ظل الواقع الإقتصادي السوداني يشهد، منذ حوالى ثلاثة عقود، تدهوراً مريعاً ينبيء بكارثة إقتصادية في المستقبل المنظور، لا تخطئها عين المراقب لهذا الواقع. و قد كان من المفترض، و الحال تلك، أن تقوم الدولة و القائمون على أمر الإقتصاد بالبلاد بالتعاطي مع ذلك الواقع بالقدر المطلوب من المسؤولية بغية تمهيد الطريق لمحاصرة التدهور المشار إليه و لجمه، قبل إستفحاله، ثم القيام، من بعد، بالسعي الدؤوب الهادف لحل المعضل الإقتصادي عبر عقد "مؤتمر إقتصادي جامع" يقوم بتشريح المشكلة تشريحاً وافياً بغية إستكشاف آفاق الحل الشافي لها. و من الضروري بمكان أن يُعهد أمر التنقيب عن حل لهذه المشكلة، من خلال المؤتمر المشار إليه، لذوي الإختصاص من الإقتصاديين الذين يتعين على الدولة أن تطلق يدهم و تمنحهم كامل الحرية في قدح زناد فكرهم، ثم تأخذ بما يتوصلون إليه من نتائج و توصيات و وصفات علاجية للعلة الإقتصادية التي طال أمدها حتى تجلت تراكماتها بصورة جعلتها تطفو على سطح الواقع الحياتي للمواطن بشكل كارثي. غني عن القول أن "التردي" الذي يسم الواقع الإقتصادي لبلادنا لا يحتاج لشواهد، في ظل وجود المؤشرات الكثر الدالة على وقوع إقتصادنا في مستنقع التدهور الشامل. و ليس أدل على ذلك من معدلات الفقر العالية و الحالة المعيشية الضنكة للمواطن السوداني و تدهور سعر العملة المحلية مقابل سعر العملات الصعبة فضلاً عن الغلاء الطاحن الذي إستشرى بصورة غير مسبوقة. من جهةٍ أخرى، لما لم تقم الحكومة بما يلزمها القيام به من إجراءات و حراك فاعل للحد من تفاقم الوضع الإقتصادي، حسبما تدلل على ذلك ديمومة هذا الوضع و تعقيداته، فقد أخذ الوضع يزداد سوءاً حتى بلغ التردي ذروته بعيد إنفصال جنوب السودان، جراء ذهاب النسبة الكبيرة من عائدات البترول السوداني إلى دولة الجنوب الوليدة. و لما لم تقم الحكومة، كذلك، بالترتيبات الضرورية لمقابلة الوضع الجديد الذي بدا حرجاً أكثر من أي وقتٍ مضى، لتدارك ما يمكن تداركه، فقد أصبح الواقع موسوماً بما يسمى في علم الإقتصاد بالتضخم الجامح Runaway Inflation"". و يؤكد واقع الحال أن الحكومة قد إعتمدت نهجاً غريباً في التعاطي مع الواقع الإقتصادي المأساوي هذا، مؤسس على اللامبالاة و إدارة الظهر للتفاعلات الإقتصادية السالبة، غير عابئة بتداعياتها الآنية و المستقبلية. و يغذي هذا النهج، دون ريب، الطبع الإستعلائي للحكومة التي يبدو أنها عقدت العزم على إدارة الشأن الوطني بمفردها و ذلك وفق رؤية أحادية إختزلت معها الوطن في " شخصها، في حين أنه يمكنها الإستفادة من الخبرات التراكمية للخبراء الإقتصاديين السودانيين غير المنتمين إلى حزبها و الذين سوف لن يبخلوا عليها بالرأي السديد و بذل النصح من أجل مصلحة الوطن متى ما لجأت إليهم. و على أيِ فقد بدا الوضع الإقتصادي العام، في السنوات القليلة الماضية، مصطبغاً بالتدهور و الفوضى الهدامة"Destructive Chaos" التي لم تستطع معها الدولة السيطرة على زمام الأمور. كما غدا النشاط الإقتصادي، تبعاً لذلك، بمنأى عن تحكم الدولة بعد أن صار نهباً لآليات السوق و فوضاه التي لا تخضع لقانون أو رقابة. و في تقديري فإن المسؤولية الأخلاقية تفرض على الدولة أن تتعامل، منذ بروز الأزمة الإقتصادية، بالجدية اللازمة الهادفة للحيلولة دون التداعيات المتوقعة لهذه الأزمة كي تعمل، على أقل تقدير، على تخفيف وطأتها على المواطن. لذا كان على الدولة أن تتبنى إقامة مشروعات إقتصادية إسعافية تستهدف الإنتاج، لا سيما الإنتاج الزراعي و الذي تتوافر مقوماته بالسودان، بحسبان أن الإنتاج هو عماد الإقتصاد