دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات حول النمطية والإبداعية: الصادق المهدي كقائد عظيم (1-2) .. بقلم: رباح الصادق
نشر في سودانيل يوم 06 - 01 - 2010


بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل أول
هنالك أنثروبولوجي عبقري تعرفنا عليه من ضمن دراستنا للفولكلور هو جان جاك فانسينا. هذا الرجل قام باستخلاص منهج علمي للخروج بتاريخ الأمم اللا كتابية في أفريقيا وغيرها من خلال مأثوراتهم الشفاهية. المنهج يقوم على أعمدة عديدة تبدأ بجمع المأثورات الشفاهية للمجتمعات من الرواة والمؤرخين المحليين وكذلك التراث الغنائي والشعري والمادي، ويستفيد بالوثائق وبالأركيولوجيا، ويتتبع منهجا صارما لفرز الأنماط والكليشيهات الجاهزة من الحقيقة، وذلك استنادا على تحليل دقيق لآليات انتقال الكلام المسموع أو الإشاعة وتداولها والوهم الذي يخالطها ثم ما يحدث له حين تحوله لحوض الموروث. النمط، بالتالي حسب فكرة فانسينا هو صورة زائدة على الحقيقية ينبغي معرفته في خطاب الجماعة وإلقائه جانبا للحصول على الحقيقة التاريخية.
من جانب آخر تحدثت أوراق عالمية كثيرة عن مسألة الإبداعية في الثقافات وعدم اللجوء للوصفات الجاهزة. ولعل من أقيم الأدبيات في هذا الصدد ما جاء به تقرير المفوضية العالمية للثقافة والتنمية WCCD وهي منظمة مكونة بالتعاون بين اليونسكو والأمم المتحدة – في نوفمبر 1995م باسم "التنوع البشري الخلاقOur Creative Diversity" وقد ذكر عدة موجهات للسياسات الثقافية التي يجب أن تتخذها الدول لتوسيع الأطر الثقافية ودعم التنمية الثقافية، من هذه الموجهات: "الإبداعية: في الحياة اليومية- وفي الحكم واتخاذ القرار- والتجديد وحل المشاكل المستحدثة- التعليم المتخصص والتدريب الذي يشجع الإبداعية".
احتفظ قارئي الكريم/ قارئتي الكريمة بهاتين النقطتين حتى حين، ولنا عودة.
مدخل ثاني
شهادتنا لدى كثيرين حول الصادق المهدي مجروحة، وهذا ما زهدنا في الكتابة عنه وحوله مرات كثيرة كان قلمنا يهم فيها بالكتابة، وما جعل كل كتابة نحاولها في هذا الصدد محتاجة لتبرير. ونزيد اليوم على التبرير رواية مشهد يشهد لنا بالتعامل الموضوعي مع الصادق المهدي برغم المحبة وربما بسببها إذ نحن مأمورون أن ننصر حبيبنا ظالما أو مظلوما ونصر الظالم برده عن ظلمه. المشهد يتحدث عن طالبة جامعية بكلية الهندسة والمعمار بجامعة الخرطوم تسير في ردهات داخلية الطالبات نهار يوم 28/12/1988م وهو ذروة أيام انتفاضة السكر إبان الديمقراطية الثالثة، كان ذلك اليوم يوافق تاريخ انتقالها من قاصر لراشدة مالكة أمرها بإتمام 21 عاما، ويوافق تاريخ مسيرة الماراثون الشهيرة لرابحة الكنانية للمهدي في قدير لتخبره بجردة راشد بك أيمن، تاريخ لا بد أن يقف فيه المرء وتقف المرأة موقفا فارقا. ثم سمعت بخبر البطش الرسمي للانتفاضة بالرصاص الحي، وفار في رأسها الغضب، كيف تتجرأ الحكومة الديمقراطية على زهق أرواح الشعب؟ وما الفرق بينها إذن وبين السفاح الذي سارت في مظاهرات مارس وأبريل رافضة له؟ كيف يقوم الصادق المهدي العادل كما شهدت والحليم كما عرفت والواسع كما خبرت بمثل هذه الأفاعيل؟ كنت تلك الفتاة الغاضبة السائرة مع الرافضين للتجبر والبطش، واقترب مني حينها أستاذنا المتخرج حديثا في الكلية (دكتور التاج) ونصحني بالابتعاد مشفقا مما يمكن أن يحدثه فيّ الجموع لو تعرفوا على هويتي، رددته محاولة أن يكون ذلك بلطف، وسرت في طريقي لأنني لم أكن حينها أمثل الحكومة ولو كنت ابنة رئيس الوزراء كنت أمثل الرفض للظلم. لم يكن في ذلك الوقت هواتف محمولة لأستفسر عم حدث وأسمع الحقيقية. ساقتني أرجلي للميدان الشرقي مع مسيرة الغضب حيث تجمع آلاف خاطبها الدكتور أمين مكي مدني وقال إننا مثلما رفضنا تجبر العسكريين بالأمس، نرفض الظلم والقهر المدني اليوم ونادى بانتفاضة تطيح بالديكتاتورية المدنية. لعله امتحان ساقه الله لي لأدرك هل أقف مع الحق أم مع الأحباب في يوم انتقالي من حالة القاصر للمسئولة عن أفعالي! وبعد نهاية المظاهرة لم أذهب للداخلية وفضلت أن أعبر عن رفضي ضمن الشارع السوداني لما جرى ولكن في آذان الأحباب، ذهبت لبيتنا بالملازمين ممتطية سيارة أجرة، وأمام المنزل وجدت الأستاذة سارة نقد الله وكانت التي تلقت غضبي واستنكاري: ما هذا الذي فعلتموه؟؟ لكن سارة أخبرتني كيف قام مندسون مجهولون بضرب المتظاهرين بالرصاص الحي والشرطة بريئة منه، وكيف استنكر مجلس الوزراء الحدث ووجه بالتحقيق بل ورجع عن قراره المتخذ قبل يومين برفع أسعار السكر استجابة للمطالب الشعبية. قد تصدقني وتصدقيني وقد لا تفعلون، ولكني أصدق أنني أسير خلف الصادق ببصيرة برغم المحبة وكما قلت بل بسببها.
هذا هو المشهد، أما التبرير فهو ما وقر في ذهننا بينما نطالع بعض قراءات الإنقاذيين للصادق المهدي أن هؤلاء القوم ينظرون بعين هي التي أوصلتنا لما نحن فيه الآن، وبعيدا عن الذم والمدح نحب أن نخوض في فكرة الإبداعية والنمطية ونطل عليها من نافذة الصادق الحبيب والإنقاذ الكريهة، بينما نبعد ما استطعنا ظلال العاطفة ونسافر في شعاع الموضوع.
لماذا الهند؟ لماذا الصادق المهدي؟
امتحان الإبداعية والنمطية أكبر ما يكون عسيرا في بلدان التنوع. لأن الوصفات العصرية ونظمها الديمقراطية نمت وترعرعت في الغرب في دول غالبها شبه منسجمة التكوين، ولم يؤرقها سؤال التنوع كثيرا، والدول التي واجهت المشكلة كأمريكا خاضت حروبا قاسية ومجاهدات ضخمة حتى وصلت لمعادلات للحل ولا زال الغبن مستمرا. والهند القارة يضربها التنوع أو قل يغنيها وتضربها ثقافات موروثة تؤصل للتفرقة الثقافية بين الإثنيات، كما يضيف إليها التنوع الديني متطلبات جديدة.. لهذا يظل سؤال العصرنة والتنوع مطروحا في الهند بقوة، ويبقى سؤال العصرنة والتنوع الديني والثقافي مؤرقا لمسلمي الهند تحديدا.
