عطاءٌ بلا حدود ، كما تجسدها هذه الحكمة الشعبية و هي لا تحتاج إلي تعريف حتي نُدرك ماهيتها –ربما يكون هذا الأمر صحيحاً للكبار و حتي الصغار الذين أُتيحت لهم فرص السفر و مشاهدة أنواع مختلفات من البيئة و الطبيعة، و لكن مع التدهور الإقتصادي و إنخفاض مستوي المعيشة لم تعد المعرفة الحقلية مُتيسرة لقسم كبير من السكان.أيضاً ساهمت السياسات العامة في إنغلاق المواطنين في أقاليمهم- مثل سياسات التعليم التي أدت إلي تلقي الطلاب لدراساتهم في غالب المراحل الدراسية بما في ذلك الجامعة و المعهد العالي بولاياتهم!كذلك سياسات التوظيف التي أخذت تنحو لإستيعاب مواطني الإقليم المعين في أقاليمهم و كذلك التخلي عن سياسات نقل الموظفين من ولاية لأُخري . قد يكون مناسباً سرد بعض المشاهدات المتعلقة بالغابة في عهد الطفولة-كانت لدينا غابة نيلية ، علي النيل الأزرق و كانت تشكل جانباً مهماً من حياة الناس و أنشطتهم ، منها صيد السمك أو قُل جمعه بعد إنحسار مياه الفيضان في الخريف و بقاء الأسماك العالقة في أماكن منخفضة يسهل جمعها،حيث ينشط عدد عدد كبير من السكان في هذا العمل و من ثم يتوفر السمك أو الحوت ! تجد رائحة السمك أينما سرت و تحفل الموائد بالحساء و السمك المحمر و غيرهما من أكلات شهيات ! كانت النسوة يجمعن الملوخية البرية ذات السوق الطويلة و الحطب و الترتوس (درنات قويات توجد مع جذور أشجار السنط) و هو وقود له نار هادئة و قوية ! غابة أم سوتيب كانت غزيرة و لها دروب ضيقة ظليلة لا تتسع إلا لراجل أو لرجل علي حماره ، كنت تري أعلي أشجارها القرود متعلقة و كذلك المتسلقات من النبات و كان لها حارسٌ لا يغفل عنها و لكن لصوص الأشجار كانوا من الذكاء بدرجات متفاوتات –كان بعضهم يلف ساق الشجرة بجوال أو خيشة ليخمد صوت فأسه ! بعد ذهاب جنوب السودان في سبيله فقد السودان الشمالي كل غاباته الإستوائية و شبه الإستوائية و معها فقدت البلاد ثروة من الحياة البرية لا مثيل لها و كذلك محميات طبيعية غنية! أمرٌ أغفلته إتفاقية السلام و لم تضعه في الحسبان بالتخطيط و المشاريع الكفيلة بزيادة المساحة الغابية و بوضع سياسات جديدة تدفع بأنشطة و أعمال الغابات !مع المحافظة علي الغابات الموجودة بقوانين أكثر صرامة . وفقاً للسياسات الموجودة فإن مشاريع الزراعة الآلية المطرية تستغل ما لا يقل عن 10% من مساحتها في الإستثمار الغابي ، حيث يزرع أشجار الهشاب و غيره من أنواع الأشجار.أما المشاريع المروية فهي ما زالت تقوم بزراعة أشجار البان و التي لم يُستفاد من منتجاتها الأُخري مثل زيت الكافور ! ولم تجرب الأشجار المحلية مثل السنط و الطلح و السدر أو الهجليج! و التي لا تحتاج لرعاية كبيرة و توفر فرصاً في منتجات أخري مثل عسل النحل. من المتغيرات الجيدة إنتشار إستخدام الغاز و قلة إستخدام الفحم و الحطب – تطور سيساعد كثيراً في المحافظة علي الغابات و ضمان نجاح أي خطط لاإستزراع مساحات جديدة . ربما يكون مناسباً في وقتنا هذا إدخال الغابات الحضرية و الزراعة الحضرية لتوفير فرص العمل و لتحسين البيئة و لرفع الوعي بالغابة – في مساحات صغيرة تتراوح بين ربع فدان إلي بضع أفدنة .و قد يكون من المفيد التعاون مع إدارات الأراضي و الإسكان لإدخال مثل هذه المفاهيم في إستخدامات أراضي المدن ومشاريع الإسكان الجديدة .