انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    مشاد ترحب بموافقة مجلس الأمن على مناقشة عدوان الإمارات وحلفائها على السودان    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن تسليم الدفعة الثانية من الأجهزة الطبية    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    شمس الدين كباشي يصل الفاو    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    سوق العبيد الرقمية!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي الطيب صالح في عيون الألمان! .... بقلم: حامد فضل الله
نشر في سودانيل يوم 17 - 02 - 2010


Hamid Fadlalla [[email protected]]
بصدور رواية "بندر شاه" عام 2001 اكتمل نشر روايات الطيب صالح الثلاث (موسم الهجرة إلى الشمال، عرس الزين(1)، بندر شاه) وقصصه القصيرة التي جمعت في كتاب بعنوان "حفنة تمر"، عنوان إحدى قصص المجموعة والتي ترجمت الى الألمانية وصدرت بعد أكثر من ثلاثين عاما منذ صدور روايته الأولى "عرس الزين"/ بيروت عام 1966.
في هذا المقال استعراض موجز لما سطرته أقلام بعض الكتاب والنقاد على الصفحات المتخصصة بالأدب في بعض الصحف والمجلات الألمانية وذلك بعد الاحتفاء والترحيب الكبير برواياته من الكتاب والقراء.
صورة الأوروبيين في قصص ومسرح الأدب العربي الحديث،
روتراود فيلاند (2)Rotraud Wielandt
إن رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح شكلت لدى العديد من الباحثين والنقاد الأوروبيين مدخلاً لدراسة آثار الاستعمار على الصعيد الاجتماعي والثقافي التي ما زالت تربط بين البلدان الأوروبية وشعوب مُستعمراتها رغم الاستقلال السياسي لتلك البلدان المُستعمرة.
وتتميز شخصية بطل الرواية مصطفى سعيد بانفصاميتها إذ أنه يحقد على الاستعمار ويرغب في الانتقام منه. لقد فقد نفسه أي هويته ووحدة شخصيته للأبد تحت تأثير ثقافة المستعمرِين أثناء دراسته في بريطانيا، كما أن انتقامه من الاستعمار عن طريق غزواته الجنسية باغتصاب النساء الانجليزيات ودفعهن إلى الانتحار لا يغير من واقعه شيئاً، إنه انتقام العاجز، وحتى عودته إلى الوطن ومحاولة بناء حياة جديدة مستفيداً مما اكتسبه من معرفة تمنى بالفشل لأنه لا يتمكن من الخلاص من آثار الماضي وتنتهي حياته بشكل مأساوي، وبذلك يبقى هو أخيراً ضحية مجمل وضعه التاريخي .
على نقيض ما يمثله مصطفى سعيد كانت شخصية الراوي الذي درس أيضاً في بريطانيا بعد استقلال السودان، أكثر توازناً، فهو مختلف عنه في أفق تجربته وتقييمه ونقده للاستعمار:
إن الأوروبيين ليسوا أعداء سياسيين بالوراثة والأفارقة ليسوا بالمغتصِبين ولا المطالبين بالثأر، لا عداء تاريخي.
تُختتم الرواية بمغادرة الراوي غرفة غريمه مصطفي سعيد ويسيطر عليه الغيظ والحقد وتقوده قدماه إلى شاطي النيل، يدخل الماء عارياً سابحاً نحو الشاطي الشمالي ويقاوم قوى التيار الذي يشده إلى القاع بكل ما يملك من قوة وعزيمة رافعاً قامته في محاولة للبقاء على السطح وهو في حالة بين الحياة والموت وفي منتصف الطريق بين الشمال والجنوب.
إن الخاتمة الرائعة والتي لا تتعدى ثلاث صفحات مبنية على رمزية مكثفة غير عادية بجانب طريقة السرد المحكم بما فيه من تشويق وإثارة عبر العديد من صفحات الرواية، تكشف من خلال الشخصيتين الرئيسيتين عن أزمة ومأساة ومسار المثقف السوداني بين التمسك بالقديم والانفتاح على الجديد. وتعكس العلاقة المستجدة بين السودان وبريطانيا على المستوى الثقافي بكل أبعاده والتي تعتمد في أساسها على القيم المشتركة بين الشعوب بغض النظر عما تركته العلاقات السياسية الاستعمارية السابقة من آثار سلبية والتي لا يمكن التحرر منها بين يوم وليلة.
