أثارت أحداث إنجلترا في الأسبوع الماضي الكثير من الدهشة لدى المراقبين. لم يكن سبب الدهشة أن المجتمع الإنجليزي خال من الأمراض الإجتماعية، فالواضح أن ذلك المجتمع يعانى من أمراض إجتماعية سببها صعود التيار اليمينى المحافظ ، والذي لم ينجح فى الفوز بثقة الناخبين فحسب، بل أيضاً فى إقصاء القيادات اليسارية عن دفة القيادة فى الأحزاب العمالية، وما أدى إليه ذلك من تفكيك لمؤسسات دولة الرفاهية. وقد ضاعف من أثر ذلك عدم قدرة المجتمعات الأوروبية على إحتواء التوترات العرقية والدينية، تحت القيادة السياسية المحافظة، وأخيراً سقوط الإقتصاد الرأسمالى تحت وطأة أزمة إقتصادية لا تلوح لها نهاية حتى الآن. رغم أن كل ذلك كان بادياً للعيان، إلا أن كمية العنف الذي ظهرت في أحداث الشغب، فاجأت الشعب الإنجليزي نفسه، قبل أن تفاجيء العالم، فلم يكن هنالك من يصدق، أن ذلك المجتمع المسالم المنضبط، قادر على إنتاج كل ذلك العنف. عندما بدأت مشاهد الحرائق فى المدن الإنجليزية العريقة تتوالى على المشاهد، تحول الإندهاش إلى سخط وردة فعل غاضبة شعبياً ورسمياً. بدأت الشرطة فى إتخاذ إجراءات أكثر حزماً فى مواجهة الغوغاء، نجم عنها إعتقال 1600 شخص في يوم واحد. كان ذلك رد فعل مطلوب من الشرطة، ولكن ما يثير الدهشة هو ردة فعل القضاء الإنجليزي تجاه تلك الأحداث، والتى أدت لأن تستمرالمحاكم تعمل طوال ساعات النهار والليل، ، حيث تمت محاكمة ثمانمائة من أولئك المتهمين والحكم عليهم في الأربعة وعشرين ساعة التي تلت القبض عليهم. كان ذلك شبيه في نظري بمحاكم العدالة الناجزة أو العاجزة – لو شئت - التي أنشأها نميري، أو بمحاكم النظام العام، والتى ما زالت تحاكم الناس وفق إجراءات إيجازية، تحتاج لكثير من الخيال لتتوهم فيها العدالة. أن يقبل القضاء الإنجليزي العريق، أن يتخلى عن مفاهيمه فى العدالة، والإنصاف، والوجدان السليم، ويستجيب للضغوط الشعبية التى أرقتها صور العنف فى الإعلام، فباتت تتحرق لمحاسبة المتورطين فى الشغب، هو ما عجزت عن فهمه. أنا لا أتعاطف مع من يثبت تورطه في جرائم الشغب، ولكنى أتعاطف مع أي شخص تجري محاكمته في أثناء الليل، دون أن يُعطى فرصة لتحضير دفاعه، ودون أن يكون في حالة ذهنية تمكنه من الدفاع عن نفسه. يقول إيان كيسى رئيس لجنة القانون الجنائي في جمعية القانون، وهي النقابة التي تضم فرع من فرعي المحامين الإنجليز، كيف يمكن لنا أن نعمل طوال الليل والنهار لنساعد موكلين هم أنفسهم أكثر إرهاقاً منا. ألا يؤدى ذلك لأن يفوتنا، أو يفوت القاضي الإنتباه لجزئية تكون مهمة للتوصل للقرار الصحيح في الدعوى . وما يقوله كيسى صحيح من حيث أن تلك المحاكمات، تتطلب من متهمين في سن صغيرة، أن يتخذوا قرارات مصيرية في الدفاع عن أنفسهم، وهم في حالة من الإنهاك الجسدي والذهني لا تتيح لهم فرصة تفكير متزن. القضاء الإنجليزى القائل بأن تعطيل العدالة هو إنكار لها، يتوجب عليه أن يري أن السرعة لا تعنى التعجل، فالعدالة المتعجلة هي عدالة الغوغاء، وهى عدالة خشنة ليست بأحسن من إنكار العدالة. ها نحن نرى أنه ليس فقط الغوغاء الإنجليز يتعلمون من نظرائهم في دول العالم الثالث، بل أيضاً المؤسسات البريطانية العريقة أصبحت تقتفي أثرنا، فتقدم العدالة في شكل وجبات سريعة. نبيل أديب عبدالله المحامى