شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص الخطبة التي ألقاها الزبير محمد علي في مسجد الهجرة بودنوباوي
نشر في سودانيل يوم 09 - 02 - 2013


بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد.
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين) النحل (125). ويقول أيضاً: (قلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ( يوسف (108(.
أيها الأحباب:
الإسلام اليوم قوة ثقافية واجتماعية كُبرى، ومع أن المسلمين في عصرنا الحالي هم الأضعف سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وعلمياً ألا أن الإسلام هو أوسع الأديان انتشاراً في كافة أرجاء المعمورة:
- في فرنسا 30% من الشباب دون العشرين مسلمون، وفي المدن الكبرى يرتفع إلى خمس وأربعين في المائة.
- عدد المسلمين في روسيا بلغ 23 مليون مسلم أي 20% من نسبة السكان، ونشرت صحيفة برافدا الروسية عام 2008م مقالاً بعنوان: " الإسلام سيكون دين روسيا الأول في العام 2050م".
- في تقرير لشبكة سي إن إن بعنوان الانتشار السريع للإسلام في الغرب: ( أن أعداد المساجد تُنافس أعداد الكنائس في باريس ولندن وروما، وأن نسخ القرآن من أكثر النسخ مبيعاً في الأسواق الأوروبية والامريكية".
علاوةً على هذا فقد ازداد الوعي الديني في البلدان الإسلامية، ونمت أعداد المساجد بصورةٍ كبيرة، وازدهرت معاهد العلم والجامعات التي تهتم بدراسة العلوم الشرعية، واتسعت فضاءات الدعوة بصورة مُنقطعة النظير عن السابق، وصار أعداد الدعاة الذين يُبشرون بدعوة الإسلام لا يُحصون، وصارت الحماسة الإسلامية هي الغالبة:
- في تركيا، وإيران (بغض النظر عن الاختلاف المذهبي)، وفي تونس، وفي مصر وغيرها. وكان ينبغي أن تُصاحب هذه النقلة نقلة أُخرى في الخطاب الديني، ومع تقدم الخطاب الديني في المؤتمرات والندوات الفكرية التي يعقدها العلماء والمُفكرون، إلا أنه ظل متراجعاً من حيث جودة المضمون والأسلوب في المساجد، وركزت هُنا على المساجد أولاً للرمزية التاريخية التي تمتعت بها، فقد كانت في الصدر الأول مقر رئاسة الوزراء وقيادة الأركان التي تنطلق منها الجيوش الإسلامية، إضافة إلى الدور التربوي الذي تطلعُ به تجاه المجتمع الإسلامي. وثانياً: لإن منابرها هي الأكثر تأثيراً في نفوس المسلمين والأقرب وجداناً لهم؛ ولذلك كان لابد أن نضع الخطاب الديني في المساجد على مشرحة التقييم بهدف الإبقاء على الإيجابيات، والتخلص من السلبيات تطلعاً نحو الوصول إلى تحقيق معالم المنهج الدعوي السليم على أرض الواقع تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ).
أحبتي في الله:
الخطاب الديني الآن في المساجد مُصاب بعللٍ كثيرة أذكر منها:
- ضعف التبشير بشمول الإسلام.
- قلة التخطيط.
- عدم الوعي بفقه الواقع، وفقه الأولويات، وفقه الموازنات.
- الفظاظة في الأسلوب، والخشونة في التعامل.
- وأخيراً دخول لغة السب والشتائم والتنابذ إلى المسرح الدعوي، إضافةً إلى الاهتمام بتناول الأشخاص وتجريح الفرق المختلفة.
هذه العلل جاءت خصماً على نجاح الدعوة، وكانت سبباً في إشعال فتيل النزاع بين المسلمين، وإيقاظ الفتن من مراقدها إلى مساجدنا، لذلك سنُحاول أن نُبيَن معالم المنهج الدعوي السليم الذي ينبغي أن يسير عليه الخطاب الديني في المساجد، مسترشدين في ذلك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحباب:
من أهم السمات التي يجب أن يتصف بها الخطاب الديني في المساجد ما يلي:
أولاً: الشمول:
الإسلام هو منظومة متكاملة تشمل تنظيم كافة نواحي الحياة، وهدايته حاضرة في كل المجالات العقدية والعبادية والحضارية؛ ولكن الخطاب الدعوي الآن يهتم بتناول الجوانب العقدية والعبادية، أما البعد الحضاري للإسلام فهو غائب تماماً عن الخطاب الدعوي، وهذه مشكلة كبيرة لإنها تفصل شبابنا عن الإتصال بحضارتهم مع إلتزامهم العقائدي والعبادي بالإسلام، والنتيجة ستكون في ظل دخول العالم في مرحلة الغرفة الكونية الواحدة الآتي:
- إذا سألت عن احترام كرامة الإنسان وحقوقه سيُشار إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
- إذا سألت عن احترام كرامة المرأة وتحريرها من ظلمات الجاهلية سيقفز إلى ذهن الشباب/ الشابات إتفاقية سيداو.