وتحت عنوان "الإنجليزي الأسود على ضفاف النيل، موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، رواية كلاسيكية لأدب ما بعد الكولونياليه تكتشف من جديد"
كتب هانز بيتر كونش(3) Hans-Peter Kunisch
" .... فالرواية، ومنذ نشرها لأول مرة في منتصف الستينات توطدت "ككتاب مقدس" في أوساط المثقفين وهي الآن في مصاف الأدب العالمي، ولفترة طويلة وقبل أن يصدر صاموئيل هانتنغتنSamuel Huntington كتابه "صراع الحضارات" تطرق الطيب صالح إلى هذه الموضوعة كشرخ ينسحب ويتجلى في بعض المصائر الفردية لشخصيات الرواية.
بالرغم من مضي ثلاثين عاماً على ذيوع رواية صالح إلا أنها – ومما يدعو إلى الدهشة – لم يزل تأثيرها الروحي طاغياً وهذا ما ينطبق كذلك على ترجمتها إلى الألمانية التي أتت متأخرة جدا. ومما يزكي مكانة هذه الرواية هو أن القطيعة بين الثقافات رغم التناقض بين التحزب للعولمة أو التظلم منها لم تفقد أهميتها وخاصة أن الرواية كُتبت بحريه آسرة. إن تعدد الإحتمالات داخل الرواية يرتبط بالفقرات الوصفية وقصص أهل القرية الشفهية والمونولوج الداخلي وهذه العناصر في حد ذاتها توسع المنظور أكثر من مضمون حياة سعيد غريبة الأطوار والذي تلاشى دوره مع انسياب الرواية شيئاً فشيئاً.
أما المشهد الختامي الرائع فقد جاء كنهاية مفتوحة: هل ينساب مصطفى سعيد مع النيل ويتبعه؟
لقد تركت كل قضايا الصراع الحالية تقريبا والمتعلقة بالحياة الأفريقية بعد الإستعمار آثارا واضحة على هذه الرواية المدهشة:
- نتائج التطور التعليمي.
- السلوك الإستعماري الحديث للنخبة الجديدة التي تعلمت في الغرب داخل بلادها.
- حق تقرير المصير للأفراد والثقافات.
- الوضع الإجتماعي للمرأة وختان الإناث.
ربما يكون إصرار الطيب صالح على المزج التجريبي والتقليدي في بنية السرد في هذه الرواية القصيرة- التي تنمو من فصل الى فصل وتومىء باستمرار لجوزيف كونراد وتسترجع عطيل مستبطنة بصورة مدهشة أثر شكسبير – هو الذي جعل من المناقشات الحالية حول تباين الثقافات وأساليب السرد القديمة والحديثة مسائل محاطة بالضباب وعدم الوضوح".
وكتب فريدولين فوغر(4) Fridolin Fuger إن الشخصية الرئيسية في الرواية ليست مصطفى سعيد ولكنها الراوي ذاته.
ويستدل على ذلك بشكل خاص من خلال المشهد في غرفة المكتب، الذي يؤكد أن سعيدا ليس الشخصية الحقيقية المختارة. إن المصير الذي آل اليه الرواي يعكس تمزقه الداخلي وأزمة مصيره، الأمر الذي ساعده في نهاية المطاف لإعادة تصويب توجهه. وهنا أيضاً إشارة إلى رمزية دخول الراوي إلى نهر النيل والسباحة صوب الشاطئ الشمالي.
كتب لودفيج أمان(5) Ludwig Ammann منوها في تقييمه لموسم الهجرة إلى الشمال، بأن صالح قد استبق في روايته هذه بعقد من الزمان "نقد الإستشراق" لإدوارد سعيد، فإدوارد سعيد لم ير في الإستشراق سوى تحقير الشرق غافلا عن تمجيد المستشرقين للشرق ومتجاهلا حركة الإستغراب "الإستشراق معكوسا"، وصالح لا يأبه لمراعاة المحظورات ولا يلجأ للمراوغة، ومارس آنذاك النقد الذاتي متعرضا للفساد والرشوة في أنظمة ما بعد الكولونياليه.