بل حتى الدول الغربية التي أجابت إجابات مستعجلة وفاصلة فيما يتعلق بالأديان ودورها في الدولة تعود الآن عودات مشهودة تتبعناها من قبل في حلقات حول "الدين والتغير الاجتماعي" وتتبعنا كيف بدأت الفكرة العلمانية بإلغاء الدين أصلا، ثم تطورت الفكرة لتكون طرد للمؤسسة الدينية من عالم السياسة والحكم والاحتفاظ بالدين في الحياة الشخصية للأفراد، ثم وصلت إلى الواقع الموجود في أمريكا وأوروبا اليوم حيث المنظمات الدينية أو "الإيمانية" -بحسب الترجمة الحرفية لتلك المنظمات – صاحبة دور في خلق السياسة العامة لا ينكر.. مثلا أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في 2001م "مبادرة إيمانية" لتمويل المنظمات الدينية من الحكومة ولخلق "شراكة" بين الدولة وبين الدين. وأصدر مجموعة من القادة الأوربيين الكبار ما سموه إعلان المبادئ الأوربي، دخلت المسيحية طرفا في بنوده. وفي أمريكا مثلا فإن "الدين عامل ظاهر في أنماط التصويت الانتخابية، وفي الأيديولوجيا حول السياسة العامة والترقي السياسي" من جانب آخر هنالك ظاهرة الحركات الدينية الجديدة التي انتشرت في العالم في العقدين الماضيين واللذين شهدا انتعاشا لجميع الأديان عبر العالم. الصادق المهدي كان من المتتبعين لتلك التعقيدات والعاملين على استخلاص العبر والدروس والإتيان بالحلول، ليس فقط فك الاشتباك الديني العلماني، بل فك الاشتباك العصري الديني، وفك الاشتباك الديني مع الوحدة الوطنية في بلد التنوع، أطروحاته لم تكن مجرد حبر على ورق، حاول ما استطاع انزالها على أرض الواقع كحاكم، والدعوة لمواثيق لإنزالها والتوحد القومي حولها كمعارض.
هذا ما يؤكده كتاب "مائة قائد إسلامي عظيم في القرن العشرين" الذي نشره معهد الدراسات الموضوعية بنيودلهي في 2006م ورأس تحريره د. محمد منظور عالم. فالكتاب الذي انتقى مائة من قادة القرن الماضي قال واصفا لنفسه: "إن معهد الدراسات الموضوعية (آي أو إس) بنيودلهي تحثه البصيرة للعمل على خلق مجتمع إنساني. إن معهد الآي او إس الملتزم بمبادئ الإسلام الجوهرية ييسّر لتكامل المعارف عبر التحقيق والبحث متداخل المناهج. هذا الكتاب هو رواية لأخطر 100 عام في تاريخ العالم، مع الأخذ في منظورنا للعديد من التحديات التي نواجهها في عالمنا متعدد الثقافات والإثنيات، والطريقة التي تعامل بها الإسلام معها".
اختار الكتاب بين المائة العظام سودانيا واحدا هو الصادق المهدي ضمن القادة والحكام وليس المفكرين كما ساد لدى كثيرين إذ اختار الكتاب 26 قائدا وحاكما عظيما. قال الأستاذ الحاج وراق في مقاله حول المختارين في قائمة المائة (ويبدو من القائمة - وتشمل حكاما وثوريين ومصلحين اجتماعيين ومفكرين وادباء وفقهاء ودعاة - انها تفادت لحدود كبيرة الانحيازات المسبقة، سواء ايديلوجية او مذهبية او طائفية او سياسية او جغرافية، واعتمدت معايير محددة التزمت بها بغض النظر عمن تزكيهم) ولكنه افتقد في القائمة رموزا وشخصيات أخرى. ونحن لا نريد أن ننفي عمن ذكر الأهلية لأن يدرجوا في قائمة المائة، ولكننا فكرنا فعلا لماذا الصادق المهدي وليس الأسماء التي ذكرها وراق؟
السيرة التي أوردها الكتاب للصادق ولخارطة افكاره تؤكد التعمق في بحث الشخصية وما قامت به وما فشلت فيه. ولكن الفكرة الأبلغ في التعبير عن إنجاز الصادق الذي استحق به أن يكون ضمن المائة العظام هو الإبداعية كحاكم وفي التنظير والعمل على إنزال الحكم العصري المستند على الدفاتر الإسلامية، والذي يؤهل المسلمين للعيش والتطور في عالم اليوم وأهم ملامح نهجه "سياسة النفس الطويل والصبر"، ومراعاة التنوع، وأنه امتلك "القدرة على التماسك ليصمد ويقاوم الضغوط المتنوعة مبرهنا على همته الاستثنائية "كقائد عظيم في القرن العشرين". اهتم الكتاب باجتهادات الصادق في العلاقات الخارجية في عالم المسلمون فيه ضعفاء، والسياسات الداخلية لبلد متنوع، وهي أمور لا يجدي فيها التقليد ولا تنفع الأنماط الجاهزة ولا بد من الإبداعية فما نجابهه اليوم لم يجابهه أحد في السلف ولا في الدول الأخرى. اختيار كان يركز على الإبداعية والحلول المستحدثة لا الذاكرة الجيدة للنصوص والتواريخ أو المعرفة بما دار ويدور، الإبداعية في ماذا يمكن أن يكون كحل لمجابهة تناقضات لا أول لها ولا آخر يعيشها مسلم اليوم.