- إذا سألت عن الاهتمام بالبيئة الطبيعية وحمايتها من التلوث سُيشار إلى معاهدة كوبنهاجن.
- إذا سألت عن التعامل الأخلاقي مع أسرى الحرب سيُشار إلى معاهدة جنيف بإتفاقياتها الأربع بشأن حماية الأشخاص المدنيين في أوقات الحروب.
- إذا سألت عن حرية الملكية الفردية سيُشار إلى الرأسمالية، وإذا تحدثت عن العدالة الاجتماعية سيُشار إلى الإشتراكية.
- إذا تحدثت عن الحريات سيُشار إلى الليبرالية، وإذا تحدثت عن المساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون والعدالة والمساواة والحرية، وأن يأتي الحاكم إلى السُلطة عبر رضا الناس سيُشار إلى الديمقراطية.
- إذا تحدثت عن الثقافة الجنسية سيقفز إلى الذهن بأن المسألة مجرد مؤامرة هدفُها الترويج للانحلال الأخلاقي.
هذه هي نتيجة غياب البعد الحضاري للإسلام في الخطاب الديني: إنها تُنتج مُسلماً غير مُلم بتراثه الحضاري مع إلتزامه بالإسلام في المجالات العقدية والعبادية. بل إنها تدفع في المقابل ثلة أخرى من الشباب إلى ما أسميته: "الهجرة الفكرية إلى الحضارة الغربية في المجالات الحياتية مع الإلتزام بالإسلام في الجوانب العقائدية والشعائرية" والإلتزام الذي أقصده إما أن يكون قناعةً دون عمل، أو قناعة مصحوبة بعمل.
أيها الأحباب:
كل القيم والمباديء التي ذكرتُها لها جذور وإمتدادات في تعاليم الإسلام، ولكن الغربيين نجحوا في تحويلها إلى أرض الواقع بينما فشلنا نحن أصحاب السبق الحضاري في ترجمتها إلى واقعٍ عملي، مما ينفي التخلف عن الإسلام كدين، في الوقت نستحق نحن أن نُوصف بهذا التخلف. على الخطاب الديني في المساجد أن يعكس هذا الشمول، وأن يُدخل البعد الحضاري للإسلام ضمن المعادلة الدعوية بغية إنتاج مُسلم مُلم بعقيدته وعباداته وحضارته. مُسلم ملتزم بالإسلام عن قناعةٍ كاملة لا عن وراثة الأبوين فحسب.
ثانياً: من علل الخطاب الديني أيضاً تركيزه على الجوانب الأخروية بصورةٍ قد تفصل المُسلم عن الحياة، وهنا نفقد إسهام المسلمين في الدفع بالأمة إلى الأمام. التركيز على الآخرة مهم ولكن يجب أن يكون بصورةٍ تجعل المسلم عنصراً فاعلاً في بناء حضارة أمته، ويحضرني في هذا المقام نموذجين:
الأول: نموذج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا أزهد الناس في الدنيا (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)، ومع ذلك بنوا حضارة عظيمة حتى بمقاييسنا المُعاصرة، لم يمنعهم الزهد من العطاء بلا حدود في سبيل رفعة الإسلام.
الثاني: نموذج الإمام المهدي وأصحابه، هؤلاء بلغوا في الزهد شاؤاً بعيداً (وشياطين الإنس والجن من الدنيا المُشاهدة بالعيان، وسحر من اللذة والزينة والجاه الذي يُعقب الخُسران، فلا خلوص لنا إلا بك فأرفعنا منها بلطفك يا منان)، ومع ذلك طردوا الاستعمار البريطاني رغم اختلال ميزان القوى المادية، ووحدوا السودان، وأقاموا دولة قوية استطاعت أن تصمد ثلاثة عشر عاماً رغم الطُوفان الإستعماري المُحيط بها من كل الإتجاهات.
