دارفور" بإرسال ولو دولار واحد إلى دارفور من الملايين الطائلة التي حصلوا عليها. وبدلا من إرسال المساعدات يقوم التحالف بنشر إعلانات على صفحات كاملة لتمويل جهاز ضخم من الموظفين وإنتاج الأفلام الدعائية، منها فلمان تم إنتاجهما بإتقان. هذه نماذج للحملة الدعائية التي يقوم بها التحالف، وبإستطاعة من يشاء أن يطلع على ذلك عبر الموقع الإلكتروني لإئتلاف المنظمات الصهيونية، للمؤتمر اليهودي العالمي ولمتحف الهولوكوست في واشنطن مصلحةٌ في صرف إنتباه العالم عما يدور في فلسطين وفي قطاع غزة على وجه الخصوص وكذلك ما يدور في العراق المحتل. وطالما تم إشغال الصحافة العالمية بأخبار مرعبة حول السودان، فلا مجال للحديث عن أمور أخرى تحدث فعلا وموثقة بدقة. الأمر الأخر هو سذاجة وجهل أوساط واسعة من المجتمع الأمريكي بمجريات الأمور. إن هؤلاء قد لا يعلمون أين يقع السودان. ناهيك عن دارفور. وهذا ما يسهل لتحالف "أنقذوا دارفور" للقيام بمهامه التضليلية".
وفي هذا المضمار كان ايريك ريفز –الذي لم تطأ قدماه السودان أو حتى تشاد- واحد ممن تمّ تسخيرهم ومنذ سنوات حصريّاً لتعميم اسطورة الإبادة الجماعية في دارفور من أجل تبرير المطالبة بغزو السودان. ولا غرابة أن يثير دونية هذا النشاط اشمئزاز العديد من القوى المناهضة للحروب العدوانية.
كان البروفسور شتيفان كروبلين واحد ممن عبّروا عن استيائهم من الإسلوب التحريضي الذي يمتهجه ريفز:
"إن نشاطات إيريك رييفز هي حقا وصمةُ عار. ولا يمكن التكفير عن تسخير عالِم نفسه بهذا الشكل في خدمة مجموعة سياسية. إنه شخصيا غير مختص في هذا المجال أصلاً. إن مجال إختصاصه كان قبل أن يتم إعفاؤه من عمله هو الأدب الإنجليزي. نشاطاته في هذا المجال يتم تمويلها من قبل إحتكارات كبرى. لقد أدلى بشهادته ولعدة مرات أمام لجان حكومية في الولايات المتحدة وقام بنشر هذه الإدعاءات المنافية للمنطق والتي لا يمكن إثباتها. لم يتواجد مرة واحدة في مكان الجريمة المزعومة. وريفز لا يملك الحد الأدنى من المعرفة حول الأسباب الحقيقية للصراع والمجموعات المختلفة التي تساهم فيه. على سبيل المثال من الممكن عبر تحليل صور الأقمار الصناعية معرفة حجم الدمار الحقيقي الذي حدث. من الممكن بمساعدة الوسائل الحديثة المتاحة الآن تحديد عدد ومكان القتلى ومن إقترف جريمة القتل. الحقيقة إنه وليومنا هذا لم تنشر صورة واحدة لمقبرة جماعية. رغم هذه الحقائق يقوم رييفز بنشر إدعاءات خارج نطاق المنطق وأنا آمل أن لا يصدقها عاقل. هنالك العديد من الأدلة على أن رييفز، ومن أجل إشباع شهوات زبائنه في الولايات المتحدة، تمادى في نشر تخميناته دون إمتلاك دليل واحد، وهذا ما لا يمكن التسامح معه" ويتابع كروبلين قائلاً:
" لويس مورينو أوكامبو يعتمد تماما المنهج ذاته، ولهذا من المفهوم جدا أن عددا كبيرا من الدول الأفريقية يعتبر هذه المؤسسة التي يطلق عليها المحكمة الجنائية الدولية محكمة العدل الدولية إختراعا قام به المستعمرون الأوروبيون الجدد . فالمحكمة تصدر أمر إعتقال بتهمة إرتكاب جرائم دون أن يتم أي تحقيق في مكان الجريمة المزعوم ، لم تستند المحكمة في إتخاذ قرارها إلى أدلة حقيقية. فلو اعتُمدت المقاييس الجنائية العادية فإنه لن يكون بالإمكان، استنادا إلى "أدلّة" أوكامبو، إثبات إرتكاب جريمة قتل واحدة.
