مناجاة طفل كردفاني كليم اللهم أغثنا برحمتك وفرِّج عن عبدك : إبن الرهد البروفسور عمر هرون الخليفة كم نحن مغرمون بنبذ تاريخنا القريب ومعجبون بماضي أجدادنا وأسلافنا البعيد . نهيل التراب ، ونفرغ النفايات على أمسنا قاصدين دفنه ونسيانه ... ثم تمضي بنا الأيام ، تحمل بعض الآلام . تشغلنا شواغل الحياة وتستهوينا ملذاتها القليلة العابرة ... وقبل أن تستغرقنا ، تداهمنا الخطوب وتتوالى علينا المحن فنفيق بأعين نصف مغمضة . وما يلبث أن يعاودنا الحنين الى هوايتنا الأولى المتغلغلة في أعماقنا. والمتأصلة في طبعنا فنمارسها بعشق أعمى ورغبة جامحة ، نابذين الماضي مكدسين الرمال ، جامعين الحصى ونصبها صباً في أمسنا القريب والذي كان يمثل أملاً كبيراً ظللنا نتشبث به قبل أيام قليلة ... وهكذا تمضي السنون ، تعقبها العقود ، ثم تلحق بها القرون. وتتبدل الأجيال وتظل ذات المفاهيم سائدة كأنما ورثوها مع جياناتهم وتقاليد أمتهم لأبنائهم فظلوا يرددونها جيلاً بعد جيل مع كثير من التبجيل . لا أدري ما الذي أصاب بلادنا ، وماذا حل بأهلها “ وأي جن أحمر يركب قادتها “ فهم يرددون كلماته ، ويمتثلون لطلباته ، وينصاعون لتعليماته . ومن ثم يجتمعون ليرقصون في بيت الدستور ، ومنه يفوح البخور وتضمخ الكون العطور فينكشف المستور ويطيب المسحور . فها هو أحدهم يرقص طرباً ، بجلباب أخضر واضعاً على رأسه طربوشاً أحمر ، وآخر يتوسط الدائرة بعمامته الصغيرة ، يهمهم ويتمتم ، بكلام لا هو بالأفرنجي فيترجم ، ولا هو بالعربي فيفهم . إنه لا يجيد غير وصف طلباته فهو يحفظها جيداً ، ويصر على تحقيقها دوماً ، حتى وإن لم تتناغم مع إيقاعات الدستور ، فهو يريد جبة الدمور وعصاة الكجور ، لجلب الصحة والرزق الموفور ، وطاقية أبو زنبور مجلوبة من وادى هور ، وطلب أخير بطة صغيرة من فرانكفور . يصفق الجمهور فهو مبهور بالراقص المشهور ، وفي ركن قصي ، جلس رجل دعِي ، يرتدي بدلة أفرنجية ، ويربط عنقه بكرفتة بنفسجية ، تتدلى فوق بطنه المطاطية ، والتي تتسع لطائرة برمائية ، بنطاله القصير مشدود بحزام أسود تتوسطه نجمة غرائبية ... تحت رجليه تئن جزمة بيضاء ، لم يلطخها طين ولا ماء فهي لامعة أنيقة مثل صفحة السماء ، وفجأة النور يضاء ، والقوم في رقص وهناء ، وشيخ الدستور يغمره الإنتشاء ، فيردد طلبات الساده الأولياء ، ويندس طفل صغير في خفاء ، ، ، أعينه الواجفة سحرها الضياء ، أذنه الرقيقة شنفها هذا الغناء ، وقف ، جال ببصره يمنة ويسرة ، أرخى السمع ... فما فهم ، كرر البصر ... فما علم ، أصوات غريبة تزاحم أذنه ، روائح عجيبة تغزو أنفه ، مشاهد جديدة تغرق عينيه ، وقف حائراً مندهشاً ، تعطل لديه السمع ، وذهب البصر ، فغاب الفهم . سقط على الأرض فلم يشعر به أحد . فالقوم بلهوهم ودستورهم منشغلون ، وللطلبات مرددون ، ونظارتهم في سعادة ونشوة يبحلقون ... بعد رقصة الرئيس الإنفرادية ، ختمت الوليمة الجماعية ، وأعلن الشيخ إنتهاء الحفل الساهر ، وإنفضاض سماره الأكابر ، الى ميعاد يحدد في الصباح الباكر ، فقام السادة الأماجد كل الى مرسيدسه الفاخر ، ، ، ، والقوم متفرقون وقع صاحب الربطة البنفسجية ، على الطفل ذو الأثمال البنية ، ، ، فشخط فيه ، ولعن أمه وأبيه ، ساعدوه فنهض ، أصلح هندامه وامتعض ، إرتعد وانتفض ، وقال : “ ده شنو ده ... ودخل كيف المصيبة ده “ وبصوت خفيض : “سيدي أنا في أرض كردفان ولدت ، وفي قريتي هناك نشأت ، أركب حمار جدي وأسرح بغنمي ، وفي عام جاف للعاصمة مع أسرتي نزحت ، ، ، ناشداً الأمن ، باحثاً عن الطعام ، والماء والدواء ، فسماء قريتي أصابها العقم ، وليس فيها قطرة ماء ، وها جسدي كما تراه يخلو من كساء ، ، ، فهل لي في جرعة ماء ؟ وطعام آخذه لإسرتي التي تسكن في العراء ؟ و. . . وضجيج محرك العربة المرسيدس ، وزمجرة إطاراتها المحتكة بالأرض في قسوة تولد غباراً اتخذ طريقه سريعاً الى أعين الطفل المرهقة . . . غرق وجهه الشاحب في الغبار المختلط بدخان العادم ، ، ، ومجلجلة تنطلق العربة من أمامه مخلفة له سحباً من الغبار ملأت منخريه وأحاطت بعينيه فسالت منهما دمعتان ، إحداهما تشكو الزمان والأخرى تسأل الرحمان أن يقتص له من حكومة السوء دان ورفع يديه قائلاً : رباه بلادنا عانت جفافاً ، ، ، وسوامنا صارت عجافاً ، ، ، ونحن هجرنا الأرض ثقالاً وخفافاً . دعوناك ربنا أن تنزل علينا مطراً منهمراً ، ، ، فجاء نا ليلاً ونهاراً ، ، ، منصباً منسكباً مدراراً ، ، ، عم المدن والبوادى وخضر الصحارى رباه أجبتنا وأنت نعم المجيب ، ، ، فأنت ملاذنا في كل كرب عصيب ، ، ، فبرحمتك نما الزرع ، ، ، وامتلأ الضرع ، ، ، ففرح العباد ، ، ، جماعات وآحاد ، ، ، ولكن الخير إنقطع بعد ان ساد فذات ليلة جاءنا نافخ الكِير والحداد هللوا وكبروا وإستفتحوا بالإبعاد ولما تمكنوا بنوا هذي الجياد ووزعوا العتاد تطاولوا في العِماد َونَصَّبوا كبيرهم علينا جلاد فانهدت خيمة الوطن وانتزعوا الأوتاد فتباً لحكومة السوء دان ماضغي الأكباد كالحة أوجههم كلها سوء وإسوداد فكم طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فصب عليهم سوط عذاب لقد نسوا إن ربك لبالمرصاد رباه ، ، ، رباه : يا من خلقتني من طين وماء ، ، ، وجعلتني بشراً سوياً ، ، ، اسعى برجلين ، ، ، وأرى بعينين ، ، ، ما يدور في هذا الوطن المكتظ بالأحداث والمآسي ، ، ، رباه : إنهم يموتون جوعى ، وغرقى ، وعطشى ، ، ، رباه : القتل عم الأرجاء ، ، ، والناس تحصدهم الأنواء ، ، ، اليوم فجرت قنابل ، ، ، وبالأمس دمرت منازل ، ، ، وأول الأمس شردوا وهجروا ظلماً وإفكاً ، ، ، رباه : لم أعد أحتمل كل هذا ، ، ، فأنت خلقتنا وحملتنا الأمانة ، ، ، ونحن لا نحب الخيانة . رباه : دبرني ، رباه بصرني ودثرني ، ، ، أنا عبدك الضعيف لا حول لي ولا قوة ، ، ، أسير بأمرك وأقف دونه ، ، ، حياتي بين يديك ، ، ، مستقبلي رهن إشارتك ، ، ، رباه : إني بك آمنت ، وبرسلك إقتديت ، ، ، وبالإسلام سعيت ، ولكنني إحترت ، ، ، وحيرتي تتجدد كل يوم وآخر ، ، ، وشكي يزداد ، ويقيني يضعف ، ، ، لا أطيق الخروج على مشيئتك ، ، ، ولكنهم جردوني ، وظلموني ، ، ، قتلوا في نفسي كل المعاني النبيلة ، ، ، وكل المشاعر الصادقة ، ، ، صرت