الراسخ و القوي. و يتعين عليها تخصيص ميزانية مقدرة للإنتاج الزراعي Agricultural Production" "، علماً بأن هذا الأمر لا يتأتى إلا إذا توافرت الإرادة الحقة للدولة للنهوض بالإقتصاد عبر الإصلاح الإقتصادي الشامل ثم قامت بخفض العديد من بنود الصرف الحكومي التي يندرج بعضها في خانة إهدار المال العام في ما لا طائل من ورائه. و من عجبٍ أن تتحدث الدولة عن النمو الإقتصادي و تعتمد، في ذات الوقت، في إقتصادها على الضرائب و الجبايات المختلفة و غيرها، ضاربةً بالإنتاج و التنمية الزراعية و كذا التنمية الصناعية عرض الحائط في حين أنها تمثل أس الإقتصاد الراكز. إن مما يؤسى له، حقاً، هو أن تزخر بلادنا بموارد عديدة و متنوعة تفتقر إليها بلدان عدة، في حين يظل إقتصادنا موسوماً بالعجز و الشلل التامين جراء سوء إدارة هذه الموارد. يقول عالم الإقتصاد، محبوب الحق، إنه لا يؤمن بشيء إسمه أرض جدباء، غير منتجة بل يؤمن بإنسان تتوافر له الإرادة الخلاقة المسنودة بالقدرة على التخطيط الواعي و المبدع، فيقوم بترجمة ذلك إلى فعل ملموس تتحول معه الصحراء إلى أرض منتجة. فإذا كان هذا هو حال الأرض الجرداء، وفقاً لرؤية هذا العالم، ماذا سيكون عليه حال أرض كأرض السودان الغنية بالموارد على سطحها و باطنها إذا أُديرت مواردها على نحوٍ إيجابي. دار نقاش بين إثنين من رؤساء أمريكا، أحدهما رئيس سابق و الآخر كان الرئيس الحالي "وقتها" حول ما إذا كان "الإقتصاد" أو "الإدارة" هو العامل الحاسم في تطور الشعوب، فتوصلا إلى حقيقة أن الإدارة و ليس الإقتصاد هي ذلك العامل الحاسم، بإعتبارها تعمل على تنمية الموارد و من ثم النهوض بالإقتصاد أو العكس، و ذلك وفقاً لما إذا كانت هذه "الإدارة" بناءة أو هدامة. و تبعاً لذلك فإن إدارة الموارد الشحيحة بصورة عبقرية ستعمل على تنميتها، كما أن الإدارة السيئة للموارد الوفيرة ستقضي عليها و تقود إلى إقتصاد كسيح. إن إقتصادنا يحتاج، اليوم قبل الغد، إلى "مشروع مارشال"، إذا صح التعبير، حتى يتم تأهيله و النهوض به، و كل ما هو مطلوب، في هذا الصدد، هو قيام الحكومة بمبادرة لعقد المؤتمر الإقتصادي المشار إليه في صدر هذا المقال، إذا كانت تنتوي فعلاً إنتشال الإقتصاد من واقعه الحالي. وبجانب عقد المؤتمر فإن ثمة ضرورة لقيام الحكومة بالخطوات الآتية التي تعد داعمة للإقتصاد. - خلق بيئة إستثمارية جاذبة فضلاً عن سن قوانين و إجراءات تحفز المستثمر و تمهد له السبيل للإقدام على الإستثمار بكل ثقة. - ترجمة توجه الدولة لمحاربة الفساد، إذا كانت فعلا تنتوي محاربته، إلى فعل حقيقي تكون محصلته القضاء على الفساد و بالتالي حماية المال العام من التعديات. - القضاء على الترهل الحكومي عبر تقليص الوزارات الإتحادية و الولائية مع خفض الأعداد الهائلة من الدستوريين و كذا إلغاء بنود الصرف غير المرشد مع وضع حد لإهدار المال العام. - القيام بحراك جاد و فاعل و مخلص لوضع حدٍ للحروب الدائرة بمناطق مختلفة من القطر، بإعتبارها تمثل أكبر مهدد للإقتصاد. - تنمية الصادرات السودانية بالقدر الذي يمكّنها من الإسهام الفاعل في الدخل القومي. و لكي تؤسس الدولة بنية تحتية تهدف لخلق إقتصاد راسخ يتعين عليها، في الوقت الحاضر، إقامة مشروعات إسعافية تستهدف الشرائح الفقيرة فضلاً عن إستهدافها لتأهيل البنية الإقتصادية عبر تنمية تنتظم كل أرجاء البلاد، مع إعطاء أولوية للتنمية الريفية "Rural Development" ذات المردود الإيجابي الملموس، في إطار النهوض بالريف، حتى يكون داعماً حقيقياً للإقتصاد القومي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.