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا
بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات حول النمطية والإبداعية:
الصادق المهدي والماركسية والتناقض(2-2)
في الحلقة الأولى من المقال وصفنا التضليل الذي يضفيه النمط المحفوظ وكيف يكون استلال الحقيقة برميه جانبا كما كان يفعل الأثروبولوجي فانسينا مع الموروثات الشفاهية، وذكرنا الإبداعية كأساس لحلول المجتمعات الحديثة والمتنوعة. ثم ذكرنا لماذا اختار معهد الدراسات الموضوعية بنيودلهي الإمام الصادق المهدي السوداني الوحيد ضمن أعظم شخصية إسلامية في القرن العشرين وضمن 26 من القادة والحكام، والسبب مجهوداته النظرية والفعلية المتسمة بالإبداعية. نتطرق اليوم لقراءات حديثة للصادق المهدي.
في الأسبوع الماضي وبصحيفة الأهرام اليوم في 21/12/09 جاءت قراءة من الدكتور حسن الترابي أن الصادق كان ماركسيا في أوكسفرد مما يشي بأنه اتبعها ثم تركها من بعد، وقراءة من قلم إنقاذي أرسلت للإمام كهدية في عيد ميلاده (في 25/12) تتحدث عن متناقضاته وكيف أنه دخل النادي الاشتراكي في أوكسفرد ثم من بعدها الاتحاد الإسلامي، هذه القراءة الأخيرة أيضا كانت تتحدث عن مواقف الإمام كأنها متتالية لا متزامنة.
رد الإمام الصادق على تعليق الشيخ الترابي متفضلا بشرح نشاطه في أوكسفرد وكيف كان رئيسا للنادي الاشتراكي الذي يعمل على استضافة محاضرات ضد الإمبريالية ونحو تحرر الشعوب، في ذات الوقت الذي كان فيه مؤسسا ورئيسا للاتحاد الإسلامي بأوكسفرد. ونود أن نبحث هذه القضية ببعض معلومات وأفكار.
أما المعلومات فمن محاضرة كان الصادق قد ألقاها في مارس 1983 حول تجربته بأوكسفرد بعنوان: "ثلاث سنوات في خمسينات القرن" وصف فيها الدراسة بأكسفرد وكيف أنها في شكل حلقات رآها مستمدة من التراث الإسلامي عبر الأندلس وتشبه التلقي بين الشيخ وحوارييه، وقال عن نشاطه الإسلامي فيها: (كان عدد الطلبة المسلمين في أكسفورد قليلا وكنا نفتقد منبرا إسلاميا لجمع كلمتنا وتنظيم نشاطنا الإسلامي ففكرت وجماعة من الزملاء الباكستانيين أمثال قيصر مرشد وكمال حسين وصديق إنجليزي مسلم ربرت بلك وغيرهم أن نعثر على صيغة تنظم نشاط المسلمين، وبدأنا بالإفطار في رمضان مع بعض وبالاجتماع لصلاة العيد في قاعة أحد المطاعم الهندية. وفي عام 1956م قمنا بتكوين جمعية الاتحاد الإسلامي فرفعنا راية الإسلام لأول مرة في أكسفورد واستمر اتحادنا نشطا حتى تخرجنا ثم مات بعدنا. وعندما زرت أكسفورد قبل أسبوعين أخبرني بعض الطلبة المسلمين أنهم كونوا جمعية إسلامية جديدة.. والطريف أن مدير البنك الذي أودعنا فيه أموال الاتحاد الإسلامي القديم كتب لرئيس الجمعية الجديدة وقال له إن للاتحاد الإسلامي رصيدا عنده وأن الجمعية الجديدة أولى الناس به. وبعد تكوين الاتحاد الإسلامي كتبت لجدي الإمام عبد الرحمن أبشره به وأستفتيه في بعض القضايا التي يواجهها المسلمون في ظروف مخالفة لبلاد التشريع. فرد علىّ مهنئا ومشجعا ومبينا الجواب على الأسئلة التي استفتيته فيها وعرضت رده على أعضاء الجمعية فسروا به سرورا كبيرا وقبلوا الاسترشاد بفتواه).