ترساً يدور متى ما يريدون ، ، ، وكيفما يشاء ون ، ، ، حركتي تفكيري وعقلي مدفوعة تسير لغير ما أبغي . أوهمونا زيفا . . . اشبعونا بالإدعاءآت ، ، ، ملأوا بطوننا نفاقهم الذي يكتبون ويقولون ، ، ، وولًّدوا في نفوسنا حقداً وبغضاً وكراهية لما يفعلون ، ، ، رباه : إلهي ، يا من بيدك ملكوت السموات والأرض ، ، ، بأسمائك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم وبإسمك الأعظم اللهم أسألك الله الذي لا إله غيره ، ، ، اللهم دبرني ، بصرني ولا تكلني لغيري من الأعداء ، ، ، فيكفينا ما نشاهده ، ومانسمعه كل يوم ، ، ، كم يؤذينا فعلهم الذي لا نقدر على مواجهته أو تغييره إلا بعونك ومشيئتك ، ، ، فأنت الخافضُ ، ، ، وأنت الرافعُ وليس لنا غيرك نافعُ ... الهلاك هو المصير المنتظر لأهل الحق ، ، ، دعاة الرأي ومن يملكون البصر ، ، ، والضعاف العجاف في البوادي يموتون ولا حياة لصغار يبكون ، ، ، يمسون ويصبححون جرياً وراء ذلك الملعون ، ، ، فهم لا يجدون ما يقتاتون ، ، ، عجباً النمل يأكل النفايات ، ، ، وبقايا موائد إستجلب طعامها لأهل البنايات الأثرياء الأغنياء ، أحفاد الأشراف والنبلاء وتدور الأيام ويمضي النمل فتسد أمامه الطرقات ، ، ، ولا يحفل أحد بهذي الصرخات والآنات ، ، ، إنه الجوع يا ربي ، ، ، يا إلهي وهم عبيدك أبناء آدم وحواء ، ، ، بعضهم يؤمن بك ، وآخرون ينكرون حديث الأنبياء ، ، ، ويصمون الاذان وقت النداء ، ، ، رباه : إني ترس يدور ، ، ، إني قطعة من حديد ، ، ، آدمي عظمت في نفسه قيمة التوحيد ، ، ، ولكني صرت ألعوبة بين هؤلاء وأولئك المردة القساة العتاة الأنذال المناكيد ، ، ، قالوا لي : إفعل هذا ولا تفعل ذلك وإياك والسؤال ، ، ، يريدونني هكذا ، ، ، يصبون في جوفي الماء ، ، ، يدخلون في إمعائي ما يشاؤن من ألوان النفايات ، ، ، ويصرخون في وجهي انهض ودر ولا تشتم هذا الهواء ، ، ، إنه صوتهم ، إني أعرفهم وتلك هي نبرات غلاظ أصواتهم . رباه هذا الظلام الجاثم على العينين ، ، ، وهذا الإنقباض والشدة والعسر في الصدر أسألك أن يزولا . وإلا فإنَّا وهم هالكون ، ، ، وفي هلاكنا ضياع وخراب عظيم ، ، ، وأنت بنا وبهم خبير عليم ، ، ، رباه : لطفك الكريم ، ، ، وصفحك وعفوك لعبد كليم ، ، ، لا يريد النجاة وحده ، ، ، فهو آدمي الأب والجد شديد الإباء ، ، ، ولكنه لا يريد غير جرعة ماء للعطشى ، ، ، ولا يريد غير لقمة غذاء ، ، ، للجوعى ولايريد غير قطعتي حذاء وكساء للحفاة العراة وطلب أخير رباه : إنهم يفتقدون الهواء ، ، ، لقد جعلوه سلعة توزعها أسماء لأسماء ، ، ، أما ملتحفي الثرى ومتدثري نجوم السماء ، ، ، فيلجئون إليك يا صاحب الفضل والآلاء ، ، ، مشفوعة بصادق دعواهم وتقواهم ، ، ،: رباه دثرهم ، دبرهم وبصَّرهم ، ، ، فهم يريدون الحياة ، ، ، ولكنها صارت غولاً تفترس منهم الآباء كما الأبناء ، ، ، رباه : إنك أنت الحق الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ، ، أمطرنا عفوك وأغثنا بأمنك واجعلنا صادقين لك فيما انتويناه ما ظهر منا ، وما أنت أدرى به منا . عادل الأمير “ود الرهد “