قوبل انتخاب الرئيس باراك أوباما في عام 2008 كأول رئيس أمريكي من أصول أفريقية بالسعادة والكثير من الأمل في القارة ألأفريقية ، حيث كان من المؤمل أن يقود وصوله للسلطة للمزيد من الاهتمام الأمريكي بالقارة ، وقد دعم خطاب الرئيس أوباما أمام البرلمان الغاني في يوليو 2009 هذه النظرة المتفائلة. غير أن انشغال الإدارة الأمريكية بامور اكثر إلحاحاً مثل الأزمة المالية التي شهدتها الولاياتالمتحدة نفسها وقضايا عالمية مثل أفغانستان ، وإيران ، والربيع العربي وأزمة اليورو كانت سبباً في أن تنزوي القضايا الأفريقية في المقعد الخلفي. إلا أن ذلك لم يكن يعني أن الإدارة الأمريكية قد أهملت القارة تماماً فهي أهم من ان تهمل خاصة بالنظر للمشاكل الأمنية المعقدة والتطورات السياسية الهائلة التي شهدتها والتحول الاقتصادي الكبير الذي تعيشه العديد من دولها ، فضلاً عن التنافس الذي تجده الولاياتالمتحدة من القوى العالمية الصاعدة وبصفة خاصة الصين. وتقول الاحصائيات أن حجم تجارة الصين مع أفريقيا ارتفع خلال العقد الماضي من 10,6 بليون دولار في العام إلى ما يتراوح بين 120 إلى 160 بليون دولار، بينما ارتفع حجم التجارة الأمريكية في نفس الفترة من 38,6 بليون دولار إلى ما يتراوح بين 82 إلى 126 بليون دولار. لذلك فقد كان من الطبيعي أن يفكر الرئيس أوباما في اعتماد استراتيجية تحكم التحركات الأمريكية تجاه أفريقيا في المستقبل. أدركت الصين أهمية الخطوة الامريكية فبادر الناطق الرسمي باسم الخارجية الصينية بالتصريح بأن بلاده ستعمل على التعاون مع الولاياتالمتحدة في أفريقيا باعتبار أن البلدين هما أكبر الشركاء بالنسبة لدول القارة. غير أن الصين أشارت إلى ثلاث نقاط تمثل الأسس التي يجب أن يقوم عليها التعاون بين الدول المانحة والدول الأفريقية وهي احترام حق الشعوب الأفريقية في اختيار النظام السياسي الذي يحكمها ، والمساواة التامة بين مختلف الدول فيما يتصل بالتجارة والتنمية ، وقيام العلاقات على الندية بين مختلف الأطراف. ولعل النقطتين الأولى والثانية هما محور الخلاف بين الأسلوبين الصيني والأمريكي في التعامل مع الدول المتلقية للعون في العالم الثالث. جاء الإعلان عن الخطوة المتوقعة في منتصف يونيو الحالي عندماطرح الرئيس باراك أوباما ورقة أطلق عليها أسم"الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا جنوب الصحراء". قامت الورقة على الوعود التي بذلها الرئيس أوباما في الخطاب الذي ألقاه في غانا.أشارت الاستراتيجية المذكورة إلى أهمية الشراكة بين الولاياتالمتحدة والدول الأفريقية جنوب الصحراءوحددت أربعة أهداف تعمل الحكومة الأمريكية على تحقيقها في القارة الأفريقية وهي بناء وتقوية المؤسسات الديمقراطية ، وترقية التجارة والاستثمار ، وبسط الأمن والسلام في كل ربوع القارة ، وتهيئة الفرص لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. تناولت الاستراتيجية بعد ذلك بالتفصيل الخطوات التي تعتزم الحكومة الأمريكية اتخاذها بغرض تحقيق كل هدف من الاهداف المذكورة أعلاه. ففي إطار بناء وتقوية المؤسسات