وعن قصصه القصيرة كتبت أولريكا روده(6) Ulrike Rode "رحالة بين الشمال والجنوب – قصص قصيرة عن حياة ما بين ثقافتين ملؤها الحنين والألم" بأنه بينما يحزن الطيب صالح في قصته الأولى للفردوس الضائع، للتكامل بين الإنسان والطبيعة والعلاقة المتواصلة بين الإيمان والحياة، فإنه يصل في قصصه التالية الى موضوع حياته الأساس وهو التباين ما بين التقليد والتقدم وإنقطاع الثقافات.
في قصة " حفنة تمر " التي شكلت عنوان الكتاب تعبر القصة المؤلمة عن نزع تصوره المثالي للوطن المحبوب، وبفضل التتابع الزمني للقصص نرافق الكاتب في تغير وعيه وتنامي نظرته الواقعية للوطن الذي خلّفه وراءه.
إننا ندرك إرتباطه بعائلته الكبيرة في حفيف جريد النخل الذي يرمز الى نبض الحياة. ونبدأ في الوقت عينه في تفهم مدى إحساس الإنسان بالتمزق الذي يعتريه عندما يعود من الغرب المتفوق إقتصاديا وثقافيا الى وطنه الذي بات غريبا عليه.
الطيب صالح بقى مترحلا ما بين عالمين وثقافتين، وفي كل إنجازه الأدبي عمل على معالجة هذا النمط من الحياة المليئة بالإرهاق وبلغة غنية بالمشاعر، دون ان يترك لمشاعره أو يتسرع في تقييمه في تقرير ما هو صواب أو خطأ." وتضيف الكاتبة "إن قصصه شديدة التركيب تجبرنا نحن القراء الغربيين على إعادة تقييم الذات. مضى تقريبا أربعون عاما على هذه القصص التسع للكاتب العربي الكبير ومما يدعو الى الدهشة فعلا أنها ما زالت وبالرغم من كل العولمة تحتفظ بحيوتها حتى الوقت الراهن."
وكتب إنغو أريند(7) Ingo Arend - نخلة الرحمة، من الأسطورة إلى المنطق -.
تجسد شجرة النخل في هذه القصص الوحدة الكلية المفقودة. إنها رمز الحياة، فسعيد هو الذي يزرعها والناس يبتهجون عندما تلامس الريح تاجها. إنها منبع الاسطورة والكل ينطلق منها.
"من أسطورة الوحدة إلى واقع العزل" يعود ويتطرق صالح دائما في قصص الحب الصغيرة الى خطوط الفصل العنصرية، وهكذا يصف الطيب صالح بدون رحمة وعاطفة إنفصال الجزء عن الكل.
وكما في روايته "موسم الهجرة الى الشمال" يشكل الصراع بين التقليد والحداثة جوهر روايته "بندر شاه"(8) وفيها يتألق في ربطه ما بين أحدث أساليب الرواية الأدبية والأداء الشفاهي الموروث.
في حين يؤكد صالح إستمرار الصراع ما بين التمسك بما هو قائم من جهة وإرادة التغيير من جهة ثانية – أي ما بين القديم والجديد، أكان ذلك على المستوى السياسي من جهة أو كما تتجلى من جهة ثانية في قصة حب مريم ومحيميد. في حين ينتقل من موضوعيته هذه وباسلوب مجازي يعالج من خلاله قصة البطل الرئيسي للرواية وتبدأ بانقاذ "ضو البيت" والد "بندر شاه" من نهر النيل مقتبسا بذلك قصة سيدنا موسى التاريخية.
"بندر شاه" هي قراءة مركبة، جرى إغناءها أكثر فأكثر من خلال تنوع الرؤى والأزمنة المتعددة والإضافات المتنوعة، وفي الوقت عينه عمل صالح على شد انتباهنا من خلال سرده للتفاصيل الكثيفة للحياة في "ودحامد" بكافة ألوانها، ويصف الجمال الذي تعكسه طبيعة النيل في أدق تفاصيلها ويغني حوارات نساء ورجال القرية بالوان الفكاهة الموروثة. وهكذا يثبت صالح بعد رواية "موسم الهجرة الى الشمال" مرة أخرى بأنه روائي كبير.
