في مداخلة بندوة لاتحاد العلماء المسلمين بالدوحة، الاربعاء الماضي، عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، اعتبر المستشار الرئاسي الدكتور مصطفى اسماعيل الثورات العربية، "نفحة إلهية ورحمة من رب العالمين". وقبل إسماعيل، احتفت الخرطوم على لسان أكثر من مسؤول، برياح التغيير التي ضربت شمال افريقيا، فجرفت بن علي وليلاه - بين غمضة عين وانتباهتها - من ضفاف البحر الأبيض المتوسط إلى سواحل البحر الأحمر، وأبعدت مبارك - بين ليلة وضحاها – من شواطئ القاهرة إلى منتجع شرم الشيخ فأصبح على مرمى حجر من جدة، و(زنقت) القذافي في طرابلس، بعد أن عصفت بمدن الجماهيرية الواحدة تلو الأخرى، وحرقت كتابه الأخضر فبات رحيله مسألة وقت على الأرجح. تبدو الخرطوم حتى اللحظة، سعيدة وهي تطالع قراءات وتوقعات الخبراء والمحللين السياسيين، التي ترشح اليمن وليس السودان المجاور لمصر وليبيا وجهة رابعة لرياح التغيير .وتزداد الخرطوم سعادة بإغفال الآلة الاعلامية العربية – جهلا أو عمدا – سبق السودان عربيا في الثورات (اكتوبر 1964 وابريل 1985 ). وعدم ايراده في قائمة الانتظار العربية أو قائمة (العشرة المبشرين بجدة) الرائجة هذه الايام، وتكاد ( لا تصدق) دعم الصادق على استحياء للقذافي بشهادة عائشة، وان تظاهرت مريم. قد يستغرب المتابع في بادئ الأمر احتفاء الخرطوم بهذه الثورات، باعتبار أن رياح التغيير وصلت حتى حدودها الشمالية والشمالية الغربية، لكن الاستغراب يزول بالنظر إلى علاقاتها بأنظمة الدول الثلاث، وبخاصة المصري والليبي. عودة إلى الوراء قليلا توضح أن العلاقات السودانية المصرية، توترت بعد عام واحد من وصول الانقاذ للحكم وتحديدا في العام 1990 عندما تباينت المواقف من الغزو العراقي للكويت، وأخذت العلاقات في التوتر لتحتل مصر مثلث حلايب في 1993، بدعوى دعم الخرطوم لاسلاميي مصر، لتصل اسوأ مراحلها في العام 1995 باتهام القاهرة للخرطوم بالضلوع في محاولة اغتيال مبارك بأديس ابابا. وبالتالي فإن زوال نظام مبارك قد يطوي ملف محاولة اغتياله ويفتح الباب لعودة حلايب إلى حضن الوطن بعد قفل باب المساومات، خاصة وأن القاهرة تحتاج الخرطوم هذه الايام أكثر من أي وقت مضى لتثبيت حصتها من مياه النيل. وإن كانت مصر مبارك ناصبت السودان العداء في عهد (الانقاذ )، فإن ليبيا القذافي ظلت حربا على الخرطوم وعونا للمعارضين والمسلحين الطامحين لغزوها باختلاف الانظمة، ابتداء بدعمها بالجبهة الوطنية التي حاولت غزو الخرطوم في العام 1976 ذلك الهجوم الذي عرف في ادبيات السياسة السودانية ب " المرتزقة"، مرورا بالراحل قرنق الذي وجد من القذافي ما لم يجده من نظام عربي آخر، وانتهاء بحركات دارفور وبخاصة حركة العدل والمساواة التي قيل إن هجومها على الخرطوم توفر له دعم لوجيستي من القذافي، ولم يجد زعيمها خليل ابراهيم، في مايو الماضي ملاذا آمنا غير ليبيا بعد أن ضاقت به مصر ولم تتسع له تشاد رغم العلاقة الوثيقة والتي ربطت حركته بنظام ديبي . وفي حال اتت ثورة ليبيا اكلها، فإن حركات دارفور التي راج انها تشارك في حرب القذافي ضد شعبه تفقد مناصرا وداعما قويا، وبالمقابل تضرب الخرطوم سرب من العصافير بحجر واحد، ترتاح من جار لم يرع حرمة الجوار يوما، وتصبح حركات دارفور في أضعف حالاتها ما يفتح المجال لتحقيق السلام بشروطها، وحينها تسعد حكومة الخرطوم بالاستقرار و(تتنسم) النفحات الإلهية خاصة في حال (تسنم) اسلاميي الدولتين ذرى المسؤولية إن لم يشهروا امارات اسلامية على حدود السودان الشمالية الغربية.