وما لم يذكره الإمام في رده هو أنه كان معروفا باتجاهه الإسلامي المتشدد منذ صباه، حتى صقلت معارفه وتعمقه في الدين توجهه ذاك وصار أقرب للنهج النبوي الذي يلفظ التزمت ويعطي البراح والاتساع، وقالت المرحومة أمي سارا الفاضل إنه كان يلقب في الأسرة بسيدنا موسى بين أقرانه، وكانوا برمين من تشدده الديني ويخفون عنه ما يقومون به من تجاوزات كتدخين التبغ، وروى آخرون كيف أنه حينما سافر للدراسة بالمملكة المتحدة كان معه في رحلتهم تلك عميه يحي وأحمد المهدي وكلاهما أكبر منه سنا ولكن جده ووالدهما الإمام عبد الرحمن المهدي قال للثلاثة: لو كنتم اثنين فأمموا أحدكما، يكون الصادق في غربتكم إمامكم! كذلك كان في تشدده ذاك يتخذ مواقف متزمته بإزاء الغناء والمعازف، وتروي عماتنا متندرات كيف أنه في زفاف عمه أحمد كانت هناك حفلة غنائية فقام مستهجنا، وطالبته أخته وفي لسانها لثغة بأن "يقعد يفلّق" تقصد "يفرّق" أي يستمتع أو يفرّق همه، فرد عليها: "لو قعدت فعلا سأفلّق"!.. الشاهد أنه بعد تبحره في الدين وتعمقه في النصوص والمقاصد غيّر موقفه إزاء السماع وكتب في ذلك أوراق عديدة يعلم المتتبعون موقفه الحالي منها الذي يجعل الحل والحرمة مرتبطتان لا بالفنون في ذاتها بل بالغرض الذي تخدمه.
ثم إنه حال عودته من أكسفرد سعى لطباعة كتاب العبادات للإمام المهدي (في 1959م) وكتب خطبة الكتاب المطولة (تقديم الكتاب كتبه الإمام الصديق المهدي) وكان عمره حينها 23 عاما. في الخطبة المطولة تطرق لحاجة الإنسان للأديان، وللأديان الكتابية وللحضارة الحديثة وانتقد الرأسمالية وما أدت إليه من تفكير شيوعي يطيح بالقيم الروحية، ثم تحدث عن الإسلام في مفترق الطرق، وتطرق للإسلام والحياة المادية قائلا: (الحضارة الإسلامية تعتبر العيشة في مجتمع أغلبه جائع وقلة منه متخمة بالشبع عيشة خاطئة من الناحية الدينية، ضارة من الناحية الاجتماعية. لذلك وضعت تشريعات عديدة هدفها العدالة في تقسيم الحظوة المادية. تلك التشريعات هى أساس الاشتراكية الإسلامية التي لا تخلو صفحة من صفحات القرآن ولا حقبة من سيرة الرسول من الإشارة إليها). وبعد شرحه لاهتمام الإسلام بالعدل المادي قال (إذا كان الإسلام أهلا لكل ما قيل فما بال المسلمين يتجاهلون رشده ويفتتنون بالباطل!!) فهل هذه ماركسية؟
نعته بالماركسية في الحقيقة مع ما فيها من نفي للدين غير ممكن. وقد بحثها وتعمق في دراستها وفي كتابه حول الفلسفة اهتم بقضية الوجود وتطرق للنظرية المارسكية شارحا أسباب اهتمامه الأقصى بها: (التفسير المادي للوجود ليس تفسيرا حديثا كما يظن بعض الناس وقد وجد إلى جانب التفسير غير المادي منذ أن فكر الإنسان. لقد رأينا نموذجا منه عندما عرضنا آراء ديمقريطيس "470- 361 ق.م." من فلاسفة اليونان. وإن الآية: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر". إشارة إلى تفسير مادي. وفي كل مرحلة من مراحل تطور الفكر الفلسفي وجدنا من الفلاسفة من قال به. إن الذي جعل التفسير المادي ذا أهمية بالغة هو تبني العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر له، وتأييد نظرية داروين في أصل الأنواع له، وقيام فلسفة وجدت قبولا واسعا، عليه، تلك هي الفلسفة الماركسية. وأنه ذو أهمية خاصة بالنسبة لبحثنا هذا لأنه الوحيد من بين التفسيرات المختلفة للوجود الذي يقفل الباب أمام الدين. فإن صح التفسير المادي للوجود فستكون نتيجة بحثنا سلبية هي: أن الفلسفة تعارض الدين وتنفي دعواته. لذلك ينبغي أن نناقش التفسير المادي بعناية وشمولية). نعم لذلك بحث الماركسية بدقة عجيبة ونفى المادية الجدلية، وأثبت خطل تفسراتها لنشوء الكون، وأظهر كيف تنطبق بعض ملاحظات ماركس عن الدين على الدين المسيحي كما طبقته الكنيسة في أوربا القرن التاسع عشر لا جميع الأديان وخاصة الدين الإسلامي.