ويكتب شتيفان فايدنر(9) Stephan Weidner بعنوان مثير: "الرجل الآتي من النيل" مغامرة لا مثيل لها في الأدب العربي. بروايته "بندر شاه" يثير الطيب صالح الحيرة.
صمت صالح ثلاثين عاما، وفي صمته الإبداعي يمكن مقارنة هذا الكاتب السوداني الكبير الذي تألق في الستينيات كصوت واعد لأفريقيا السوداء، بصمت رمبو(Rimbaud). انه صمت تراجيدي لا يمكن تفسيره.
و"بندر شاه" هي أكثر رواياته غموضا ولا يمكن سبر غموضها، فهي متاهة يسهل ولوجها ولكن الخروج منها هو المأزق. وعندما يصل القارئ إلى نهايتها يتمنى قراءتها من النهاية إلى البداية على مثال "خيط أريادنا" (10) Ariadne ليكتشف بأنه قطع كما هو حال تتابع الأجيال الطبيعي في "ودحامد".
وحتى تتضح الصورة للقارئ، فإن الرواية تسير في خطين كشرائح شفافة مترادفة فوق بعضها البعض، فالحدث الأول يروى بنبرة اسطورية عن كيفية النهضة التاريخية للسودان ومعه القرية عند نهاية القرن التاسع عشر، وخروج الرجل الغريب من النيل عند قرية "ودحامد" وكأنه طفا لتوه وهو فاقد الذاكرة من نهر الليته(11) Lethe. أهل القرية احتفوا به وسموه "ضو البيت" وصار واحدا منهم، نجح في عمله وأضاف الجديد وأصبح في فترة وجيزة من الأثرياء وعندما حملت زوجته ابتلعه النيل من جديد، لتضع بعد ذلك مولودا يحمل الاسم المليء بالأسرار "بندر شاه" أما الحدث الثاني فيعرض توثيقا لثلاثة أجيال سابقة.
ويمكن القول بأن موضوع الرواية يقوم على سبر العلاقة ما بين الأجيال في عالم سريع التغيير، والدور الذي يلعبه الدين والتقليد في عمليات التحول الجارية بما تقدمه من مرتكز يتكئ عليه الناس، وفي الوقت عينه يشكل قيدا يخضع الناس للمراوحة في البنية الموروثة.
الطيب صالح هو أحد رواد الأدب العربي المعاصر الذي حظي إنتاجه بالدراسات والأبحاث المتعمقة باستثناء رواية "بندر شاه" التي لم تتعرض لتحليل علمي أو محاولة تفسير متكامل وبقدر ما يصعب على المفسرين سبر غور الرواية فإنه يجعل من قراءتها أحد أكبر المغامرات التي لا مثيل لها في الأدب العربي.
و"بندر شاه" مثل كتبه الأخرى مليئة بالايحاءات والإثارة. فالقارئ يشعر في "ودحامد" بأنه يسبح مع "محيميد" وجده في النيل ويخترق صوت المؤذن أذنيه.
هذه الإنطباعات الجميلة المتعددة الألوان يكتسبها القارئ من تفاصيل الروايه إلا أنه يصعب عليه إكتشاف البعد اللازم الذي يسمح بتحويل الجزئيات الى أصل متكامل.
وبعد رائعته "موسم الهجرة الى الشمال" أصدر الطيب صالح وديعته "بندر شاه" مثيرا بذلك الكثير من الأسئلة التي تستهدف الأجيال القادمة من القراء.
في مقابلة مطولة أجرتها الكاتبه والصحفية مارتينا صبرا(12) Martina Sabra مع الكاتب "الطيب صالح" نقتطف منها:
- هل لاحظت تطورا في النقاش حول رواية "موسم الهجرة الى الشمال" على إمتداد ثلاثين عاما منذ صدورها وحتى الآن؟
- في الجامعات كتب الكثير عن الرواية والأكاديميون يناقشونها آخذين بعين الإعتبار الأبعاد النفسية واللسانية (اللغوية) إلا أن المهم في نظري، أن نأخذ بعين الإعتبار أن إهتمام القارئ العادي ينصب على الموضوع الرئيسي المتمثل في تفوق الغرب والكليشيهات ونقص الفهم المتبادل كما نشاهده يوما بيوم في وسائل الإعلام. فنحن ما زلنا لا نقبل بعضنا البعض كآدميين تملأهم المشاعر والآمال الإنسانية الصادقة. إنني أشعر بالحزن لإستمرار هذه الفجوة.