الديمقراطية تحدثت الاستراتيجية عن حاجة الدول الأفريقية لمؤسسات قوية وفاعلة ، فأشارت إلى ضرورة خلق نظام للحكم يتسم بالشفافية ويخضع للمحاسبة ويتفاعل بإيجابية مع احتياجات المجتمع. كما وعدت بدعم نظم الحكم الراشدة في القارة والتي يمكن أن تشكل أمثلة تقتدى بالنسبة للدول الاخرى ، والعمل على حماية حقوق الإنسان ، وإقامة مؤسسات ديمقراطية ذات مصداقية عالية ، وترقية مبادئ الديمقراطية الليبرالية. وفي مجال ترقية التجارة والاستثمار تحدثت استراتيجية الرئيس أوباما عن ضرورة تهيئة البيئة الصالحة مشيرة إلى عدد من الدعائم مثل تبني السياسة الاقتصادية المشجعة لهذا النوع من النشاطات ، والتكامل الإقليمي ، وتطوير مقدرات الدول الأفريقية على التنافس في الأسواق العالمية ، وتشجيع الشركات الأمريكية على الاستثمار في الدول الأفريقية والدفع للأمامبالتبادل التجاري معها. في مجال تحقيق الأمن والسلم في القارة والذي يبدو أنه يشغل بال الحكومة الأمريكية ، تحدثت الاستراتيجية عن الحرب على تنظيم القاعدة وغيره من المنظمات التي تتخذ من الإرهاب وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية. كما أشارت إلى ضرورة تمتين التعاون الأمني الإقليمي وإصلاح الأجهزة الأمنية في الدول الأفريقية ، ومحاربة الجريمة العابرة للحدود. وقد تناولت الاستراتيجية في هذا الصدد قضايا مثل تسلل الأشخاص والأسلحة والأموال عبر الحدود الدولية. وقد أبدت الاستراتيجية اهتماماً خاصاً بموضوع تهريب أسلحة الدمار الشامل أو المواد التي يمكن أن تساعد على انتاج مثل هذه الأسلحة ، كما أعلنت عن التزام الحكومة الأمريكية بخطة العمل الخاصة بمحاربة عمليات القرصنة على شواطئ الصومال. كما بدا اهتمام الاستراتيجية بمحاربة الجرائم ضد الانسانية مؤكدة أن الحكومة الأمريكية ستعمل من أجل الاكتشاف المبكر لأي إرهاصات يمكن أن تقود للإبادة الجماعية لوقفها قبل وقوعها ما أمكن ، والتأكد من أن مرتكبي مثل هذه الجرائمسيمثلون أمام المحاكم الدولية للقاء الجزاء العادل.ومن جانب آخر أعلنت الحكومة الأمريكية عن التزامهابدعم عمليات الأممالمتحدة من أجل تحقيق السلام في القارة الأفريقية ، وجهود السلام المحلية التي تسعى نحو تحقيق التناغم والتعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع في الدول الأفريقية. أما فيما يتصل بالهدف الرابع وهو تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، فقد أشارت الاستراتيجية الى العمل على محاربة الفقر بهدف القضاء عليه تماماً ، وتحقيق الأمن الغذائي عن طريق تنفيذ الاصلاحات الضرورية في هذا القطاع المهم وتشجيع القطاع الخاص الأمريكي للمساهمة في تطوير التكنولوجيا الحديثة لزيادة انتاج الغذاء.