لا شك عندي أن أكثر ما ساء نظام البشير الساقط ومنظومته الأمنية، الممثلة في لجنة أمنه ودفاعه بإبنعوفها و كمال معروفها و صلاح قوشها وغيرهم من الكادر العسكري للمؤتمر الوطني هو استمساك شباب السودان من الثوار والثائرات بسلمية ثورتهم وتعبيرهم الراقي والحضاري (المفعم بالفنون والابداع) عن غضبهم على نظام الطاغية المستبد الجائر، وإشهارهم أسلحتهم المشروعة لإسقاطه مع تعبيرهم المفصح عن رفضهم ومقتهم وكراهيتهم للنظام الساقط بصيغ مختلفة ومتنوعة من التعبير البسيط الذكي اللماح والبليغ. و ذلك رغم سلمية احتجاجاتهم وتظاهراتهم فإن المنظومة الأمنية المذكورة أعلاه وقد أسند لها نظام البشير الساقط مهام مواجهتهم كانت قد قابلتهم بأقصى درجات العنف الدموي بفتح نيران الرصاص الحي في مقاتل أجساد المتظاهرين كأعناقهم و صدورهم بطونهم، كما فعلت من قبل في العيلفون وبورتسودان وكجبار والخرطوم في سبتمبر 2013م ...إلخ، وحصدت أرواح عزيزة وأراقت دماء طاهرة كما أسرفت في قذف تجمعاتهم بكثيف الغاز المسيل للدموع و في الاعتقال والتعذيب من لحظة وقوع أسيرهم/هن في أيدي ملثمي كتائب الظل والمليشيات المتوحشة الموتورة الحاقدة على الشعب بمختلف مكوناته الفكرية والسياسية. ولم يفت في عضد أو ينال من عزيمة وإصرار الثوار اشتداد القتل و القمع و الضرب و التعذيب الوحشي رغم سلمية احتجاجاتهم ومظاهراتهم وكل ما فعلوه لغل يد العنف الدموي الفالت هو أن لجأوا بإلهام من فطنتهم وعبقريتهم إلي الاعتصام أمام وحوالي القيادة العامة للقوات المسلحة كمؤسسة وطنية قومية يمثلها الشرفاء من ضباط وضباط صف وجنود المؤسسة العسكرية (جيش شرطة وقوات الدعم السريع) لدعوتهم بل حضهم على المشاركة في عملية التغيير الثوري الجاري لانقاذ الوطن من براثن خاطفيه. ولم يخيب شرفاء المؤسسة العسكرية ظن الثوار فيهم فهم منه وإليه ويعانون من كل ما يعانوه فاستجابوا لندائهم وانحازوا لقضيتهم العادلة، ومطالبهم المشروعة، بأن قاموا بحماية ظهورهم وصدورهم من وابل رصاص لجنة أمن ودفاع البشير المكونة من شخص الطاغية وعوض إبنعوف و كمال عبد المعروف و صلاح قوش وكل طغمة الكادر العسكري للمؤتمر الوطني وهو كل ما تبقى من تنظيمه ومسماها المنظومة الأمنية و هي التي كانت على رأس كتائب الظل ومليشيات الحزب وقناصته الملثمة والسافرة المكونة من كوادرهم في المؤسسة العسكرية و الأمن الشعبي والطلابي وأمن المجتمع و هي ذات المنظومة التي أدارت المعركة الدموية مع الثوار في الشارع طوال ما يقارب الأشهر الخمس الماضية. و إزاء تقدم الثوار وإحرازهم النصر تلو النصر وتقدمهم الحثيث بثبات وثقة، نحو هدفهم النهائي، ومع تسارع وتائر بشارات علامات نصرهم المؤزَر و سقوط وانهيار النظام التام أراد قادة النظام الساقط إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حكمهم بإزاحة قادته و رموزه من المدنيين من المشهد السياسي الذين أصبحوا في نظرهم كروتاً محروقةً وعاجزةً فدفعوا بالكادر العسكري للمؤتمر الوطني بحسبانه غير مكشوف للناس، و لا يعرفه أحد، علَه يتدارك الموقف و يفلح في التصدي للمهام القديمة وهي منع النظام من السقوط الوشيك أو الحال بالأحرى، وهو ما عجزت عنه أدوات قمع نظام البشير الساقط وحزبه. و هكذا انحصرت مهمة كادر المؤتمر الوطني العسكري في عمل يتيم تمثل في ضرب الثوار وكسر صمودهم تحت لافتة جديدة باسم (المنظومة الأمنية) المتمثلة في مجلس لجنة أمن ودفاع البشير برئاسة عوض بن عوف وعضوية كمال عبد المعروف وصلاح قوش وعضوية آخرين. وبحسب خطة وتوجيهات قادة النظام أعلنت المنظومة الأمنية الشعب لترقب بيان يذاع عليه من قيادة الجيش و بعد طول انتظار امتد من الساعات الأولى من الصباح وحتى بعد وظهر يوم الجمعة 11/4/2019م