ص الرأي – جريدة "الأهرام اليوم" الثلاثاء 28/5/2013 بحصافة [email protected] تطرقت في الجزء الاول من هذه العُجالة الرثائية التي نُشرت في هذه الصحيفة يوم الخميس الماضي، إلى تقدمة لكيفية انضمامي إلى اجتماعات الهيئة العليا لإحياء ذكرى عشرية الراحل البروفسور عبد الله الطيب ومجاهداته وابداعاته ومبادراته الفكرية والثقافية، وبعض مواقفه تجاه بعض رسلائه من أساتذة جامعة الخرطوم. وأشرت في ذلكم الجزء إلى مساهماته العميقة والثرة في إثراء الثقافة العربية والإسلامية والتراث الإنساني، بدءاً من تفسير القرآن الكريم بلغة مبسطة يسرت فهم مقاصده ومعانيه لعموم أهل السودان، بمختلف مستوياتهم التعليمية، وتباين مدارجهم الفكرية واختلاف مداركهم الثقافية، انتهاء بالبرامج الثقافية والأدبية في الإذاعة والتلفاز. وحرصت على تبيان حقيقة أن الراحل البروفسور عبد الله الطيب يحتفي أيما احتفاء بمبادرات طلابه، ويساعدهم بجهده واجتهاده وعلمه ووقته من أجل إنجاح مبادراتهم. ونواصل اليوم تكملة هذه العُجالة، بحثاً عن التماسة عزاء، وتأكيداً على ضرورة إحياء فضيلة الوفاء، ترحماً وتذكرة، لأن الذكرى تنفع المؤمنين، تصديقاً لقوله تعالى: "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين". وجميل هنا، أن تنحدث عن وفاء الأوفياء للراحل البروفسور عبد الله الطيب، ففي اليوبيل الفضي لجامعة الخرطوم في عام 1981، منحته الجامعة في عهد ادارة البروفسور الراحل عمر محمد بليل درجة الدكتوراه الفخرية. وكان البروفسور بليل يحتفي به احتفاءً خاصاً، واذكر هنا عندما كنت طالباً في سنيني الأولى بجامعة الخرطوم، وفي الوقت نفسه، إعلامياً في مكتب مدير الجامعة، علمت من البروفسور بليل ان بعض اليساريين من اساتذة الجامعة ذهبوا اليه مطالبين بالاستفادة من مكتب ومنزل البروفسور عبد الله الطيب، باعتبار انه لم يعد استاذا في الجامعة، وقتها كان استاذا في جامعة فاس المغربية، فكيف يحتفظ له بمكتب في كلية الاداب ومنزل من المنازل المخصصة لاساتذة الجامعة في بري بالخرطوم، وهو المنزل الذي شيع جثمانه منه، ورفض البروفسور عمر بليل هذا الطلب، وقال لهم: "ان للجامعة أساتذة كثرا، ولكن للسودان عبد الله الطيب واحد". وبالفعل كان موقفا نبيلاً من رجلٍ نبيلٍ، وجد صدى طيبًا لدى أصدقاء وتلاميذ البروفسور عبد الله الطيب. ولقد اخبرت البروفسور عبد الله الطيب بهذا الامر، فكانت بينهما أصلا مودة متبادلة، فزادت وتوثقت، ولقد خصني وقتها البروفسور عبد الله الطيب بقصيدة مادحة في البروفسور بليل ذكره فيها عندما عينه مديرا لمستشفى سوبا الجامعي توقع له مستقبلاً باهراً مطلعها: سوبا التي صنعتها، فهو كان وفياً يحب الاوفياء. وكان البروفسور عبد الله الطيب وفياً محباً لاصدقائه وتلاميذه. واذكر في هذا الصدد انه كانت تربطه مودة خاصة ومحبة عامرة بالبروفسور دفع الله عبد الله الترابي اول عميد سوداني لكلية الهندسة في جامعة الخرطوم وهو من المهندسين القلائل المهتمين والعارفين بامور التعريب في السودان. وكان البروفسور عبد الله الطيب يقول لنا في مجالسه الخاصة ان الدكتور حسن الترابي (الزعيم الإسلامي المعروف) ظلم البروفسور دفع الله ظلماً فادحاً، لأن خصوم الترابي السياسيين كانوا يعادون دفع الله ويكيدون له المكائد في جامعة الخرطوم لا لشيء إلا لكونه شقيق الدكتور حسن الترابي. ولذلك عندما عاد البروفسور دفع الله الترابي من جامعة الملك سعود في الرياض، العودة النهائية في ثمانينات القرن الماضي، كنت قريباً من البروفسور عمر بليل مدير جامعة الخرطوم آنذاك ومنه، لذلك عملت جاهداً للتقريب بين الطرفين، ووفقت في ذلك بفضل من الله تعالى. وعندما كان الدكتور حسن الترابي نافذ السلطة والسلطان في عهد الانقاذ (قبل الانشقاق) عزف البروفسور دفع الله الترابي عن تقلد اي منصب رفيع حتى لا يقول الناس انه تقلد هذا المنصب، لكونه شقيق الدكتور حسن الترابي. وبالفعل عانى البروفسور دفع الله الترابي من مكايدة نظام نميري، لكونه شقيق الدكتور حسن