مساحات خضراء تحتسب ضمن مؤشرات التطور و النمو و مكونات السعادة البشرية! فلكم سمعنا عن الشعوب الأكثر سعادة ! فوائد الغابات لا حصر لها، منها: زيادة معدلات الأمطار ،الحد من إنجراف التربة و التعرية مما يساعد في تحسين نوعية المياه و تقليل تكلفة تنقيتها. و زيادة مناسيب المياه الجوفية بزيادة التسرب. إضافة لمنتجات الغابات المعروفة و الأخري التي تنتظر الإكتشاف ، غذاءً و دواءً –أذكر من الأشياء التي كنا نجمعها من جذور أشجار السنط درنات كبيرة في حجم التبش تُسمي الدمبو ،لها قشرة صلدة تتكسر عن لب لذيذ رخو له نكهة طيبة ، و لا أدري مصدر كلمة دمبو!! سياسات الغابات: كان من واجب الدولة و هي تضع مصفوفة أتفاق السلام أن تنتبه لإحتمالات الإنفصال و من ثم تعمل علي رسم سياسات و وضع خطط للتعويض عما يمكن فقده من غابات، لذلك قد يكون مناسباً النظر في تطوير و تجديد السياسات الغابية ، كأن تنص علي: 1- إلزام الشركات المنتجة للنفط و الغاز والعاملة في مجالات الطاقة البترولية أن تقوم بزراعة مساحات من الغابات تتناسب و حجم أنشطتها أو حجم الإنبعاث الحراري الناتج من تلك الأنشطة. 2- التنسيق مع الجهات العاملة في حماية البيئة من منظمات مدنية و مؤسسات خاصة و حكومية للمشاركة في أنشطة حماية الغابات و إستزراعها و في البحث العلمي و تحديد المؤشرات المساعدة في معرفة نسب المساحات المستزرعة. 3- دعم البحث العلمي في مجال الغابات و في الجهات ذات الصلة مثل المراكز البحثية و كليات الغابات و تخصيص نسبة من الموارد المالية لهذه الأغراض، مع تحديد المؤشرات الكفيلة بنجاح الأبحاث و حسن إستخدام الموارد المالية و البشرية. 4- إلزام الجهات المصدرة لمنتجات الغابات من صمغ و فحم و أخشاب أو حطب بإستزراع مساحات بنسب يتفق عليها- مع تمليكها لتلك الغابات لفترات معلومة تمكنها من إسترداد تكاليف الإنشاء. 5- دعوة النقابات و الإتحادات و المجالس المهنية والخدمة الوطنية إضافة للشرطة الشعبية و الدفاع الشعبي للمساهمة في أنشطة الغابات. 6- تحديد نسبة في المشاريع الزراعية الجديدة بالعاصمة لزراعة الغابات. 7- تخصيص نسبة من الدخل القومي للإستزراع الغابي. 8- قيام المؤسسات الصناعية الكبري و التعدينية بإستزراع مساحة محددة في الحزام الغابي الإفريقي المقترح داخل البلاد.وذلك بعد بدء إنتاج تلك المؤسسات . 9- تجديد المعرفة الغابية بتحديد الأشجار الأصلية و المدخلة للبلاد (النيم، الكافور..) 10- إنشاء إدارة للمعرفة و الإتصال ، لإحياء المعارف القديمة ولإدخال المستجدات الحديثة و لرفد البحث العلمي و لدعم المشاريع المختلفة. 11- العمل لإصدار مجلة رقمية للغابات. النقاط 9 و 10 قد تحسم الجدل الحالي حول أشجار المسكيت و الدمس ،في زيارة لمركز أبحاث الصحراء و كان من ضمن الزوار بروفسير بيومي عليه رحمة و رضوان- سألته حول جهود الدولة للقضاء علي شجرة المسكيت ! فأجاب" لن يقدروا!" و أضاف " داك بادي ..الذي أدخل شجرة المسكيت أسأله ؟" ثم زاد " إذا أرادوا القضاء علي المسكيت يمكن للمزارع أن يقضي علي الشجرة في أيامها الأولي و هي غضة ، و لكنه الكسل!" لم أسأل بادي فقد قرأت موضوعاً جيداً له يفيض حماساً لشجرة المسكيت ،نُشر في مجلة الغابات في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي و كان بعنوان نكهة المسكيت! حيث أورد معلومات قيمة عن حطب المسكيت و فحمه و مطاعم أميركا المتخصصة في تقديم أطباق الشواء الشهية بنكهة المسكيت المميزة ! أما شجرة الدمس فقد أخبرني خبير غابات بأنها أُدخلت للبلاد منذ نحو السبعين عاماً لصناعة الكبريت ، فهي ذات خشب رخو و سريعة النمو. و للأسف فقد سرت إشاعة مغرضة بأن جذور المسكيت تغلق أنابيب المياه و السايفونات ! مما دعا كثير من الناس للتخلص منها و في تقديري كل جذور الأشجار قد تتسرب لأنابيب المياه الضعيفة و المهترئة أو التي بها ثقوب.الجذور تدخل المواسير ..المواسير!!! و أخيراً دعوة للجميع بأن يكونوا غابة و ليكن الناس حطابة – عطاء بغير حدود و عليكم ألا تخلطوا بين الشجرة و الغابة و ليكن لنا في عداء الحراز للمطر عبرة !!و دعوة لمعرفة ثروتنا الغابية و كنوزها التي لا تنضب . [email protected]