عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. نحن من أمة مختلفة الأعراق ما بين زنجية، عربية، نوبية و عرقيات أخرى. رسمياً نتحدث العربية و يتقن بعضنا الإنجليزية كلغة علمية عالمية ولكن ما بين العربية و الإنجليزية تتعدد اللغات المحلية والتي في داخلها العديد من اللهجات المختلفة بإختلاف القبائل و المجموعات و إن تشابهت بعضها. ندين رسمياً بالإسلام و لكن ما زالت هنالك عدد من الديانات و إن كانت قابعة في الخفاء. و مع إختلاف الأعراق تختلف البيئة وتتباين التضاريس في البلد الواحد بين سهول و صحاري، غابات، جبال و تلال و وديان و تختلف تباعاً الثقافات و العادات و تقاليد سكان هذه البيئات. و للعجب تتباين ألوان البشرة في القبيلة الواحدة بل في البيت الواحد حتى تكاد تجزم بأن الإخوان غرباء لا يجمعهم سوى إقتسام المسكن و المعيشة اليومية. تتشابك المصالح في كثير من المناطق و تتفرق ما بين سبل العيش و صراع المراعي والحركة والتنقل مما يحدث بعض النزاعات القبلية. أما في العاصمة الخرطوم تلك التي تجمع الفرقاء يتنادى الناس في كثير من الأحيان بمسمياتهم العرقية فتجد الجارة الشايقية وصاحب البقالة الرباطابي يجاوره الدنقلاوي و الجعلي وتلك الأسرة الفوراوية وهنا يتجلى السودان مجمع الإنسانية و أحد مظاهر التعددية العرقية و الثقافية في العالم. لكن ما أن تبرز السياسة في المجالس حتى تنهض معها تلك التعددية و يظهر الإختلاف بوجهه المخالف حيث تعلو أصوات المصالح الجهوية و العرقية والخلافات الحزبية فتكون المحصلة صراعاً يرسخ الفرقة و يدمي ما تبقى من وشائج الود و الإلتحام حتى صرنا نعاني التشرذم ما بين الولاء الحزبي و العنصرية البغيضة. و بين كل هذا و ذاك يأتيك صوت المغني؛ يغني كما لم يغني من قبله أحد و كما لم تتصارع قبائل أو تختلف أحزاب فتطرب القلوب دون إلتفات لإختلاف أو خلاف و ينهض الحنين لبلد واحد إسمه السودان. وقتها يصبح الولاء واحداً و القالب أكثر إتساعاً و حميمية. حين يغني المغني لا يبدو في الوجدان سوى المحبة و الوجد القديم، و لا تسطع الا أطياف قريبة للنفس عزيزة على الخاطر. حينها فقط تذوب الفروقات فتبكينا الربابة وتشجينا الدفوف ويدهشنا العود وترقصنا "الدلوكة" فننبهر بذلك التمازج المشع بالفرح لتبدو لنا صورة تلك البلاد مختلطة الأعراق والثقافات وهي تضم على صدرها النيل و تحتوي على جنبيها قلوب أقوام "حُنان" عندما يشدو "كابلي" تتجلى سودانيتنا وننسى لون بشرته القمحية لننغمس عمداً في لون الطرب الروحي و لون البهاء. ولما تعلو أجراس "وردي" شاقة صدر السماء، تمتزج الزنجية بتلك النوبية التي وهبته الحياة ليوحدنا بلغة عربية على عبقرية الغناء. وحين يبكينا "عثمان حسين" لا نتساءل عن قبيلته و إنما نجتمع معه في قبيلة الحب حيث الشجن العميق مكتمل الإنسانية. ولما يطغى في القلب صوت الحنين، يشجينا أنين ربابة شايقية تسبقها دموع حارة تؤكد إنسانية المشاعر التي لا تعترف الا بالجمال الروحي و الإنسجام العاطفي في قلوب البشر. لن انسى ابداً تلك الفرحة الغامرة و انا في زيارة لأحدى المكتبات العامة في بريطانيا و مشاعر الفخر و انا أتباهى أمام صديقتي الإنجليزية و "أونسها" بفنان الفرح "عبد القادر سالم "لما رأيت "شريط كاسيت" يحمل صورته و تلك الملامح الكردفانية الحبيبة. نعم هو سوداني كما سودانيتي و كل خصوصية إنما هي إضافة و إثراء لمسمى متسع هو السودان. في حفل بالأسبوع الماضي إجتمعت لندن على قلب الفن لما تلألأت في أجوائها نجمات سمين عفواً "بالبلابل" تعطر حي "كامدن" بنكهة سودانية و طربت نسماته بتغريد البلابل و إرتفع الغناء لأبعد مراقي النشوة رغم نوبية الزمان و المكان ورغم العتب على نكهة "اللقاء الإعلامي الذي سبق الحفل في اذاعة بي بي سي البريطانية". و لما كان الفن لغة إجتماع لا فرقة، تجلت السودانية في الحدث و عادن بلابل السودان؛ نوبيات الدم و الفطرة، سودانيات الطعم والهوية و وجه أجمل للتعددية الثقافية وسحر الإختلاف. تغنت البلابل و غنى معهم وجدان أمة تحن لبلادها و لصوت الحب و التلاقي و الوفاق. لم يكن هنالك نشاذ سوى تلك الفرحة التي إفتقدناها لزمان ليس بقصير و لم يكن هنالك شذوذ غير إلتقاء الفرقاء في ساعة فرحٍ و طرب. طربنا للغناء النوبي ولصوت الدفوف، لم نفهم الكلمات و لكن فهمنا الحب وتذكرنا حميمية أهلنا النوبيين في كل البقاع. ما أجمل الهوية السودانية و ما أروع تلاقيها على الحب و ما أعظم الفن حين يلم الشتات كما لمه في الأصل ذلك الوطن عظيم الإتساع، كامل الهيبة متعدد النغمات.