غاب المنطق السياسي السديد تماماً لدى المبعوث الأمريكي الى السودان (برنستون ليمان) فى توصيفه لطبيعة علاقة بلاده بالسودان ضمن حواره المطول – ذائع الصيت – الذي أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط مؤخراً، فحين سُئل (ليمان) عن لماذا لا تحسِّن واشنطن علاقاتها مع السودان بعدما وافق على عدم معارضة انفصال الجنوب ولماذا لا تكافئه كما وعدته؟ يجيب (ليمان)، ولماذا لا تحسن الحكومة السودانية علاقاتها مع شعبها أولاً؟ ويضيف، ليس سراً أن في السودان أزمة حكم؛ وليست معجزة أن الحل هو حكومة تمثل الشعب السوداني تمثيلاً حقيقياً! وبالطبع من يطلع على هذه الإجابة –خاصة القوى المعارضة– قد تثلج صدره أو تشعره ببعض الراحة على الرغم من أن واشنطن بدت هنا -على لسان ليمان- وكأنها تربطها (صداقة قوية أزلية) بشعب السودان وأنها لم تكن هي التى قررت معاقبته لعشرين عاماً فقط لمجرد خلافها مع حكومته. غير أن ليمان -للأسف الشديد- ينسف ذات منطقه هذا فى إجابة أخرى لما سُئل – بعد ثوان فقط من هذا السؤال – عن موقف بلاده من المعارضة العسكرية فى جنوب كردفان، ماذا قال ليمان؟ قال بحروف واضحة ولسان أمريكي مبين: رأينا أن الانتخابات أجريت تحت رقابة دولية منها (مركز كارتر)، ولكن رفضَ قادة الحركة الشعبية النتائج، وكان رأينا أن يقبلوها أو يستأنفوا للقضاء. كان واضحاً من سياق هذه الإجابة الأخيرة أن ليمان – وبضربة واحدة – قضى على إجابته السابقة تماماً، ففي الوقت الذى أشار فيه فى إجابته الأولى لوجود أزمة حكم وأن السلطة القائمة لا تمثل الشعب السوداني تمثيلاً حقيقياً، عاد ليقول – دون أن يحس بهذا التناقض – إن الانتخابات التى شهدها السودان وأتت بالحكومة الحالية كانت مراقبة دولياً، وأن رأيهم كان أن يقبلها حملة السلاح فى جنوب كردفان. ليمان هنا لم يستطع الزعم أن الانتخابات العامة التى أجريت فى السودان فى ابريل 2010 لم تكن نزيهة، فقد قال إنها كانت مراقبة دولياً وساهم مركز كارتر فى مراقبتها، وهو ما أكد نزاهتها أو هكذا يُفهم ضمنياً من سياق إجابته بدليل نصيحتهم لحملة السلاح فى جنوب كردفان بضرورة قبولها أو التظلم منها -إن كان هناك ما يقتضي ذلك- الى القضاء. ويفهم من هذا الحديث أن واشنطن ترى صحة العملية الانتخابية التى أجريت ولو كانت تري غير ذلك - سواء فى حينها أو الآن - لأفصحت عن ذلك ولما نصحت المتمردين بقبولها، وهذا أيضاً يقودنا الى نتيجة مهمة ومفصلية تنسف مزاعم ليمان بشأن عدم تمثيل الحكومة السودانية للشعب السوداني تمثيلاً حقيقياً! إذ ليس من قبيل المنطق السياسي السديد الزعم بصحة نتائج الانتخابات أو عدم القدح فيها وفى الوقت نفسه الزعم بأن الحكومة التى جاءت نتاجاً للعملية الانتخابية ليست ممثلاً حقيقياً للشعب السوداني! لقد عاد ليمان لطعن إرادة الشعب السوداني فى الصميم وهو الذى طالب الحكومة السودانية بتحسين علاقاتها بشعبها! وبالطبع طالما كان كل هذا هو منطق الرجل، فإن من الطبيعي أن يقوده منطقه الأعوج هذا الى إجابات أخرى عديدة خاطئة بلغت ذروتها حين تحدث عن العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان، والتي ألقى باللائمة عليها على السودان وحده بحيث بدا وكأنّ السودان –وحده– هو الذي يأخذ العقوبات الاقتصادية الأمريكية بيديه ويضعها على ظهره! لقد كان من المكن إيلاء الرجل كامل الاحترام لو أنه قال إن العقوبات الأحادية الجانب التى تفرضها بلاده على الخرطوم مردها مصالحاً أمريكية عليا لا حاجة له بالإفصاح عنها، فلو أنه قال ذلك لاحترمنا (الإرادة الأمريكية) كيفما كانت، وعلى أيّ سند استندت، فمصالح الدول معنية بها حكوماتها، ولكن الرجل حمل الحكومة السودانية قرارات ورغبات وأهواء بلاده غير المستندة على أساس سياسي سليم، معلقاً بعضها على قائمة الإرهاب مع أن بلاده أشادت عشرات المرات بتعاون السودان الملموس فى هذا المضمار، وعلق بعض آخر على حروب السودان مع أن بلاده تقدم الدعم السخي المستمر لحملة السلاح. لقد أعطى المبعوث الأمريكي الخاص صورة هي الأسوأ لمبعوث كان قميناً به أن يحافظ على إخفاقاته طيّ صدره من أن يخوض فى خضم هادر كهذا ويتردّى من موجه المتلاطم ليغوص الى القاع!