أذاع عوض ابنعوف بيان ما سماه بالمجلس العسكري الانتقالي وأعلن قراراته (كاقتلاع النظام والتحفظ على رأسه في مكان آمن ... إلخ) والتي تعتبر في نظر الثوار، وبمعيار الأمر الواقع، من قبيل تحصيل الحاصل. إلي أن جاء بيانه المذكور إلي مربط الفرس والهدف الأساس من كل ما جرى وهو إعلان تعطيل العمل بالدستور وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاث أشهر وفرض حظر التجوال لمدة شهر!!!. و هكذا يراهن الاسلامويون دائماً على الفرس الخاسر، فسعي منظومة ابنعوف الأمنية لمصادرة الحقوق الدستورية الكاملة في الحرية والديمقراطية في وقت كان الثوار في الشوارع كل مدن السودان يقاتلون لانتزاعها، لا يعدو كونه ضرب من ضروب السباحة الخرقاء ضد التيار. أوليس قمع وقهر الثوار والسيطرة على حراكهم واخضاعهم لعنف الدولة وتشريعاتها، مع اهدار كافة الحقوق الدستورية، بفرض حالة الطوارئ لمدة سنة ومحاكمة مخالفي إعلان حالة الطوارئ المفروضة هو ما كان يفعله و نظام البشير الساقط طوال ما يقارب الخمس أشهر من ثورة الناس عليه وتصميمهم على إسقاطه؟؟!. و هل كان البشير لو استقبل من أمره ما استدبر يحلم أو يتمنى أكثر مما أعلنه مجلس ابنعوف من تعطيل العمل بالدستور واعلان الطوارئ وحظر التجوال.؟؟! وعبثاً حاول مجلس ابنعوف العسكري أن يوهم الناس أو يحملهم على الاعتقاد بأنه قد انقلب نظام البشير الساقط بينما كان قد انقلب على الثوار المحتجين، الذين كانوا يحيطون بمقر قيادته إحاطة السوار بالمعصم بينما كان هو ومن معه من عسكر نظام البشير يطبخون بداخلها مؤامرتهم و مكيدتهم، ضد الوطن و شعبه، ولكن الله قد رد كيد المجلس المذكور في نحره. لم تقتصر مجموعة المتآمرين على الثوار وثورتهم على عساكر المؤتمر الوطني حصراً، بل شاركهم في التآمر والكيد كثير من كوادر المؤتمر الوطني الذين ساهموا من وراء حجاب في دهاليز وأقبية دولة الظل وأجهزتها العميقة في خطة إنقاذ ما تبقى من نظام نظيمهم الذي استحال لحلقة عسكرية متآمرة متناهية الصغر. ومن هؤلاء من كشفته فضائية السودان (المحتلة) فيما نقلتها عنها قنوات العربية الحدث والجزيرة والحرة والبي بي بي سي التي ظلت تتابع أخبار ثورة ثوار السودان على مدار الأيام الفائتة. وتم كشف من نعنيه في سياق نقل شاشات التلفزة لمشاهديها مشاهد متتابعة لأداء ابنعوف ونائبه كمال عبد المعروف ما جاء وصفها باليمين الدستورية. فعكست كاميرات التصوير حضور رئيس القضاء الذي اكتفت فضائية السودان المحتلة بعرض حضوره كمحض صورة دون الإعلان عن ذلك تصريحاً. و كم غاص قلبي في صدري ألماً وحزناً على شرف ونزاهة و حيدة مهنة القضاء وأنا أرى أحد أبنائها يزرى بها ويعبث بقدسية استقلالها وحيدتها. ثم ما لبثت أن انقلبت المأساة إلي ملهاة حقيقية عندما أشار إلي سعادة رئيس القضاء بعض من حضرت معهم مشهد أداء القسم أمام شاشات التلفزة، مستفسرين في حيرة، عمن يكون هذا؟! وجهر بعضهم عندما أخبرتهم بمن يكون الرجل، بأنهم اعتقدوا أن ظهوره إلي جانب ابنعوف ونائبه ظهور عارض لشخص طفولي أو محض ساع أو حاجب أو موظف تصادف ظهوره في المشهد على سبيل الصدفة. أما وقد سمت الفضائيات المشهد الذي جرى أمام أعين متابعيها من السودانيين وغيرهم في أرجاء العالم بمراسيم أداء اليمين الدستورية، فقد لزم توضيح أن أول ما يتبادر إلي ذهن القانوني هو كيف يكون ما تم أداءً لقسم يمين دستوريةً إذا كان عوض بن عوف قد عطل العمل بالدستور في بيانه المذاع قبل أدائه القسم بلحيظات وأردفه بإعلان حالة الطوارئ لمدة سنة كاملة؟؟!! و هل بمقدور سعادة رئيس القضاء، أن يسميها باليمين الدستورية، إذا كان بنفسه قد استكمل إعلان حالة ال طوارئ بتشكيل محاكمها لتحاكم مخالفي أمر طوارئ البشير. و يعلم سعادة