فالصحابة في الصدر الأول، والأنصار في القرن التاسع عشر استطاعوا أن يخلقوا انسجاماً في جدلية ما أسميته (الإبداع في العطاء، والزهد القلبي في دار الفناء، والتطلع الفوري لبلوغ دار البقاء).
على الخطاب الديني أن يُراعي هذا التوازن؛ لإن البعض تحت ستار الإخلاص ترك التجويد خوفاً من الرياء، وترك الإبداع خشية الانحراف عن مسار الزهد، في حين أن الأكمل هو أن نبدع ونزهد ونخلص في آنٍ واحد كما فعل السابقون.
ثالثاً: التدرج:
الله سبحانه وتعالى لم يُحرَم الخمر جملةً واحدة، بل بدأ أولاً بتبيان ضررها ونفعها، ثم أمر المسلمين ألا يقربوا الصلاة وهم سكارى، ثم نهاهم في الثالثة نهياً قاطعاً. ومع وجود الفارق في المُخاطبين إلا أن الخطاب الدعوي يجب أن يستفيد من هذا التدرج، وعلى الداعية أن يُقدَر هذه المسألة، وألا يندفع في تصحيح الأخطاء جملةً واحدة إلا إذا تأكد أو غلب على ظنه تقبل الناس للحديث، وهذه المسألة تقع في إطار الحكمة، ولذلك عندما قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: "ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق". رد عليه عمر: "لا تعجل يا بُني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإنى أخاف أن أحمل الحق على الناس جملةً، فيدفعوه جملةً ويكون فتنة).
لا يعني هذا أن يكف الدعاة عن تصحيح الأخطاء؛ ولكن يجب تحري الأسلوب الدعوي الأمثل والأنجح في تصحيح الأخطاء؛ لإن كل عمل يُحقق عكس مقاصده فهو باطل.
ثالثاً: اللين والسماحة في الدعوة:
وهنا نستحضر أسلوب تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الإعرابي الذي بال في المسجد، حيث قال لأصحابه بعد أن صاحوا بالرجل: (لا تزرموه – أي لا تقطعوا عليه بولته- وصبوا عليه ذنوباً من ماء فإنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا مُعسرين). وكانت النتيجة الآنية أن قال الأعرابي: (اللهم أرحمني وأرحم مُحمداً ولا ترحم أحداً معنا!).
كذلك لابد أن نتبع أسلوب الشفقة على الآخرين لا التشفَي، وهنا أيضاً نستحضر وقوف النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة اليهودي، فقيل له: إنها جنازة يهودي. فقال: أليست نفساً فلتت مني.
رابعاً: مراعاة ثقافة المُخاطب وعقله وتحري الأسلوب الذي يستميله إلى قبول الحق. وهنا يجب الاستفادة من نموذج نبي الرحمة في تعامله مع الشاب الذي أراد أن يُرخص له في الزنا، لم يزجره بل قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال: لا. قال: (ولا النّاس يحبّونه لأمّهاتهم). الشاهد أنه لم يُعنَف هذا الشاب، بل عرف كيف يُحاوره بصورةٍ تُقنعه بالكف عن المُنكر.
الطريف أن أحداً من العلماء ذهب إلى بريطانيا، فجيئ له بشخص حديث العهد بالإسلام ينطق الشهادتين ويُصلي ويصوم؛ ولكنه لم يترك الزنا، وأراد هؤلاء من العالم أن يقنعه بتركه، فخاطبه العالم: أترضاه لأمك؟ قال: نعم!. وهنا احتار العالم ماذا يقول لهذا الشخص، والخطأ أن العالم لم يُراع ثقافة هذا الشخص، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خاطب الشاب الإعرابي بتلك اللغة عزف على وتر حساس لدى العرب وهو الشرف، ولكن الشرف لدي الغربيين لا أهمية له، وكان الأولى أن يقول هذا العالم للشاب: إن العلم الحديث أثبت أن ممارسة الزنا ستسبب الأمراض الآتية، ولو قال له ذلك لحقق الغرض المنشود؛ ولكنه ركز على استلاف حرفية الأسلوب النبوي لا عمقه مما أدى إلى فشل المقصد المنشود.