- ماالذي يدفع القارئ الألماني للإهتمام بالأدب السوداني؟
- نحن نقرأ أيضا الأدب الألماني توماس مان، هرمان هسه، غنتر غراس. وإذا أردنا أن نفهم بعضنا، فيجب على الأوربيين أن يخرجوا من عزلتهم القائمة على الغطرسة، فالأوربييون لا يزالون يعتقدون بأنهم الأكثر تحضرا في العالم وليس هناك ما يتعلمونه من الآخرين. إلا أن مجتمعا فقيرا على المستوى الإقتصادي يمكن أن يكون ثمينا على المستوى الثقافي، فالسودان يتكئ على حضارة تعود الى خمسة آلاف سنة، فلدينا ما نقوله، ولدينا ما نقوله للأوربيين.
وداعا الطيب الصالح
توفي الطيب صالح في 18 فبراير/ 2009 ونعته كبريات الصحف الألمانية مذكرة بأعماله، نقتطف منها الأتي:
يقول شتيفان فايدنر(13) في مقالة "موسم الهجرة الى الجنوب":
على مسرح الأدب والشعر كان السودان أرضا مجهولة قبل ان يقتحم الكاتب السوداني الطيب صالح المسرح الأدبي الصارخ في بيروت في ستينيات القرن الماضي. لقد كان فنانا كبيرا أثبت بأن الإبداع لا مكان له مهما كان قريبا أو بعيدا وبصرف النظر عما اذا كان لهذا المكان أو ذاك أية أهمية.
كان صالح ودودا في علاقاته الشخصية ومتواضعا في تقدير دوره الأدبي، مقدما أي قصيدة كلاسيكية عربية مشهورة على أنها أكثر قيمة من رواياته جميعها. ولكن مؤرخي الأدب سيقدمون بالتأكيد حكما مغايرا لما ذكره، مع ملاحظة أن الطيب صالح قدم آخر إنتاج كبير له عام 1971.
ويكتب مارتن إبل(14) Martin Ebel قائلا إن رواية "موسم الهجرة الى الشمال" مرافعة أدبية عن نمط من الحياة، لا ينكر الغرب ولا التنوير ويفضل بالرغم من ذلك القرية الشرقية على المدينة، وإن الحقائق تفصح عنها النساء. إن قراءة الكتاب للمرة الأولى تفعم بالسرور، أما القراءة الثانية فيرافقها تهليل وسعادة المكتشف.
وفي نعيه يكتب فولفغانغ غنتر ليرش(15) Wolfgang Günter Lerch تحت عنوان:
"على قوس النيل":
صحيح أن السودان بلد عربي ولكنه كان مجهولا في مراكز الأدب العربي مثل مصر ولبنان وسوريا أو العراق، حتى جاء الطيب صالح والذي كان له تأثيره في مسار الحداثة العربية. ولقد كان سباقا في أعماله حينما طرح موضوع صراع الحضارات الذي يثار في عالم اليوم والذي طبع تاريخ المنطقة والبلد الذي ينتمي اليه. ويؤكد ليرش بأن أعمال الطيب صالح ستجعل وطنه السودان خالدا والى الأبد في سماء الأدب العربي.