الترابي، إذ انه فُصل تعسفيا، مما اضطره إلى الهجرة إلى نيجيريا ثم إلى السعودية، حيث عمل أستاذاً في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود في الرياض. أخلص إلى أن للبروفسور عبد الله الطيب عشرات المؤلفات وداودين الشعر، من أهم مؤلفاته "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" من 5 أجزاء، وكان قد فرغ من الجزء الخامس قبل اصابته بالمرض ببضع سنوات، وقدم له الدكتور طه حسين عميد الادب العربي. ويعتبر هذا الكتاب من اهم المراجع العربية في مجال اختصاصه، وقد حصل عليه على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي لعام 2000. وجاء منح البروفسور عبد الله الطيب هذه الجائزة تقديراً لجهوده العلمية واسهاماته الأدبية الكثيرة، فهو محيط بالشعر العربي وتاريخه وقضاياه إحاطة قل أن تتوافر لكثير من الدارسين. وقد تميزت مؤلفاته بطابع أصيل يربطها بأمهات الكتب في الادب العربي ونقده، وإضافة حقيقة للتراث الأدبي العربي. وله آراء جريئة في كثير من القضايا الأدبية والتاريخية. ومن أبرز هذه الآراء أن الشاعر الإنجليزي ت. اس اليوت سرق كثيراً في مضامين شعره ومعانيه من الشعر العربي، واستدل على ذلك بأدلة دامغة وحجج قوية وبراهين ثابتة، مقارناً بين شعره وشعر شعراء العصر الجاهلي وغيرهم. كما له رأي جريء في هجرة الصحابة الاولى الى الحبشة، فكان هو أول مَن اثبت بالأدلة التاريخية والحقائق الجغرافية أن هجرة الصحابة الأولى كانت إلى السودان، وأن بلال الحبشي هو سوداني من دنقلا، وتبعه في ذلك بعض المؤرخين والكتاب السودانيين. والفقيد متزوج من جيرزلدا، وهي فنانة تشكيلية بريطانية، تزوجها عندما كان طالباً في جامعة لندن في نهاية الأربعينات. وقد اسلمت جيرزلدا وسماها جوهرة. واعتاد البروفسور عبد الله الطيب على قضاء العطلة الصيفية في لندن من كل عام. وكنت أكثر من زيارته في شقته بفورست هل بجنوبلندن، فهي لا تبعد كثيراً من منزلي في جنوب غرب لندن. وعندما جاء الى لندن كعادته في عطلته الصيفية عام 2000 أصيب بجلطة دماغية تلقى من جرائها العلاج في بريطانيا، وكانت صحته تتقدم ببطئ مما اضطر أسرته إلى نقله إلى مستشفى "ساهرون" في الخرطوم، ثم بدأ يواصل تلقي العلاج في منزله الى حين وافاه الأجل، يوم الخميس 19 يونيو 2003، ودفن في مقابر حلة حمد بالخرطوم بحري، فها هو عبد الله الطيب مفسر القرآن في رحاب الرحمن. وحدثني مَن أثق في روايته أن بركات الراحل تنزلت على مقابر حلة حمد fبالخرطوم بحري صار المكان مُضاء ليل نهار، حتى أن أهل الحي غشتهم البركات بإضاءة الشوارع المجاورة لمنازلهم، أحسب أن هذه من بركات القرآن الكريم. وها نحن ننتظم في هذه الاحتفائية في ذكرى عشريته الأولى، بحثاً عن التماسة عزاء، واستجابةً لنداء الوفاء. لقد استفدت كثيراً في كتابة هذه العُجالة الرثائية لأستاذي البروفسور عبد الله الطيب المجذوب، من عُجالة مماثلة كنت قد كتبتها بدمع سخين، وحزن دفين بعد يومين من وفاته بعنوان "عبد الله الطيب.. مفسر القرآن في رحاب الرحمن"، وذلك يوم السبت 21 يونيو 2003 في صحيفة "الشرق الأوسط". وجميل أن يقرر اجتماع الهيئة العليا لذكرى عشرية العلامة عبد الله الطيب الاتصال بوزارة الإرشاد والأوقاف، لتخصيص خطب الجمعة 7 يونيو المقبل للحديث عن مآثر العلامة عبد الله الطيب مفسر القرآن الكريم لعموم أهل السودان. وقال الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول وختاماً أردت بهذه العُجالة أن أُرثي أستاذي البروفسور عبد الله الطيب، سائلاً الله تعالى، تصديقاً لقوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"، داعياً متضرعاً أن يتقبله الله تعالى، قبولاً طيباً حسناً، وأن يغفر له مغفرة واسعة، وأن يسكنه فسيح جناته مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا، ويلهم أهله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وطلابه ومعارفه وبني وطنه الصبر الجميل. "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".