الحل (دائمآ واحد) إعادة صياغة الدولة وفق عملية وفاقية شاملة (لا يوجد بديل) ذاك أو الطوفان يبدو جليآ أن "السودان" لكي يكون سيحتاج حدوث شئ يشبه المعجزة!. أمر لن يصبر عليه إلا رجال ونساء من فولاذ. وقد قلنا من قبل "في الحلقة الأولى من هذه السلسلة" أن الإنتخابات العامة المقرر لها أن تقوم في العام المقبل لا تمثل حلآ لأزمة السودان إن لم تكن ستزيد الطين بلة. وما هي عندي بشئ سوى "قشة الغرقان". وكم هو معلوم للقاصي والداني أن جميع الإنتخابات "الديمقراطية" السابقة في السودان جاءت نزيهة وصحيحة من الناحية الفنية لكنها لم تأتي أبدآ بنظام سياسي مستقر وبالتالي كان في كل مرة يعقبها إنقلاب عسكري يجعل الوضع أكثر سوءآ مما سبق. ولا يوجد مؤشر واحد يقول بأن الإنتخابات القادمة ستأتي بإستقرار دائم حتى لو جاءت في مطلق النزاهة كون الوضع هو ذاته على الدوام (سودان اليوم هو سودان 1956). كما أن الوقت المتبقي قليل ليبقى السودان بلدآ موحدآ ومستقرآ ولا يوجد أمل في مناورة جديدة على شاكلة التاريخ القديم. هل هناك أمل؟. عندي أن الأمل موجود. لكنه يحتاج تضحيات جسيمة. وهو شئ طبيعي فالتاريخ علمنا أن الأمم العظيمة لا تصنع إلا على جسد التضحيات العظيمة. وبقدر عظم التضحية يكون عظم الشأن. كل أزمة السودان الممتدة على طول تاريخه الحديث وضاقت حلقاتها مؤخرآ تكمن في أن السودان كما هو بدهي لم يصنعه بنيه وبناته لا عسفآ ولا تراضيآ من حيث الرقعة الجغرافية وإنما هو صنيعة أقدار خارجية فكان أول ما كان بيد الغزو التركي/المصري عام 1821 فقبلها كان جماعات وسلطنات مستقلة تتصالح وتتحارب وفق الضرورات الحتمية. وعندما جاءت المهدية عام 1885 ورثت ما صنعته يدا محمد علي باشا فحاولت الحفاظ على ذات المساحة الجغرافية "تعسفيآ" وهو نفس الشيء الذي فعله الإنجليز بمنتهى الدقة بعد غزوهم للسودان عام 1899 . وعندما رحل الإنجليز عام 1956 لم يتم البت في أمر جوهري كان وجب أن يتم البت فيه و بدأ كمسلمة وما هو كذلك وذاك أن السودان مليون ميل مربع. هو ليس كذلك إلا تعسفيآ. وحدث أن الصفوة التي إستولت على مقاليد السلطة السياسية وحازت على سنام الدولة في السودان منذ العام 1956 لم يكن لديها الأفق لتعيد صياغة البلاد على أسس جديدة من الوفاق الشامل كما حدث في بلدان مثل أمريكا والمانيا والهند كما انه في الوقت نفسه لم تكن لديها القوة المادية الكافية التي تمكنها من الحفاظ على إستقرار الرقعة الجغرافية عبر العسف المادي وحده كما حدث ويحدث لدى بلدان مثل السعودية ومصر وتركيا. فورثنا هذه الأزمة المستفحلة جيلآ بعد جيل. ولا أفق جديد!. وما تزال الأزمة قائمة مع تراكم أكبر ثقلآ في كل مرة وما يزال الحل واحد لا غيره "على الدوام" وهو إعادة صياغة الدولة من جديد على أساس من الوفاق الشامل الشئ الذي لم يحدث حتى الآن. ولا بديل له. إعادة صياغة الدولة بحيث يتم تشكيلها على أسس جديدة من حيث الرؤية والهياكل عبر عملية وفاقية لا تستثنى أحدآ يمكن ترجمتها عمليآ عبر مؤتمر دستوري جامع أو ما شابهه تسبقه وتتخلله وتتبعه عملية تنوير وتنزيل أرى أن الصفوة السودانية المثقفة قادرة عليها بحيث يكون محتواها "نجاحي هو نجاحك ومصلحتك هي مصلحتي" في طريق سودان حر ومستقل وموحد ومستقر. ثم يتبع هذه العملية الجوهرية والمصيرية تجديد الجهازين التنفيذي والتشريعي عبر إنتخابات عامة تنبنى على أسس ومبادي تلك العملية الوفاقية. وبذاك يكون السودان "برقعته الجغرافية الراهنة" لأول مرة في تاريخه الممتد منذ العام 1821 قد تأسس على قاعدة من الرضا بصنع أهله لا الأقدار وعليه يتم تجاوز الثقوب السوداء التى وسمت تاريخ السودان الحديث. وهذه العملية الوفاقية المعنية يمكن أن تستصحب إتفاقية "نيفاشا" وجميع الإتفاقيات الوفاقية "الجزئية" الأخرى الممكنة دون مساس بجوهرها. وحتى لو تحتم حدوث أسوأ الإحتمالات بإنفصال الشمال عن الجنوب على هدى "نيفاشا" قبل أو بعد أو أثناء هذه العملية الوفاقية المعنية فسيبقى بعد تأسيس بقية البلاد على أساس من الوفاق الشامل ما يزال أمرآ حتميآ لا بديل له من أجل الإستقرار الدائم. فمثلآ قضية دارفور يمكن أن تحسم بسهولة ضمن عملية الوفاق الشامل تلك بحيث يضمن حلها في الدستور الدائم للبلاد في إطار النظام الكلي المتفق عليه بواسطة الشعب برمته في لحظة تاريخية حاسمة بدلآ من إتفاقات ثنائية قابلة للإختراق في أي لحظة. ما المانع؟. إن كان ذاك هو وحده الحل، ولا أجدني أرى غيره. فما هي الموانع؟. وهل يمكن تجاوزها؟. أرى أن هناك عدة عقبات تكمن في عاملين "ذاتي وخارجي" تقف في مواجهة وفاق وطني شامل. الذاتي هو الحكومة الحالية وما يلازمها من صفوة قد ترى في إستمرار الوضع الحالي ضمان لمصالحها وإمتيازاتها المادية والمعنوية والعامل الخارجي هو أن بعض الدول المتنفذة "أقليميآ وعالميآ" قد لا تحبذ نشوء سودان قوى وموحد أي أنها ترى مصالحها الإقتصادية والإستراتيجية في سودان ضعيف أو مجزأ. العامل الذاتي "الداخلي" عندي هو الأكثر تعقيدآ كون العامل الخارجي يمكن تجاوزه بقليل من الإرادة والتضامن. فما يسمى ب "المجتمع الدولي" ليس وحدة صماء وإنما شتات من القوى المتناطحة شرقآ وغربآ وقد أثبتت التجارب المشهودة بأن أثر العالم الخارجي لا يكون نافذآ بشكل فعال إلا في حالة وجود شروخ مستفحلة في جسد الضحية. وعندي أن لحظة إنطلاقة وفاق سوداني شامل كفيل بإبطال مفعول العامل الخارجي أيآ كان. وأما العامل الداخلي فيمكن أبطال مفعوله السالب عبر المواجهة والمكاشفة والمصارحة و"التضحية" مترجمة في خطوات عملية "نعم نستطيع" ونخطوا إلى الأمام واثقون كون الوفاق الشامل ضمان لمصلحة الجميع بما فيهم الصفوة الحاكمة والمتحكمة ذاتها وما عداه خسارة للجميع بما فيهم تلك الصفوة المعنية بالحكم والتحكم. وإلا فلن يكون هناك سودان وتلقائيآ تسقط و تختفي الصفوة بحكمها وسوء حكمتها، تلحقها لعنات التاريخ. وأما "مثلث حمدي" المعني به دولة مستقلة عند الوسط النيلي و المبنى في أسه على العرق "العربي" ما هو سوى وهم جلبته الهزيمة وقلة الحيلة إلى خواطر من صاغوه. كون هذا المثلث في حالة إنفضاض السودان لن يجوز له إستقرار من ناحية ومن الناحية الأخرى فإن مكانته الدولية وإمكاناته الإقتصادية ستبقى إما عادية أو متردية. كما أنه سيكون جزيرة صغيرة محاطة بقدر من الدويلات المتأهبة لحربه على الدوام كون "المثلث" وحده سيكون النشاز. رقعة صغيرة محاطة بالبجا من الشرق والنوبة من الغرب والنوبيون من الشمال والفونج من الجنوب الشرقي والفولاني والهوسا وقوميات أخرى في الوسط هذا من الناحية الدمغرافية. أما من الناحيتين الجغرافية والإستراتجية فالأمر أظنه واضح فالمثلث لن يكون بوابة العرب على أفريقيا كما كان السودان "القديم" ومياه النيل ستمر أولآ عبر جغرافيات أخرى قبله تبقى أكثر تحكمآ في مجرى ومنسوب المياه أضافة إلى ضعف الموارد الأخرى وسوء الطبيعة والمناخ مع توقع وجود كثافة سكانية عالية. وأخيرآ وليس آخرآ فأن الصفوة الحاكمة بالقوة العسكرية في الوقت الراهن ستتحمل المسئولية عمليآ وأخلاقيآ في حالة إنفضاض السودان برقعته الحالية. وعليه فلن يدوم لها هناء. وخلاصة القول فإن مثلث حمدي الذي "سمعنا" أن البعض من الصفوة الحاكمة يأمل في فردوسه هربآ من بعض التضحية من أجل سودان "كبير" وموحد فهو بدوره وهم ستزروه الرياح بمجرد إنفضاض قدر من أرجاء السودان الحالي، وستتخلق معادلات جديدة يصعب التكهن بها. فهل نجد معادلة لإنطلاقة عملية وفاقية شاملة يتأسس عليها السودان " من جديد" على أسس من التراضي والوفاق. بحيث تكون ثورة نفرح بها جميعنا بعد أن طال بنا الحزن و تسعد بها الأجيال القادمة وينشدون الشعر من أجلها كما يفعل الفرنسيون حيال ثورتهم ويفخرون بسودانهم وسودانيتهم و آبائهم وجدودهم؟. أم قضي الأمر؟. يتواصل .... (نحو أفق جديد)