يسعي الإسلاموعروبيون الأحرف تخريجاً من الأستاذ علي تاج الدين مساع حثيثة لتبرئة الشمال من أي مسئولية عن حروب الخمسة وخمسين عاماً وما جرته علي البلد المنهك مسبقاً من تعطيل لكافة أحلامه في الوحدة التنمية والرفاهية يحاولون صياغة روايات أقل تعاسة من رواية تاج الدين عن أسباب الحرب التي إشتعلت في جنوب السودان يحملون الجنوبيين فيها وزر إشعال الحرب وتجددها بذرائع تتجوهر كلها في ثابت واحد هو الحقد . أوقر النصاري نفوس الجنوبيين بالحقد فأشتعل السودان حرباً فوق حرب حتي قصمت القشة الظهر.. فلحت الآلة الإعلامية القوية للإسلاموعروبيين علي مدي عقود ست في تجذير قناعة الحقد هذه في تربة الوعي الشمالي مستغلة ظلال عامل التباين الديني واللغوي بين الشمال والجنوب وانطلت الحجة علي قطاعات كبيرة في الشمال تحت ضغط منابر الدولة الرسمية ومنابر الفعاليات الأهلية ومفوهيها (لا سيما المنابر الدينية الرسمي فيها والمدني) ساعد علي ذلك توفر عناصر مثالية لإنتاج نظرية مؤامرة (الإستعمار والخبث التنصيري) فهنالك بالفعل إستعمار بغيض وهنالك قوانين مناطق مقفولة استنها هذا الإستعمار البغيض لقطع الوصل بين الشمال والجنوب وهنالك أيضاً حركة تنصير ناشطة ( لكن عمداً تغاضت هذه المنابر الشمالية عن أي تأثير لوقائع أخري مؤلمة ويمكن أن تولد الكراهة أيضاً كتجارة الرق فلم تتصورها ضمن ما تصورت من أسباب وراء الغبن الجنوبي أو قفل الجنوب عن الشمال يداً بيد مع عناصر المؤامرة الأخري من تنصير ومصالح إستعمارية بل تم التغاضي والتقليل من شأن ومسئولية عمليات إسترقاق الجنوبيين في توليد هذا الغبن لأدني حد ممكن حتي أضحي الحديث عنها مؤامرة في حد ذاته وقصة كتاب عشاري محمد أحمد وسليمان علي بلدو ماثلة للأذهان ) .. ركزت الآلة الإعلامية الإسلاموعروبية علي الإستعمار وقوانينه ( ويا لها من زريعة ) كسبب يتيم للحرب تمت عبره زراعة الحقد في نفوس الجنوبيين ضد إخوتهم في الشمال .. ذلك الحقد الذي إخضر وعلت سوقه فكان حصاده حصاد الهشيم ..وكان الهشيم هشيم السودان.. وهاهو الزعيم السلفي المؤثر دكتور عبدالحي يوسف يشرح الحرب أو يكرر بصيغته ما رددته الجماعة الإسلاموعروبية علي الدوام عن الحقد الجنوبي الذي زرعه المستعمر في نفوس الجنوبيين ليتسبب في إشعال حرائق الجنوب ..يقول عبدالحي يوسف لمجلة البيان ( العدد 178) : ( إن الدعوة في الجنوب كانت ممنوعة عمدًا ، وبسياسة اتبعها المستعمر الإنجليزي النصراني الماكر ؛ حيث أقام في الجنوب ما عرف بالمناطق المقفولة التي يحظر على أهل الشمال دخولها ، ليعزل أهل الجنوب عن أهل الشمال ، وفي الوقت نفسه يسمح للمنصرين - بل سهل لهم وهيأ الأسباب - لنشر باطلهم ) - وإستمر يقول : ( وبعد رحيل المستعمر الغاصب خلفته حكومات علمانية لم تكن الدعوة من أولوياتها ولا اهتماماتها ، بل حصرت القضية في مفاوضات سياسية حول قسمة السلطة بين الجنوب والشمال دون أن تدرك أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير بسبب الحقد الذي زرعه المستعمر في نفوس أهل الجنوب تجاه أهل الشمال .. ) واضح أنه عند عبدالحي ومثله عند تاج الدين والباقين أن حرب الجنوب أسبابها نفسية ! حقد زرعه الإستعمار في نفوس الجنوبيين فطفقوا يفرغونه تمرداً ومذابح في الشمال وكأن هؤلاء المستعربون لم يسمعوا بثورات وحركات المقاومة الجنوبية ضد الإستعمار والتي سبقت ثورات الشماليين ضده بأكثر من عقدين في الزمان (الزاندي ثاروا ضد الإنجليز منذ العام 1901 ثم تبعهم علي التوالي النوير والدينكا في ثورات متتالية. . يتصور عبدالحي يوسف أن الحل بسيط مثل سببه فلو أن الإستعمار كان قد خلي بين الجماعة الإسلاموعروبية وبين التبشير للغة العروبة ودين الحق لما ولد الحقد بدءاً وما كانت حرباً ..