تقدّم أوكامبو بطلب إصدار أمر إعتقال ضد رئيس دولة بتهمة إرتكاب جرائم إبادة دون التواجد في مسرح الجريمة المزعومة ولو لمرة واحدة، دون جمع الأدلة ، دون الإستعانة بالوسائل الحديثة مثل صور الأقمار الصناعية و دون الإستناد إلى التقارير الإستخباراتية التي هي في حوزة القيادات العسكرية الغربية. كل ذلك لدليل على أن هذه التهم واهية وتقف على أرجل زجاجية .
بعض التهم قبلت كما أعتقد بسبب إفتقاد القاضيات لرؤية شخصية. وهكذا تم إصدار أمر الإعتقال المنافي للمنطق في حق الرئيس السوداني. يتساءل العديد من السودانيين والأفارقة لماذا لا يتم رفع دعاوي ضد بوش وديك تشيني بسبب الحرب العدوانية على العراق والمنافية بشكل جلي للقانون الدولي والتي أدت إلى إبادة مئات الألاف من الضحايا وتشريد الملايين. ولماذا لا يتم رفع دعوات بسبب الجرائم والفظاعات العديدة التي ترتكب في أماكن عديدة من العالم بسبب الصراعات العسكرية التي تخوضها الدول الغربية؟ وهكذا يبدو جليا أن هذه الدعوة هي مثال على إنحيازية الإجراء الذي تم التحريض المباشر عليه من قبل الدول الغربية الكبرى والمؤسسات العلمية وعدد محدد من المدعين العامين في المنظمات الدولية".
وللتعرّف على مدى مصداقية السيد ريفز وكفائته العلمية يكفي إلقاء نظرة على إحصائياته حول أعداد مايطلق عليهم "ضحايا العنف في دارفور" وهذه النظرة توضّح جليّاً مايعنيه البرفسور كروبلين:
(في 12 ديسمبر/كانون الأول 2004 قدّر السيّد ريفز عدد الضحايا في دارفور ب 370 ألف ، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2004 بلغ عدد الضحايا حسب ريفز 400 ألف لينخفض في 10 فبراير/شباط 2005 الى 340 ألف،ويستمر في الإنخفاض ليبلغ في 17 فبراير/شباط 2005 300 ألف. في 14 يناير/كانون الثاني 2006 قدّر ريفز عدد الضحايا كما كان في 29 سبتمبر/أيلول 2004 ب 400 ألف ليرتفع عدد الضحايا ويبلغ في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2006 ال 500 ألف لينخفض مجددا الى 400 ألف في 2 مايو/أيّار 2007)
إن نظرة عابرة على هذه الأرقام تبيّن مدى تنافي هذه الإحصائيات لا مع أبجدية علم الإحصاء فحسب بل مع كل ما يمت للمنطق بصلة، مما يبرّر إطلاق مصطلح (بورصة ريفز) على المنتجات المميزّة للخبير ريفز.
هذه الإحصائيات المضللة هي جزء يسير مما تنتجه احتكارات الرأي للمحافظين الجدد والتي نجدها وعلى مدار الساعة في منتجات الإعلام الغربي ويتم تبنّيها من قبل معظم "الإعلاميين" الناطقين باللغة العربية.
يقول البروفسور كروبلين في إحدى مقابلاته:
"دافور مثل حي على أن الصحافة الأوروبية ليست أفضل من صحافة الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال في ألمانيا نجح ثلاثة سياسيين: غيرهارد باوم من الحزب الديمقراطي الحر، كيرستين مولر من حزب الخضر و السيدة فيتشوريك-تزويل من الحزب الديمقراطي الإشتراكي في رسم سياسة تبعتها دون قيد أو شرط بعض الصحف والمجلات من صحيفة التسايت عبر مجلة دير شبيغل وصحيفة زود دويتشى تسايتونغ. لقد تبنت هذه الصحف والمجلات الأخبار التي نشرت في الولايات المتحدة، أو قناة ال بي.بي.سي. دون أن تكلف نفسها عناء إجراء تقصٍ للحقائق على أرضها. إنني مستاءٌ للغاية أن أرى أن ما تقوم به كبرى الصحف الأوروبية هو تبني أطروحات إدارة بوش وائتلاف "أنقذو دارفور" مع أنه من السهل إثبات عدم صحة هذه المزاعم. هذا نموذج لصحافة لا تعتمد المهنية في تقصي الحقائق، وتتبع فقط مصالحها التجارية. وحتى الصحفيين الذين زاروا السودان والذين لديهم معلومات أفضل عنه يقولون إذا أرسلنا مقالاتٍ إلى هيئة التحرير نؤكد فيها عدم صحة ما يُنشر حول السودان، فلن يتم تكليفنا مرة أخرى بكتابة أي تقرير.