كما دعت الاستراتيجية إلى إصلاح النظم الصحية في الدول الأفريقية ووعدت بمساهمة أمريكية في الحرب على الأوبئة التي تنشر في القارة الأفريقية وخصت بالذكر الإيدز والملاريا. كما أشارت الاستراتيجية كذلك إلى أن الولاياتالمتحدة ستعمل من خلال برامج المساعدات التي تنفذها على تهيئة المزيد من الفرص للنساء والشباب للمساهمة في بناء اقتصاد بلادهم. وفي مجال العمل الانساني أشارت الاستراتيجية إلى أن الولاياتالمتحدة تأتي على رأس قائمة الدول من حيث الاستجابة للمشاكل الانسانية في أفريقيا ، ووعدت بالاستجابة السريعة للأزمات الإنسانية في الوقت المناسب ، والعمل على استنباط الوسائل التي تضمن استمرارية العون الإنساني بصورة فعالة متى ما استمرت الحاجة له. نشرت صحيفة "واشنطون بوست" بالتزامن مع إعلان الاستراتيجية دراسة من خمسة أجزاء تؤكد ما كان معلوماً بالضرورة ، وهو أن مرامي الرئيس الأمريكي من وراء استراتيجيته في أفريقيا لم تكن عملاً إنسانياً بحتاً أو شراكة حقيقية نحو تنمية القارة وتحقيق الديمقراطية في ربوعها.تناولت الصحيفة نشاط المخابرات الامريكية في القارة الأفريقيةونسبة لحساسية الأمر فقد اعتمدت على عدد من المصادر من بينها تصريحات المسئولين الأمريكيين أنفسهم ، والاطلاع على العقود التي وقعتها وزارة الدفاع الأمريكية مع عدد من الشركات الخاصة ، وما كشف عنه موقع ويكيليكس من برقيات متبادلة بين السفارات الأمريكية في بعض العواصم الأفريقية ورئاستها في واشنطن ، بالاضافة لعدد من اللقاءات الصحفية مع مسئولين من الجانبين. كشفت الصحيفة أن القيادة الأفريقية للجيش الأمريكي "آفريكوم" أقامت منذ عام 2007 عشرة قواعد للتجسس في مختلف أنحاء القارة بدعوى جمع المعلومات عن نشاط تنظيم القاعدة وغيرها من التنظيمات الاسلامية التي تقع تحت التصنيف الأمريكي للمنظمات الإرهابية. وتقول الصحيفة أن هذه القواعد في معظمها عبارة عن مدارج في مطارات صغيرة يستعملها هواة المغامرات في القارة الأفريقية ، إلا أن بعضها يقام في جانب من المطارات الدولية لبعض الدول مثل القاعدة الموجودة في مطار واغادوغو ببوركينا فاسو. وتستعمل المخابرات الأمريكية في الغالب طائرات صغيرة من النوع المألوف في هذه المناطق حتى لا يثير استعمال الطائرات بدون طيارفضول بعض المتطفلين. هذا فضلا عن أن تشغيل مثل هذه الطائرات أقل كلفة من الطائرات بدون طيار التي تحتاج لتكنولوجيا متقدمة جداً لتشغيلها. تحدثت الصحيفة عن وجود قواعد استخبارية من هذا النوع في مختلف أنحاء القارة ، فالمعروف أن القاعدة العسكرية المتكاملة الوحيدة لآفريكوم حتى الآن موجودة في الأراضي الجيبوتية وتنطلق منها طائرات بدون طيار لتنفيذ عمليات اغتيال ضد قيادات القاعدة في اليمن وحركة الشباب المجاهدين في الصومال. وبالاضافة للمدرج المتاح لقوات الآفريكوم في مطار واغادوغو فإن القوات الأمريكية تنطلق أيضا من الحدود الموريتانية في عملياتها ضد تنظيم القاعدة في المغرب العربي. وقد ازداد نشاط المخابرات الأمريكية بصورة ملحوظة بعد الانقلاب الذي وقع في مالي خلال شهر مارس الماضي، والارتفاع في وتيرة عمليات بوكو حرام مؤخراً في نيجيريا. تنشط آفريكوم الآن كذلك في شرق ووسط أفريقياحيث تقومبتدريب القوات الصومالية على حرب المدن فييوغندا وإن كانت هناك بعض الشكاوى من أن العديد من أفراد هذه القوات يهجرون الخدمة بعد تلقيهم الدورات التدريبية وقد ينضم بعضهم لحركة الشباب المجاهدين أو المليشيات