الطيب صالح ينزع عن الموت سطوته (16) ريجينا قرشولي
أعمال الطيب صالح كانت من أجمل الصدف السعيدة في حياتي كمترجمة للأدب العربي إلى اللغة الألمانية، لا أستطيع أن أقول ما هو العمل الذي شغلني وأثر علىّ أكثر من غيره من أعماله. أهي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ببنيتها المحكمة التي بلغت حد الكمال في حبك كل ما في التلاقي بين الحضارات من تناقضات في كل متجانس؟ أم هي تلك القصص الرائعة التي تمكن فيها من ولوج أعماق شخصيات إنسانية نموذجية وسرد سير حياة كاملة بما يشبه ضربات رسام سريعة؟ أم هل هي ياترى "بندرشاه"، الرواية الأكثر فنية في إيقاعاتها، والتي تمكن فيها من أن يوقظ قرية سودانية صغيرة من سبات ثانويتها ليزرعها في صلب التاريخ. ففي كل حدث يحدث للتو ثمة عودة إلى ما حدث عبر الزمن. انه ينزع هنا عن الموت صفته النهائية القاطعة الحاسمة، ويفقده بذلك سطوته وجبروته. إن مابهرني كمترجمة لأعماله قبل كل شيء هي الدقة المطلقة. لا توجد مفردة لم توضع في مكانها الصحيح ولا توجد جملة لا تنتهي بنقطة – كما هي الحال باللغة العربية، وبالتالي باللغة الألمانية، وبكل لغة أخرى. ما أعنيه هنا هي دقته الأسلوبية. والوضوح الذي يختبئ العمق في ثناياه. والغنى الخارق في الإيحاءات التي يبثها بين الكلمات، لا فيها وحسب.
وقبل هذا وذاك: تلك البساطة الظاهرية المفترضة التي يحمُّلها أفكاراً ترقى إلى المستوى الفلسفي. إن ما بهرني فيه كإنسان هي مودته وطيبته وسخريته الخافتة وإنسانيتة البادية دون أن يكسرها أي تصنع.
ويالضحكته من قهقهة تدخل دون استئذان كل قلب، ولم يكن ليستطيع أن يتجنب عدواها أي جليس!
مدخل لقراءة نصوص للطيب صالح أندرياس فليتش (17) (Andreas Pflitsch)
قام أندرياس فليتش الأستاذ في مركز البحوث للأدب والثقافة في برلين، بتقديم مدخل لروايات الطيب صالح في فقرة "ذكرى تتحدث" (Erinnerung spricht ) أثناء انعقاد مهرجان الأدب العالمي التاسع من 09 - 20 سبتمبر 2009 في برلين وبمشاركة واسعة لكتاب من العالم العربي.
جاء في التقديم: أن تواضع الكاتب الذي يشرفه وأعماله القليلة يجب أن لا تضللنا عن أهمية إنتاجه للحداثة العربية.
تعالج رواية موسم الهجرة إلى الشمال موضوعة مركزية للأدب العربي الحديث عنوانها تحدي الغرب.
بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر انصب اهتمام الأدب العربي الحديث التعاطي على ما تقدمه الحضارة الغربية: بين الانبهار بالثقافة الغربية من جهة والشعور بالإذلال على المستوى السياسي في ظل هيمنة الاستعمار والامبريالية من جهة أخرى. برزت فجوة كبيرة جرت لمحاولة القفز عنها من خلال التفسيرات المتعددة. ومن هنا تتضح مراوحة علاقات المثقفين العرب بالغرب، ما بين الإعجاب الشديد من جهة والخوف من فقدان الهوية الذاتية، أي ما بين الحب والكراهية من جهة أخرى. ومن هنا نلاحظ مدى تأثر موضوعة رواية الطيب صالح بهذه العلاقة الانفصامية، لعدد كبير من المثقفين في أفريقيا والعالم العربي مع الغرب.
على هذا النحو برزت حالة انفصام، بين مشاركتهم في النضال السياسي لبلادهم بهدف الاستقلال عن الهيمنة الأوروبية ومن جهة أخرى اعترافهم وتعلقهم بسيادة الثقافة الغربية.
بعد ذلك قام رولاند شيفر (Roland Schaefer) الممثل والمخرج المعروف على نطاق المسرح والسينما والتلفزيون بقراءة مقاطع مطولة لرواية موسم الهجرة إلى الشمال، كشف من خلالها عن الصور الجمالية التي يقدمها الكاتب من خلال أسلوبه الروائي وصياغته المثيرة.
* بسبب المقالات الكثيرة التي نشرت في المجلات والصحف الألمانية بعد صدور الطبعة الأولى "لموسم الهجرة الى الشمال" عام 1998 نكتفي هنا بذكر بعضها فقط.