إلتقيت مرة في دارفور بصحفيين من صوت أمريكا من الذين إعتقدوا أنهم سيتعرفون فورا على معالم جريمة، وبعد أن إطلعوا على حقيقة الأوضاع ، سألتهم أثناء رحلة العودة: ماذا ستكتبون عن دارفور؟ كانت إجاباتهم متشابهه: إذا كتبنا ما شاهدناه فستكون تلك اخر مقالاتنا! إنهم سيكتبون ما تراه هيئة التحرير مناسبا. هنالك صحافيون تجولوا ليس في دارفور انما في الدول المجاورة مثل تشاد و هم للأسف لم يزوروا دارفور بل بحثوا عن صور لضحايا في مكان آخر تم نشرها مع تعليقات سبق أن أعدوها سلفا. لقد بحثوا عن صور لفظائع ما تتناغم مع التعليقات التي قاموا بإعدادها سلفا. وإذا لم يجدوا الصور المناسبة بحثوا عن أيّة صور تثير مشاعر سلبية.
إنه ليس من الصعب معرفة أو الإقتراب من الحقيقة إن أراد هؤلاء الإعلاميون ذلك ولكن هل يريدون معرفة الحقيقة؟ يقول كروبلين:
"السفير الألماني في الخرطوم أكد لي بأن هؤلاء الصحفيين الذين يأتون هنا لا يريدون معرفة الأوضاع كما هي بل القيام بتلبية المهمة المكلفين بها من هيئة التحرير. إن ولائهم ليس لأخلاقيات المهنة على الإطلاق. إنهم لا يقولون لأنفسسهم سأذهب إلى دارفور أجمع كل ما أمكن من المعلومات، أتحدث مع كافة الأطراف وأكوّن رأييى وأقوم بنشره. ما يحدث إنما شيء آخر، فالضغوطات السياسية و المصالح الإقتصادية تدفعهم لإنتاج أخبار الكوارث رائجة السوق. عدا ذلك فإن هنالك هيئاتُ تحريرٍ تخوض صراعا عنيفا من أجل البقاء، و لذلك فهي لا تمتلك الإمكانيات لإيفاد مراسلين لمدة شهر لإجراء التحقيقات الضرورية، و تكون محصلة ذلك كله هو الواقع الإعلامي الذي نشهدة والذي يتناقض تماما مع واجبات الصحافة الحرة الموضوعية. إن الحالة في دارفور والتي أتابعها عن كثب منذ عشرة سنوات هي نموذج صارخ على التضليل، إنه نموذج مخيب للآمال . لم أكن أتخيّل في البداية أن تستمر حملة التضليل في الإذاعات التلفزيونية والصحافة الأوروبية طيلة هذه السنوات. هناك عدد محدود جدا من المجلات مثل الغارديان التي تتوخى الموضوعية في تقاريرها حول أفريقيا. محرري الغارديان يعرفون السودان منذ عشرات السنوات حقّ معرفة. إنها من المصادر النادرة في الصحافة الأوروبية التي تمكن القارئ من الحصول على معلومات موضوعية حول حقيقة الوضع في السودان. ومن المؤسف أن يكون هذا المثال النادر من الموضوعية، ومنذ أمد بعيد، غير ممكن عبر صحافة التيار المهيمن في بريطاني فرنسا أو ألمانيا".
تعكس أبحاث البروفسور ستيفان كروبلين معرفة عميقة في التاريخ، السياسة والثقافة السودانية وكذلك في التوجهّات الرئيسيّة للسياسة الآوروبية. وهي على درجة عالية من الفعالية في التصدّي لهذا الكم الهائل من مراكز الأبحاث ، الصحف والمجلات ومؤسسات الإعلام الأخرى والتي تنتج يوميّاً آلاف الأساطير لتبرير مخططات فرض نظام الهيمنة كما تجلّى ذلك في أبشع صوره في غزو العراق ومايتجلّى يومياً أمام أعيننا في مخطط غزو السودان وتمزيق كيانه.
إنّني على قناعة بأنّ تعميم نتائج أبحاث البروفسور كروبلين على أوسع نطاق لايصب في صميم مصلحة السودان فحسب بل في صميم مصلحة حركة السلام في آوروبا والعالم. هذا يتطلّب بالضرورة ترجمة ونشر تلك الأبحاث التي تجسّد جهود أحد أهم العلماء الذي يحظى بمكانة مرموقة ليس فقط على الصعيد الآوروبي وإنما على الصعيد العالمي والذي تمكنه خبراته من التأثير على أوساط واسعة من المثقفين.
على صعيد المنطقة الناطقة باللغة الألمانية حصلت مؤسسة عالم واحد للبحث والإعلام على حقوق نشر كافة مقالات كروبلين الخاصة بالسودان وسيتم إصدارها مطلع العام القادم باللغة الألمانية وتتدرس المؤسسة إمكانية إصدارها باللغة العربية واللغات الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.