- خامساً: تجديد الخطاب الدعوي وتنويعه، وتجنب التكرار الذي يُؤدي إلى ملل الناس. علَق أحد طلاب الثانوي عن أسلوب بعض الدعاة: استمع لهم في المسجد فتحدثوا عن التوحيد والشرك، وهكذا في منابر أخرى تكرر الحديث، وعندما التحق بدورة شرعية أيضاً وجد الحديث عن نفس القضية، فعلق قائلاً: يا جماعة أها نحنا وحدنا شوفوا لينا الخطوة التانية المفترض نعملها!.
كذلك بعض الآئمة يستلفون خطب العصر العباسي والعثماني لمُخاطبة المسلمين، ومع أن هذه الخُطب قد أدت مقصودها في تلك العصور، إلا أنها بعيدة الآن عن واقع الناس. لابد أن يهتم الخطاب بملامسة واقع الناس ومعالجة مشاكلهم، ودراسة أزماتهم الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية والسياسية ثم يطرح حلولاً مستهدية بتعاليم الإسلام لمُعالجتها.
سادساً: حضور الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة:
- من الحكمة ألا يفترض الداعية أنه عالم ومن يُخاطبهم جُهلاء. إذا حس المُخاطبون بهذا الأسلوب الاستعلائي فلن يستجيبوا لما يقول الداعية، بل ربما طردوه من المسجد، وهذا الطرد ليس رفضاً للقرآن أو السنة؛ وإنما رفضٌ لاستعلاء الأسلوب، وخشونة الخطاب، وفظاظة الدعوة.
- من الحكمة كذلك ألا يفرض الداعية نفسه على الآخرين فرضاً، وألا يلزمهم بخياره الفقهي، قال الإمام أبو حنيفة: (هذا الذي نحنُ عليه لا نلزمُ به أحداً، ولا نقول يجب على أحدٍ قبوله بكراهية فمن كان عنده خيرٌ منه فليأت به).
- من الحكمة كذلك ألا يعتقد الداعية أنه على الحق المُطلق والآخرين على الباطل المُطلق؛ لإن آئمة السلف أنفسهم كانوا مُدركين لهذه المعاني سُئل أبي حنيفة بعد الإفتاء في مسألة: (أهذا هو الحق الذي لاشك فيه؟ فقال: وقد يكون الباطل الذي لاشك فيه!).
- من الحكمة أيضاً أن يبتعد الداعية عن تفسير نوايا الآخرين، لإن النوايا مكانها القلب، ولا أحدا يطلُع عليها إلا الله تعالى، ولذلك عندما قتل أسامة بن زيد مشركاً بعد أن قال لا إله إلا الله سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب القتل بعد نطق الشهادتين، فقال أسامة: ولكنه قالها خوفاً من الموت، فرد عليه نبي الرحمة: أشققت صدره حتى تعلم أقالها أم لا " قال أسامة: فما زال يُكررها علي حتى تمنيتُ أني أسلمت يومئذٍ!.
- من الحكمة كذلك ألا يُنصب الداعية نفسه قاضياً على المُسلمين، يُدخل من يشاء في زمرة المؤمنين ويُخرج من يشاء، على الداعية البلاغ أما الحساب فسيتولاه الله تعالى يوم القيامة. والآيات واضحة حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم (ليْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر). والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال: "إنما بُعثتم هُداة لا جُباة".
- ومن الحكمة أيضاً أن يبتعد الخطاب عن لغة السب والشتائم، وأن يهتم بتصحيح المفاهيم السالبة والأخطاء دون الأشخاص والمسميات، كذلك يجب أن يبتعد عن لغة التكفير والتخوين وهي لغة على أي حال دخيلة على الساحة الدعوية في السودان.
أحبتي في الله:
الإسلام دخل إلى السودان سلماً، وقبله دخلت المسيحية سلماً أيضاً. الخلافة الإسلامية استطاعت أن تفتح بلداناً كثيرة؛ ولكنها عندما أرادت أن تفتح أرض السودان قاومها السودان النوبي إلى أن أقام الطرفان إتفاقية البقط في سنة 31 هجرية.
بعض الدُعاة الذين درسوا في الخارج، أو انتموا لمدارس لديها إمتدادات خارجية لم يفهموا هذه الحقيقة، ولذلك تحصُل الاصطدامات أحياناً بينهم وبين عوام المسلمين.