وعلى العموم فإننا لا نود نفي تهمة الماركسية تلك التي لا تقوم ولا على قدم واحدة بتتبع تاريخ الصادق المتسق والمتسلسل في تطوره من توجه إسلامي متشدد إلى توجه إسلامي منفتح وليس العكس. ولكننا نظن أن مثل ذلك التعليق يأتي من باب الغرف من الأنماط. فأي توجه اشتراكي يجر متلازمة الشيوعية والماركسية. وحتى الشيوعية والماركسية نفسها في السودان طورت نفسها باتجاهات غير معادية للدين، ولكن الإسلامويون ما لبثوا يغرفون من الأنماط والكليشيهات الجاهزة حتى وجدوا أنفسهم في حال لا يحسدون عليه من التخبط.
أنظر/ أنظري كيف هومت الإنقاذ -وهي تجربة إسلاموية- وغربت وشرقت في كل أمر صغير وكبير بدءا بإعدام الناس في حيازة العملات الأجنبية ثم فتح الباب على مصراعيه، ومرورا بعرس الشهيد ثم بل ثقافة الشهيد وشرب مائها، وتجريم المتعامل مع متمردي الجنوب وتكفير القائل بتولية المسيحيين ثم انتهاء بتنصيب السيد سلفا كير نائبا أول لرئيس الدولة بل ومناداة الدكتور الترابي به مرشحا للرئاسة.
لقد أثبتنا في مقالنا الماضي كيف أن المدرسة الفكرية الإنقاذية فشلت ليس فقط في استيعاب الدين ضمن العصر والتنوع، بل فشلت في هضم التنوع الديني ذاته، فنفت عنه الروحانية، وأخذت من الخطابة الكلمات ولفظت المعنى، وفهمت من السياسة المناصب وتركت الوجدان.. هي مدرسة غير قادرة على فهم الدين ذاته بكل مكوناته فكيف تقدر على استيعاب النهج الإبداعي الذي ينزل الدين على الواقع مستوعبا التناقضات اللا نهائية؟
كان أستاذ الحاج وراق قال في مقاله حول اختيار الإمام الصادق ضمن المائة العظام: (وما دامت القائمة ضمت شخصيات مثل حسن البنا وسيد قطب وراشد الغنوشي ، فكان الطبيعي ايراد د. حسن الترابي ، فهو يفوقهم بلا ادنى شك، اول من اوصل حركة من حركات الاسلام السياسي الى السلطة في كل العالم السني، وبعد استيلائه عليها احتفظ بها لأكثر من عقد، وهذا ما فشل فيه جميع نظرائه، وغض النظر عن الكلفة الباهظة لمغامرة استيلائه على السلطة - انسانيا واجتماعيا وعلى وحدة البلاد، وهناك ما يشير الى ان الترابي قد اكتشف مؤخرا عظم هذه الكلفة ويبدو انه يتجه نحو التكفير - بغض النظر عن ذلك، فان المعايير الموضوعية الباردة تجعله اهم من قيادات الاسلام السياسي الاخرين، واما اذا استخدمنا معيارا تقييميا، فان المشاريع الاصولية الاخرى، في حال تطبيقها ، فان مآلها لن يكون بأي حال أفضل من مآل التجربة السودانية، بل والمؤكد ، ان تجربة الترابي، على سوئها البالغ، لأكثر تقدما فكريا وسياسيا !