وهذا ما باشرته طلايع الإنقاذ التوحيدينية بمجرد ما إستولت علي السلطة متسلحة بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن وأن مشكلة الجنوب هي مشكلة نفسية ثقافية وليست مسائل تهميش سياسي إجتماعي وإقتصادي !!! تصور التوحيدينيون أن الفرصة المنتظرة قد واتت الشمال لتعريب وأسلمة كبيرين بالجنوب وجهزوا دبلان العمائم التي لبسها من قبل منقو أجاك وعلي تميم فرتاك للإحتفاء بالتعريب والأسلمة المنتظرين إذ بهما تزال كل الضغائن التي أسبابها الفوارق اللغوية والدينية (وليست المعيشية) فُانفقت الأموال وجيشت المنظمات من منظمة السلام والتنمية لمنظمة البر ووكالة الإغاثة الإسلامية ومنظمة الدعوة وغيرها للتبشير بالجديد الذي لا أرض قطع ولا ظهراً أبقي في الوقت الذي كانت أساطير الدبابين والطير الأبابيل وكرامات محمد أحمد عمر ، محمود شريف ، علي عبدالفتاح ، المعز عبادي ، ماجد كامل ،عوض عمر ، عبيد ختم وأحمد البشير أيقونات للشهادة تزلزل الأرض تحت أقدام الكفرة والإمبريالية .. إن البحث في المظالم والقضايا الجوهرية التي ظلت تثيرها حروب نصف القرن في الجنوب (وهي بالقطع ليست الحقد الجنوبي علي الشماليين) هو الطريق الوحيد لمعرفة حقيقية بما جري ويجري ليس عن حرب الجنوب فقط بل حروب كل السودان...و ليست حروب الماضي فقط بل حروب الحاضر والمستقبل أيضاً...وإستيعاب لماذا يشتد أوار الحروب في السودان الآن (مع وصول أشرس صيغ آيدلوجيا الإسلاموعروبيين للسلطة فتوسيعها من رقعة التناقضات والحروب )... مثل هذا البحث هو ما سيأخذنا إلي منطق التأزمات المشترك ذلك المنطق الذي يحكم كل المظالم التاريخية في السودان. لأنها لا تقتصر علي الجنوب فقط وإن كان الجنوب يمثل فيها الشكل الأكثر حدة وبروزاً لكن للمظالم الإقتصادية وفروعها الثقافية والنفسية أوجه إستوطنت المركز و الهوامش في السودان بنسب تختلف حسب معايير التراتبات الإجتماعية وإحتكارات الموارد وقسمتها وما تغذيها من أبعاد التقاطعات الثقافية وعلي رأسها الدين واللغة .. إن الحقوق والأنصبة الإجتماعية لمختلف الأقاليم والجماعات تحددها الشرائح صاحبة النفوذ في المركز السوداني المعني بتقنين العلاقات علي مستويين بارزيين للحياة ....حياة المحظوظين وحياة المنبوذين... إذ تجري بينها التناقضات لحد التأزم مع إختلاف شروط التأزم من مجال لآخر ومن مركز لهامش....تراتبيات عجيبة مريبة ظلومة ....هل زرت أخي تاج الدين الإنقسنا أو جبال النوبة ؟ لو فعلت لأدركت بالفعل من هو المستغفل !!! وعرفت أكثر ما عجل بإنفجارها في تمردات إنضمت لتمرد الجنوب و عرفت أكثر عن أسباب ما تبعها من تمردات في مناطق الفور والزغاوة البجة ... كأنما المسألة كانت مسألة وقت ليس إلا لوصول التأزم لمرحلة التمرد والحرب لأن عوامله تعمل علي السطح وأعماق الواقع الإجتماعي بنشاط متزايد .. لذا بينما كان الإسلاموعروبيون مشغولون بالتمرد الجنوبي علي سلطانهم وأطرهم الثقافية التي حاولوا حبس الوطن المتنوع الكبير داخلها وهي جزء منه وليس العكس تفاجأوا بإنفجارات جديدة في غرب السودان وللمهزلة أن علي رأسها يحي بولاد الذي كان أحد أبرز كوادر التوحيدينية الإسلاموعروبية حتي قدمته لرئاسة حكومة الطلاب في جامعة الخرطوم وأعقبه خليل إبراهيم أبرز كادر سياسي إسلامي علي الإطلاق يمر علي جامعة الجزيرة والمحارب المتمرس في صفوف التوحيدنيين العروبوإسلاميين في جنوب السودان عندما كان يصدق فرية أن القضية قضية أحقاد دينية ونفسية وليس مظالم إجتماعية ولكن عندما وطئت رجليه جمر هذه المظالم وسط أهله كانت أقوي من كل فنتازيا الدين الإنقاذي فتحول قائداً لتمرد آخر وخطير يأتي هذه المرة من مسلمين لا تجوز عليهم فرية البواعث التنصيرية هزوا