لابد للدعاة أن يُدركوا حقيقة أن استجابة أهل السودان للإسلام كانت سلمية وليست بالإكراه، وأن يعلموا أن نجاح الدعوة يحتاج أول ما يحتاج إلى الدخول إلى الناس عبر الباب الذي يحبونه.
ويجب ألا ننسى أن الروابط التي تجمع بين المسلمين أكثر من التي تُفرقهم. نحن نُؤمن بإلهٍ واحد، وكتابٍ واحد، ورسولٍ واحد، ونُصلي على قبلةٍ واحدة، ونُمارس شعائر عبادية واحدة، ووجدانُنا مشترك، ومصلحتُنا مشتركة.
نحن كمسلمين علينا أن نعتصم بحبل الله جميعاً، وأن ننبذ الفرقة، وأن نمتثل الأسلوب النبوي في الدعوة، أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، وليكن تعاملنا مع المُخالف بأسلوب (وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) في هذه الآية يأمر القرآن المُحاور المُسلم بأن يعلن التساوي مع الآخرين في الهدى والضلال قبل بدء الحوار، وليكن إثبات الحق مع أي طرف مِن خلال الحوار. كذلك (قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يذهب القرآن أكثر من التساوي بأن يأمرنا أن نصف أفعال الآخرين بالعمل، وأفعالنا بالإجرام. هذا النهج يُجنَب الداعية غرور الذات وازدراء الآخرين واحتقارهم، وهو أسلوب بلا شك يُساعد على نجاح الدعوة، مثلما تُقلص غلظة القلب من مساحة الانتصار للحق (فبمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
استغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
اللهم إني أحمدك وأثني لك الحمد يا جليل الذات ويا عظيم الكرم، وأشكرك شكر عبد معترف بتقصيره في طاعتك يا ذا الإحسان والنعم، وأسألك اللهم بحمدك القديم، أن تصلي وتسلم علي نبيك الكريم، وآله وصحبه ذوي القلب السليم، وأن تُعلي لنا في رضائك الهمم، وأن تغفر لنا جميع ما اقترفناه من الذنب واللمم.
أحبتي في الله:
التكفير آفة من الآفات الفتّاكة التي تواجه العمل الإسلامي المعاصر من الداخل؛ وهو أحد أوجه التطرف الذي يشفّ عن نزعة استعلائية متعصبة تسيء الظن بالآخر، وتُورث إعجابًا بالذات لدرجة قد تصل حدّ الغرور. نزعة تجعل رأي البشر في مقام قداسة الوحي على نحو ما قال الكرخي- أحد فقهاء الأحناف- "كل آية أو حديث يُخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ.
الحقيقة التي لاريب فيها أن تكفير المُسلمين المُخالفين في الرآي بدعة خوارجية مُوغلة في اتباع الهوى، ومُسرعة في اتهام الآخرين بالسوء في أحيانٍ كثيرة بغير بيّنة، وهي نزعة شيطانية على رأي ابن القيم "ما أمر الله بأمرٍ إلاّ وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلوّ. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه") .
هذه البدعة ظهرت في أيام الفتنة الكُبرى، عندما وقع الانقسام بين مُعسكري معركة الجمل، فخرجت من رحم ذلك الانقسام تلك الفرقة التي سُمّيت بالخوارج؛ هذه الفئة بلغت في التنَطّعِ مبلغًا أوصلها إلى تكفير مرتكب الكبائر إذا مات ولم يتب توبةً نصوحًا. ولم تقف عند هذا الحد؛ بل كفّرت نفرًا من الصحابة أبرزهم علي وعائشة بحجة تحكيم الرجال في دين الله.
وقد ساهم في إحياء تلك البدعة الخوارجية في العصر الحديث الشيخ أبو الأعلى المودودي والأستاذ سيد قطب، هؤلاء أيقظوا فتنة التكفير من مرقدها الأول إلى عصرنا الحالي، وكان ذلك بفعل الموجة الهندوسية التي شكلت خطراً على الهوية الإسلامية في شبه القارة الهندية في حالة المودودي، ومحنة القهر والبطش الذي شهدته مصر إبان الحقبة الناصرية في حالة سيد قطب، وتلك قضية أخرى.
