وعبدالرحمن الابنودي اذ قالت له امه : (ياعبدالرحمن ولادك حلوين ولاشبهنا)!! فبتسم ضاحكا من قولها. يقول الاعلامي المصري الشهير وجدي الحكيم في الايام الاخيرة التي سبقت حرب حزيران 1967م تسابقت الدول العربية وفي طليعتها مصر بطبيعة الحال في التحضير للنصر المؤزر الذي طال انتظاره على اسرائيل وعزز من تلك الثقة ان جحافل الجيوش العربية ستدك لامحالة تل ابيب تصريح جمال عبدالناصر الشهير:"اننا ننتظر المعركة على احر من الجمر". وقطعا لم تكن وسائل الاعلام بدعا من تلك التظاهرة فاخذت موجات اثير الاذاعات المصرية وعلى رأسها اذاعة صوت العرب تبث الاغنيات الوطنية بكثافة شديدة وعلى مدار الساعة بينما راحت أجهزة الإعلام تتحدث عن انتصار كاسح للجيش المصرى، وإبادة طيران العدو. لكن فجأة انتبه الجميع ان الانتصار المنشود لم يكن سوى هزيمة ساحقة لم يجد معها عبدالناصر مفرا من التنحي. يقول الحكيم في تلك الاجواء الخانقة وجدت وسائل الاعلام المصرية نفسها في وضع حرج اذ كيف يتثنى لها اذاعة اناشيد واغنيات معبأة بالنصر في اجواء تلك الهزيمة القاسية. وبينما الجميع في وجوم داخل ستديوهات الاذاعة والتلفزيون صدح الابنودي فجأة بابيات المقدمة لاغنية (عدى النهار)،أو(موال النهار). وقبلها كان عبدالحليم طيلة ايام وليالي حرب 1967 في مبنى الإذاعة المصرية يقدم مجموعة من الأغاني من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، وألحان كمال الطويل منها "ابنك يقولك يا بطل"، و"اضرب..اضرب"، و"راية العرب"، وكلها أغاني حماسية لشحذ الهمم . لكن عبد الحليم أصيب كمعظم المصريين بصدمة كبيرة عندما علم نتيجة الحرب التي انتهت بهزيمة كبيرة للجيوش العربية، ومما عمق هذه الصدمة أن البيانات الرسمية من الإذاعة المصرية كانت تعطي بيانات عن المعركة منافية للحقيقة. وبدأ الأبنودي تأليف الأغنية من وحي اللحظة المفصلية الخانقة في حضور عبد الحليم، افترعها بعبارة "عدى النهار" حتى وصل إلى عبارة "أبو النجوم الدابلنين" لكنه توقف إلهامه بعد ذلك، فاقترح عليه عبد الحليم عبارة "أبو الغناوي المجروحين"، فاستأنف الأبنودي بعد ذلك التأليف حتى بلغ نهايتها فدفع بها عبدالحليم الى بليغ حمدي الملقب بالعبقري المجنون فعكف على تلحينها بطريقته المائزة. وينهي الحكيم حديثه بان الاغنية الت شكلت مايشبه طوق نجاة للاذاعات المصرية واصبحت تذيعها على الدوام في كل الاوقات حتى اضحت احدى ايقونات تلك الفترة العصيبة. في فيلم (حليم) الذي يروي قصة حياة عبدالحليم جاءت الاغنية مصحوبة بلقطات للاستقبال الاسطوري لعبدالناصر عندما قدم الى الخرطوم في اغسطس 1967م للمشاركة في اول مؤتمر للقمة العربية بعد النكسة. الابنودي او(الخال) كما يلقب تحببا، شكل (شامة) في ابداع مصر المعاصرة طيلة الاربعين عاما الماضية تماما ك(الشامة) التي تزين خده لقد جاء مُحملا بمخزون ثقافى ثرى ومختلف وذو تنوع فالرجل ابصر النور في ارض بصعيد مصر اسبغت عليها المقادير كماً وفيراً من الخضرة والماء وبعضا من الوجه الحسن، وهناك تشبعت روحه بالجمال وحكايات التاريخ واساطيره الذي تعمقت داخله عندما استمع إلى اغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها. وهجرة بني هلال من أشهر الهجرات العربية إلى شمال أفريقيا هي الهجرة الهلالية وحدثت في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي وتعرف " بالهجرة الهلالية " في التراث الشعبي العربي، فيما يصفها ابن خلدون بانتقال العرب إلى أفريقيا. و كان لهذه الهجرة نتاج أدبي ضخم، عرف بتغريبة بني هلال، وهي ملحمة طويلة تغطي هذه الهجرة وتتغنى بابطالها العظام ابوزيد الهلالي وذياب بن غانم. وعلى الدوام كانت وصحارى ووديان وتخوم شمال افريقيا وارض النوبة في حالة تماوج و اتصال دائم وشهدت انتقالات للموسيقى والايقاعات منذ زمان قديم واذكر قبل سنوات قال لي فنان تونسي التقيته في دولة الامارات ان لحن اغنية (سيدي منصور) الشهيرة في الاصل ايقاع نوبي، انتقل من هناك الى تونس والمغرب العربي. وعزز انتماء الابنودي لتلك البيئة الغنية بالاساطير والحكايات بجانب تشربه بمبادئ اليسار والتصاقه بارضه وانحيازه للبسطاء والفقراء والمهمشين ماجذبه ليكون على الدوام حفيا بشعبه وقضايا الناس والتي جسدها في مجموعته الموسومة ب(جوابات حراجي القط العامل في السد العالي الى زوجته فاطمة احمد عبد الغفار في جبلاية الفار ).. التي تحكي بصدق بائن عن عمق انساني نبيل وقيم رائعة تمجد العمل وتعلي قيمته مشبعة بحكمة الغلابة وبآمالهم البسيطة الصعبة المنال في احايين كثيرة الحميمية البالغة والمشاعر النقية وتتماهى الرسائل المتبادلة بين حراجي القط وزوجته فاطمة أحمد عبد الغفار (فاطنة) في مناجاة سردية رائعة متناغمة بطريقة آثرة بينهما وداخلهما في مناجاة عشق تفيض رقة وعذوبة ومفعمة بالشوق العارم، عندما تحكي فاطنة لحراجي عن الم الفراق الذي يشتد اوراه ليلاً بقولها: (في الليل يا حراجي تهف عليا ما أعرف كيف/ هففان القهوه/على صاحب الكيف/وبامد إيديا في الظلمه ألقاك جنبي/طب والنبي صُح ومش باكدب يا حراجي/ وباحس معاك إن الدنيا لذيذه). ويقول لها حراجي :(عارفه يا مرتي الراجل في الغربه يشبه إيه .. ؟/عود دره وحداني .. في غيط كمون/حسيت بالخوف ناشع في عروقي زي البرد). لقد مثلت اشعار الابنودي ترجمة بليغة لحكمة البسطاء وفي حواره مع منى الشاذلي امتد لحلقات على شاشة (دريم) يقول الابنودي عبارة مفتاحية بالغة الدلالة اثناء المقابلة (وفهم حراجي) في اشارة الى ان العامل الريفي البسيط -وهو رمز بطبيعة الحال لقطاعات واسعة بالشعب المصري- تفتح وعيه على اهمية مشروع بناء السد العالي . ويقول الكاتب هشام آدم في مقالة بعنوان (الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط») نشرت على موقع الحوار المتمدن (رغم الموضوعات الظاهرية التي ناقشتها القصيدة؛ إلا أنّ هنالك رسالة سرّية تم وضعها بخفة ومهارة بين طيّات النص، بصورة مُبسّطة ومخفية. هذه الرسالة السرّية التي وضعها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي كانت في حقيقتها تُعبّر عن أيديولوجية مقصودة في ذاتها، وقد تضمّنت القصيدة تلميحات سريعة لهذه الأيديولوجيا، وهي المسحة الشيوعية التي جاءت متسقة تماماً مع البيئة العمّالية؛ حيث تفرض الفكرة الشيوعية نفسها بقوة من خلال علاقات العمل بين العامل وصاحب العمل، وصراع الطبقات). وتلك الرؤية العميقة جعلت الابنودي ينظر الى الجانب القيمي للفن والابداع، وان القصيدة والاغنية ليست ملهاة أو طرب والسلام، بل تعبيرصادق عن أحلام الناس وقبلها آلامهم. لكن يبقى ثمة سؤال لو لم تندلع الثورة، ولم يأتي عبدالناصر هل كانت تلك النجوم كالابنودي وحليم وام كلثوم وغيرهم سيسطعون بتلك الطريقة ؟!! [email protected]