( إن التجربة الإنقاذية لا شك كانت حاضرة أمام معهد الدراسات الموضوعية، وكذلك اسم دكتور الترابي ففي أحد القوائم بالمعهد كان اسم الدكتور الترابي موجودا وكانت قائمة مستندة على التذكر ترد فيها أسماء غير مطابقة لأسماء الكتاب، وهذا يعني أن اسم دكتور الترابي لم يسقط سهوا فهو من قادة الإسلاميين العالميين الذين يشار إليهم بالبنان. ونعتقد أن ما شطب اسمه هو التجربة الإنقاذية أو تجربة الحكم ذاتها التي رآها وراق نقطة قوة: أنها وصلت للسلطة وجرت على أسئلة التنوع والعصرية الوبال والكلفة التي أشار لها وراق. أي وصولها للسلطة نفسه هو الذي عراها ولا أحد يعلم ماذا كان سيفعل البنا أو الغنوشي أو قطب لو حكموا.. على العموم فإن الشيخ حسن الترابي سار فعلا في درب التكفير وهو الآن يجلس مع أحزاب المعارضة كلها حتى الحزب الشيوعي نفسه، وأظن أن التكفير يحتاج لزيادة المشي في طريق الوساع ونبذ الفكرة الإقصائية التي تجعل المخالف كافرا/ ماركسيا/ لا ديني وبالتالي ذميم حتى ولو كان في قامة الإمام وفي سيرته مما يجعل محاولة التشويش بلا جدوى. بل قد تضر، فأحزاب المعارضة متفقة على وحدة الصف في الانتخابات القادمة وهي متحالفة الآن في كل مراحلها. وحينما تجتمع المعارضة على مرشح رئاسي واحد فهناك احتمالات قوية أن الشيخ سيجد نفسه مضطرا للتبشير ب "ماركسي"!
الفكرة الأخرى حول تناقضات الصادق في المقال الهدية المشار إليه كانت أضل سبيلا، نظرة تعجز أن تدرك أن مسألتنا في عالم اليوم ليست أبيض وأسود، وأنها تحتاج لعقول تدرك التشابكات وتوفق بين المتناقضات، ونفوس واسعة تستطيع أن تتعاطى مع الأفكار بذهنية إبداعية، وتفر من النمط والكليشيه الجاهز والتقليد فرارها من الأجرب، فهو يستغرب كيف يوقع الصادق التراضي ثم يوقع إعلان جوبا، كأنما هو غرّب ثم شرّق، بينما الصادق حينما وقع التراضي كان قد ضمّن فقرة فيه حول جمع الآخرين وعينه على الحركة الشعبية ومن وراءها، وحينما ذهب لجوبا اجتهد أقصى الاجتهاد أن يكون المؤتمر الوطني حاضرا وناشده في الخطب المنبرية واللقاءات الثنائية ووقعت القوى السياسية إعلان جوبا وهي تناشد المؤتمر الوطني اللحاق. المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يلمهما قصر واحد فما الغرابة لو جمع أو أراد الجمع بينهما الصادق؟
ولكن عقل صاحب الإهداء يفهم فقط المعارضة كمعارضة لأي شيء والاتفاق مع الحكومة كانخراط فيها.. ذهنيات سادت من قبل داخل مفاوضينا في حزب الأمة بإيعاز من الإنقاذيين فصدقوهم وعضوا أنامل الغيظ ومن بعد الندم.
إننا لا ندرك الواقع بالركون للأنماط، وما أسميناه من قبل القياسات المائلة.. إن نهج القياس هذا والركون للمحفوظ هو من أبلغ موارد الركود والتقليد ولا بد لكي ندرك أن نلقي النمط والكليشيه جانبا تماما كما كان يفعل فانسينا ليعرف الحقيقية، وكما نادى تقرير (التنوع البشري الخلاق) للوصول للإبداعية.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.