** طبيب وكاتب سوداني مقيم في برلين / ألمانيا.
صدرت المجموعة عن دار لينوس Lenos (بازل سويسرا) وبإشراف الكاتب الألماني المستعرب هارتموت فندرش Hartmut Fähndrich والذي اختتم كل رواية بتعريف قصير عن الروائي مع عرض موجز لمضمون كل رواية.
ترجمت د. رجينا قرشولي الروايات ترجمة أمينة عكست النص العربي باقتدار مصحوب بلغة أدبية رصينة، والدكتورة قرشولي باحثة في المعهد الشرقي التابع لجامعة لايبزج Leipzig ، وهي زوجة الشاعر السوري د. عادل قرشولي.
الهوامش:
1. صدرت الترجمة الألمانية الأولى لرواية "عرس الزين" مع النص العربي في مجلد واحد عن دار نشر صغيرة "(Edition Orient)"عام 1983 وقام بالترجمة استيفان رايشموت Stefan Reichmuth كمادة للتدريس لطلاب الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية.
2. Rotraud Wielandt; Das Bild der Europäer in der modernen arabischen Erzähl- und Theaterliteratur; S:437-478; Beirut 1980; Franz Steiner Verlag. Wiesbaden.
3. Hans-Peter Kunisch; Der Schwarze Engländer am Nil; Süddeutsche Zeitung/ 139/ 1998;
الترجمة الكاملة للنص نشرت عام 1999 في صحيفة أخبار الأدب/ القاهرة، ومجلة كتابات سودانية، بمشاركة الكاتب أمير حمد.
4. Fridolin Fuger ; Faustgestalt Zwischen Nord u. Süd. (Der Bund, 26.03.1998)
5. Ludwig Ammann; Lust an Herrschaft und Unterwerfung; (Badische Zeitung 28.05.1998)
6. Ulrike Rode; Auf Wanderschaft Zwischen Nord u. Süd.
7. Ingo Arend ; Palmherz – Vom Mythos Zum Logos; Freitag 11 /Die Ost – West Wochen Zeitung/ 09.03.2001
8. (Bander Schah ) (Tajjib Salich) كما جاء في النشرة الصحفية لدار لينوس (Lenos) 2001
9. Stephan Weidner ; Der Mann, der aus dem Nil kam; Frankfurter Allgemeine Zeitung/ 07.02.2002
10. حسب الاسطورة الاغريقية التي تروي قصة الأميرة "أريادنا" ابنة الملك مينوس (Minos) "ملك كريت" التي أهدت حبيبها "تسويس" (Theseus) بكرة خيط يمده خلفه حينما يدخل إلى المتاهة ليستعين به في طريق عودته إذا خرج منها ليعود سالما من حيث بدأ. والاسطورة تضرب كمثل عن كيفية تخطي الحالات الصعبة والخروج من المآزق (المترجم).
11. الليثه (Lethe) حسب الاسطورة الاغريقية، هو نهر النسيان، الذي يعد واحدا من خمسة مجاري مياه في الآخرة، وبانتقال الأموات إلى الآخرة وشربهم منه ينسون فورا السعادة أو العذاب الذي عاشوه في الحياة الدنيا (المترجم).
12. Martina Sabra; Überall Leben Wirkliche Menschen; Frankfurter Rundschau/ 03.04.1998
13. Stefan Weidner; Zeit der Südwanderung; 19.02.2009
Süddeutsche Zeitung
14. Martin Ebel ; Sudanesischer Autor Salich gestorben; 20.02.2009
/Tages-Anzeiger
15. Wolfgang Günter Lerch; Am Nilbogen; Frankfurter Allgemeine Zeitung/ 20. 02.2009
16. ريجينا قرشولي: هذه فقرة من المداخلة التي القيت في ملتقى أصيلة تكريماً للطيب صالح في المغرب في 11/8/2009. النص الكامل نشر في صحيفة "أخبار الأدب" القاهرية في 6/9/2009
17. Andreas Pflitsch; Einführung in die Lesung von Texten von Tayeb Salih; im Rahmen des Programms „Erinnerung sprich“; internationales Literaturfestival Berlin; 15.September 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.