القضية الأهم بالنسبة لنا أنه وبعد المراجعات التي أصدرتها الجماعة الإسلامية في مصر وجماعة الجهاد في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بدأت البذور الخوارجية تنبت من جديد في التربة الإسلامية:
- قبل يومين استحل أحد الدعاة دم قادة جبهة الإنقاذ المُعارضة في مصر، وأشار تحديداً إلى زعيمين من قادة الجبهة، وهذا الاستحلال للدماء المعصومة ليس لأسباب دينية وإنما لأسباب سياسية تتعدد الآراء حولها بحُكم الطبيعة البشرية. المُدهش أن حزب النور السلفي لديه إتفاق مع جبهة الإنقاذ، وهو حزب يعتمد المرجعية الإسلامية على فهم السلف، وهو نفس المنبع الذي يشرب منه الداعية الذي كفَر زعماء جبهة الإنقاذ.
- وفي السودان هنالك حديث عن تكفير الموقعين على وثيقة كمبالا (الفجر الجديد)، وهذا تطورٌ خطير سوف يدفع الساحة الفكرية السودانية إلى نفق عميق لا قاع له ولا محيط.
أيها الأحباب:
السودان اليوم يمرُ بمنعطف خطير في كافة المجالات:
- في المجال السياسي هنالك هوة كبيرة بين التيارات السياسية في البلاد: نظام حاكم متشبس بالسلطة، ومعارضة مدنية تدعو إلى تغيير النظام عبر الوسائل السلمية، ومُعارضة مُسلحة لا تجد حرجاً في تغيير النظام بالقوة.
- في المجال الاقتصادي يمر السودان بكارثة حقيقة وصلت حد الغلاء الطاحن في السلع الاستهلاكية والتي دخلت في مستوى الإرتفاع الجنوني.
- في المجال الاجتماعي: غالبية الشباب يرغبون في الهجرة إلى الخارج وحتى الكهول، وصارت البلاد طاردة حتى لأبنائها.
- في المجال الأمني تعددت جبهات القتال بصورة لم يشهدها السودان في تاريخه: في دارفور، وفي جنوب كردفان، وفي جنوب النيل الأزرق.
- في مجال العلاقات الخارجية: لدينا مشكلة مع المجتمع الدولي، ولدينا حرب باردة وأحياناً ساخنة مع دولة جنوب السودان سيما وأن الإتهامات المُتبادلة بين القادة في الدولتين هي سيدة الموقف ما يُوشك بإنهيار إتفاقية التعاون المشترك.
- في مجال الإعلام هنالك تضييق على الإعلام الحر في البلاد، بل تصفية ممُنهجة.
- في الحريات حدث ولا حرج.
فإذاً نحن أمام مشكلة كبيرة، والساحة السودانية غير مستعدة لتحمل أزمات جديدة، والذين يُكفَرون الآخرين كان الأولى أن يوفروا جهدهم هذا في سبيل حل الأزمة السياسية في البلاد، أو رأب الصدع بين الحكومة والمعارضة المسلحة بدلاً من استصدار فتاوي تكفيرية على المستوى الديني، أو تخوينية على المستوى السياسي.
وفي هذا الصدد لا بد من الإشادة بموقف الأزهر الشريف في محاولته لجمع التيارات السياسية المُختلفة، تمهيداً لحل الأزمة في مصر، نعم قد ينجح أو لا؛ ولكن الموقف كموقف يستحق الإشادة.
أحبتي في الله:
الإمام النووي قال ما معناه أن القضايا الخلافية ليس فيها أمرٌ ولا نهيٌ المنكر، ولا إنكار فيها على المُخالف، وإذا كان الحال كذلك فمن باب أولى القضايا السياسية التي تتعدد فيها الرؤي نسبة لتباين البشر في وجهات النظر وتقدير الأشياء، والأولى أن نُعالج هذه الخلافات بالحوار لا بالتكفير والتخوين.
كذلك فإن أي تضييق على القوى السياسية المدنية من شأنه أن يدفع البلاد إلى انسدادٍ كاملٍ في أُفق الحل السياسي السلمي، وسوف يُدخل البلاد في أُتون مواجهات تزيد الأزمة السياسية الراهنة أثقالاً مع أثقالها.
لابد من كفالة الحريات، وعلى القوى المُعارضة مسلحة أكانت أم مدنية أن تتوحد، وعلى النظام أن يستجيب للمطالب الوطنية المشروعة التي تدعو إليها المعارضة؛ وإلا سوف يجتاحه طُوفان التغيير الذي هو الآن هادئاً؛ ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
اللهم هييء لبلادناً مخرجاً سلمياً إنك ولي ذلك والقادر عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.