الصومالية الأخرى ، بينما تنشط كذلك في مجالالتجسس على جيش الرب الذي يعتقد أن جل قواته تتركز الآن في أفريقيا الوسطى. أما في السواحل الكينية فقد قامت آفريكوم ببناء مدرجبخليج ماندا في أرخبيل لامو الذي يقع شمال شرق ميناء ممباسا. يتيح المدرج إمكانية الهبوطلطائرات "سي – 130" أثناء الليل وفي الظروف الجوية غير المواتية ، وتشير المعلومات إلى أن هناك حوالي 120 فرداً من أفراد القوات الأمريكية في تلك القاعدة التي تستغل في الوقت الحالي لتنفيذ هجمات على حركة شباب المجاهدين الصومالية. كما كشف قائد القيادة الأفريقية في مارس الماضي أثناء تقديم شهادة له أمام الكونغرس الأمريكي عن خطة لإقامة قاعدة للتجسس في أنزارا بجمهورية جنوب السودان بدعوى تعقب تحركات جوزيف كوني وجيش الرب. إلا أن القاعدة المقترحة يمكن أن تغطي كذلك المنطقة الحدودية مع جمهورية السودان بلومناطق واسعة من السودانبما في ذلك المناطق الملتهبة في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة. المعروف أن الكثير من الدبلوماسيين الأمريكيين يبدون قلقهم من تنامي الاتجاه نحو عسكرة السياسية الخارجية لبلادهم في القارة الأفريقية نتيجة للدور المتعاظم لآفريكوم ، ويذهب هؤلاء للقول بأن معظم التنظيمات الإرهابية في أفريقيا تسعى لتحقيق أهداف محلية ولا تشكل خطراً يذكر على سياسة الولاياتالمتحدة على الساحة الدولية. إلا أن بعض السياسيين الأفريقيين يبدون ترحيبهم بنشاط آفريكوم في بلادهم ، فقد نقلت الواشنطن بوست في تقريرها المشار إليه أن وزير خارجية بوركينا فاسو جبريل باسولي أكد لها اهمية الوجود الأمريكي في بلاده كضمان ضد تسلل عناصر من القاعدة عبر حدودها خاصة وانه سيصعب جداً التخلص من مثل هذه العناصر إذا ما تمكنت من التسلل عبر الحدود الدولية. من الواضح أن الاستراتيجية الأفريقية التي أعلن عنها الرئيس أوباما تقابل بمشاعر متباينة فبينما يرى البعض خاصة بين المسئولين الأفريقين أنها تشكل ضمانة للأنظمة التي يمثلونها ، فإن الكثيرين بما في ذلك بعض الدبلوماسيين الأمريكيين أنفسهم يشيرون لخطورة عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية في أفريقيا إذ أن الحلول العسكرية للمشاكل الأفريقية لن تقود لحلها بل لتفاقمها بالصورة التي تنعكس سلباً على المواطن الأفريقي المغلوب على أمره كما حدث من قبل في الكونغو الديمقراطية ويوغندا عندما حاولت القوات الأمريكية استئصال جيش الرب في البلدين حيث لم ينتج عن ذلك إلا المزيد من عمليات العنف ضد القرويين الأبرياء. كما أن الكثيرين يرون أن الهدف النهائي من الاستراتيجية ليس هو تحقيق التنمية والاستقرار في أفريقيا ، بل هو محاولة لاسترداد الأراضي التي فقدتها الولاياتالمتحدة في القارة بسبب المنافسة الصينية. ويتهيب الكثير من قادة ومواطني الدول الأفريقية منالتنافس بين القوى العظمى إذ أنه ينذر بعودة أجواء الحرب الباردة التي تضررت منها القارة في الماضي حيثكانت بمثابة الحشيش الذي تدهسه الأفيال في صراعها كما يقول المثل الكيني السائر. Mahjoub Basha [[email protected]]