رئيس القضاء، أن تلك المحاكم قد شرعت بالفعل و فور تشكيلها في إرسال عشرات المحتجين والمحتجات إلي السجون تباعاً؟؟!. إذن فسعادة رئيس القضاء (المؤدى أمامه اليمين الدستورية) يعلم علم يقينياً بأن ما يتم أمامه هو أبعد ما يكون من الدستور والقانون و ألا علاقة له بأي إجراء شرعي. نضيف إلي ما تقدَم ذكره أن مكان أداء ابنعوف وكمال عبد المعروف اليمين ليس هو قصر الرئاسة أو أي من دواوين إدارة الشأن المدني العام بل من المرجح أن المكان هو القيادة العامة للقوات المسلحة أو غيرها من ثكنات الجيش أو القوات النظامية وذلك في أحسن الأحوال، إذا أخذنا في الحسبان أن بيان انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م قد سجل في استديوهات في السوق. و من المعلوم أن المكان الطبيعي لأداء القسم أمام رئيس القضاء أو أحد نوابه هو القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء أو مباني الهيئة التشريعية و بالعدم فهو مكتبه في الهيئة القضائية، و من غير المألوف أن يذهب رئيس القضاء إلي سكنات الجيش أياً كانت لتحليف المسئول العمومي اليمين، أياً كان منصبه، إلا أن تكون اليمين الغموس!! ودعونا نفرط في حسن الظن بمؤديي القسم والمؤدى أمامه القسم ونفترض (كما قال أهل المؤتمر الوطني في بيان وزعوه السبت 13 ابريل 19م) أن ما قام به مجلس عوض ابنعوف ونائبه كان انقلاباً عسكرياً ضد البشير ونظامه، فهل من مهام رئيس القضاء الدستورية أو القانونية إسباغ الشرعية على الانقلابات العسكرية صرف النظر عن (مع مَنْ) أو (ضد مَنْ)؟؟! أخيراً معلوم أن صيغة القسم التي يؤديها رأس الدولة وبقية شاغلي الوظائف الدستورية والتنفيذية هي حلف اليمين لصيانة و حماية الدستور والولاء للنظام الشرعي الذي يمثل إرادة الشعب ويرعى ويحقق مصالحه؟.. و ليس في مقدور سعادة رئيس قضاء ( الأمر الواقع) إقناعنا بأن صيغة القسم التي أديت أمامه قد تضمنت صيانة الدستور و حقوق (المواطن السوداني) المنصوص عليها فيها، وهي حقوق جحدها (على كل السودانيين عدا منتسبي حزبه ومؤيديه) نظام البشير ودولة وقضاء ظله بياناً عياناً و استعاضت عنها بالولاء للتنظيم و ليس للشعب، والانحياز لأيديولوجيا الحزب وليس الدستور، والحرص على مصلحة الجماعة، لا مصلحة الشعب، كما ليس في مقدوره أيضاً إقناعنا بأنه فيما قام به ونقلته شاشات التلفزة، كان يؤدي عملاً من صميم مهامه الدستورية والقانونية. و في تقديري أن أي قسم يؤدى لتولي الوظيفة العامة يحلفه المسئول قاصدا به مصلحة التنظيم هو (يمين الغموس) الذي يعرفه الشرع بأنه (القسم الكاذب). ومن باب الشيء بالشيء يذكر فإن رئيس لقضاء الحالي، كان قد اجتمع، في مباني الهيئة التشريعية و كان يشغل وقتها منصب أحد نواب رئيس القضاء بالهيئة البرلمانية للحزب الحاكم، وصرح في ملابسات صراع سياسي محتدم على تعديلات دستورية، بين تلك النظام وبعض مخالفيه في بالمجلس الوطني خاصة، و كل معارضيه في الوطن عامةً، برأي يساند ويعضد رأي الهيئة البرلمانية لحزبه الحاكم، وكان رأيه مخالفاً للنص الدستوري المراد تعديله. و أنا على يقين تام بأن إعلان نائب رئيس القضاء برأي مخالف لنص دستوري ساري ونافذ حدث غير مسبوق في تاريخ فقه الدستور وتطبيقه. وقد كتبت وقتها مقالاً (نشرته الميدان وسوداني والراكوبة .. إلخ) موضحاً أنه قد خلط بدافع الانتماء الأيديولوجي و الولاء للتنظيم بين رأيه كعضو في التنظيم الحاكم ورأيه كنائب لرئيس القضاء، وأن ذلك مما لا يجوز من كل الوجوه. وها هو يعود و يفعل نفس الشيء الآن بنفس دافع الانتماء الأيديولوجي والولاء للتنظيم، ولا حول و لا قوة إلا بالله العملي العظيم. وليكن عزاءنا في أنها (سقطت بس)!!!!! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