عرش المركز وصلفه حتي بدأ في الإعتراف التدريجي بأن هنالك أسباب حقيقية للتمردات وأن هنالك بالفعل تهميش ومظالم تاريخية تسببت فيها جماعته الإسلاموعروبية وبدون حلول عادلة وفهم عادل للمشاكل والقضايا التي يثيرها الأخوة في أطراف الوطن والإنصات لهم في إطار المصالح المشتركة مع الإستعداد لتغيير معايير التبادلات فيما يعني الحقوق الإجتماعية وما تفرع عنها من إستحقاقات علي مبدأ حياة كريمة أو لا حياة وسط ظروف مذلة للعيش بكل الأطراف وفساد يزكم الإنوف وسط التيارات المتنفذة وجيوبها بالأقاليم لن تكون هنالك حلول ولن يكون سلام .. وللأسف فالنظام لا يتعلم ويستمر في خبثه عبر زراعة الفتن بين الجماعات المحاربة له عبر إتفاقات الخداع وإختلاق أجسام كرتونية علي رأسها من يتم خداعه بأن تحل القضية عبره ويملّك السلطة أو يرشي بهدف تأزيم الخصم لكنه يأزم الحل وليس الخصم فللخصم قضية عادلة وليست شخصية .. يقرأ كثير من الإسلاموعروبيون حرب الجنوب كأنها إبتدأت في توريت مع تنسيبها لذلكم الحقد جنوبي المذكور أعلاه .. .أقتطف مما كتب العميد أمن معاش محمد الفاتح عبد الملك في عدد الأمس من جريدة الوطن (العدد 2855) ما يلي : لنعود لبداية الأحداث التي شهدتها توريت فجر 18 من أغسطس 1955 فقد كان مقرراً وحسب ترتيبات الاحتفالات بجلاء القوات الأجنبية عن السودان أن يشترك البلك الثاني بحامية توريت في الاحتفالات بالخرطوم ولما كانت المعلومات متوفرة عن احتمال تمرد البلك الثاني فقد كان الاميرلاي اسماعيل بك سالم قائد الفرقة الاستوائية متواجداً في ميدان الطابور للاشراف على ترحيل البلك لجوبا ومنها للخرطوم.. وتحوطاً فقد أصدر قائد الفرقة تعليماته على النحو الآتي: 1- ان تصرف للبلك الأسلحة فقط دون الزخيرة. 2- يتم صرف الأسلحة على دفع لكل بلتون منفصل وبعد رحيله يصرف للبلتون الذي يليه. بعد أن صرف البلتون الأول أسلحته رفض التعليمات بركوب العربات وعاد لميدان الطابور وبدأ عند ذلك حدوث اضطراب كبير في صفوف البلك مما حدا بقائد الفرقة الاميرلاي اسماعيل سالم باصدار أوامر بالغاء السفر، ولكن كان الأوان قد فات فقد هجم أفراد البلك على مخازن السلاح والزخيرة وتم كسرها والاستيلاء على ما فيها من أسلحة وذخائر وهكذا عمت الفوضى وأطلقت النار على القائد نفسه إلا أنه نجا وأصيب البمباشي بانقا عبدالحفيظ وأستشهد في الحال وقد أفلح الاميرلاي اسماعيل سالم والبكباشي محجوب طه من الخروج بسلام بلغ الضحايا في أحداث الجنوب 336 شمالياً و75 من الجنوبيين.. كل ذلك العدد دفع ثمن سياسة المستعمر تجاه الجنوب والتي بدأت مع بدايات القرن التاسع عشر.. وقد كانت الشرارة التي أشعلت الفتيل سريان اشاعة وسط جنود الفرقة الاستوائية ان من سيذهبون للشمال لن يعودوا مرة أخرى للجنوب.. وان الجنود الشماليين سيحلون محلهم ولن يعرف ما سيحل بأسرهم وأطفالهم هذا ولم يقتل من الأجانب المقيمين في جنوب السودان سوى رجل أو اثنين وعن طريق الخطأ كما لم يمس بأذى أي من المبشرين المسيحيين..وكعادة الإسلاموعروبيين لم يكلف الكاتب نفسه الرجوع بالتاريخ سنتين للوراء ليتذوق طعم الخذلان المر الذي تجرعه الجنوبيون وهم يشاهدون الشماليون يستبعدونهم كلياً من التفاوض مع الحكم الثنائي حول تقرير المصير كأنهم علي أفضل التأويلات غير معنيين بتقرير مصير السودان شماله وجنوبه أو أنه صوتهم غير مرغوب فيه في ذلك التفاوض الذي نتجت عه إتفاقية محبطة للجنوبيين ثم يقرأ علي ضوئه حجم الشكوك من قرار إعادة تنظيم القوات المسلحة الذي بموجبه ينقل العساكر الجنوبيون للشمال في سقرقة واضحة يبقي بموجبها عساكر شماليون في الجنوب مما يفتح الباب واسعاً أمام التكهنات والمخاوف ويفسر لماذا توجست الفرقة من قرار ترحيلها شمالاً...