ويجيب داوود أوغلو قائلاً: عندما ننظر للتركيبة الجيوسياسية، والجيواقتصادية لأفريقيا فإننا سنجد السودان يمثل نموذجاً أفريقياً مصغراً بامتياز، وإذا رسمنا نموذجاً مختصراً لأفريقيا فلا شك أن السودان سيكون هو الدولة التي تختصر فيها أفريقيا بكل مكوناتها، لماذا؟ في شمال السودان يغلب المتحدثون باللغة العربية وهم يماثلون في ذلك التركيبة السكانية لشمال أفريقيا الناطقة باللغة العربية، أما في الجنوب فيغلب وجود القبائل الأفريقية الممتدة التي تقطن جنوب الصحراء الكبرى، وكما تعرف فإن وجود هذه القبائل يتمدد إلى خارج حدود السودان إذ أن لها امتداداتها في دول الجوار الأقرب، ويمتد تواصلها بعيداً حتى النيجر، كما أن هذه القبائل ظلت تتحرك شمالاً وجنوباً داخل السودان حتى قبل أن يرسم ما يعرف بالحدود بين الشمال والجنوب، وهي تحركات لا تعترف بحدود مرسومة لكنها تحكمها سبل كسب العيش واحتياجاتها الحياتية الموسمية. لقد ظللنا نقول منذ وقت مبكر أن القضية السودانية يجب أن تعالج بشكل صحيح، لأن هذه المسألة لا تخص السودان وحده، بل تتعداه لتصبح قضية أفريقية بامتياز، لأن دول القارة ستتأثر بما سيحدث في السودان. السودان أكبر دولة في أفريقيا مساحة، ولديه أكثر عدد من الدول المجاورة أكثر من أي قطر آخر في أفريقيا، فهو يجاور نحو عشرين بالمائة من دول القارة، وكلها ستتأثر على نحو أو آخر بالنموذج الذي سيتمخض عنه الوضع في السودان، لذلك لا يمكن اعتبارها قضية سودانية داخلية بحتة، بل هي قضية أفريقية بامتياز. ويقول أوغلو: نحن نعلم أن ما يحدث الآن هو نتاج تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وهو اختيار الطرفين ونحن نحترم ذلك، ونحن نؤكد على دعم تركيا للسودان بما يسهم في تجاوز القضايا الانتقالية العالقة بما يحقق الاستقرار، وقد تحدثت مع الوزير على كرتي، عند اجتماعي به قبل يومين في اسطنبول، وتحدثنا حول موضوع أبيي والحدود والجنسية وغيرها من الترتيبات الانتقالية. وتقسيم الحدود هي مسألة مثيرة للمشكلات دائماً، وما نقوله إنه إذا تعين تقسيم هذه الحدود فيجب أن يتم في حده الأدنى، ويجب أن تكون مرنة وفضفاضة بقدر الإمكان بحيث تؤثر سلبياً على حياة السكان. ويجب أن يستمر الشمال والجنوب في الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية قوية متبادلة، ويجب أن لا ينعزلا عن بعضهما البعض، وكما هو معلوم فإن سبعين بالمائة من حقول النفط توجد في الجنوب، كما أن البنية التحتية والمنشآت الضرورية لتصديره توجد في الشمال، ويجب أن لا يضطر جنوب السودان للبحث عن بديل للوصول إلى منافذ أخرى إلى البحر لتصدير نفطه، لأن هناك بنيات موجودة ومستخدمة بالفعل في الشمال. وهي محفزات لتوثيق التعاون وتقوية العلاقات بأكثر مما تكون سبباً في عكس ذلك. على أي حال ما دام قيام دولتين أصبح أمراً واقعاً وبتراضي الطرفين، فيجب ألا يكون ذلك سبباً في خلق مشكلات جديدة، بل يجب أن تعمل الدولتان في الشمال والجنوب وكأنهما دولة واحدة، والهدف هو تأمين انفصال سلمي قد يقود لاحقاً إلى إعادة توحيد سلمي، والسؤال هل هذا الحل ممكن؟. من المهم هنا إدراك أنه إذا لم تعالج هذه الأمور في الوقت الراهن بحلول ناجعة، فإن الأجيال القادمة ستعاني أكثر وستدفع ثمناً أكثر، وإذا نجح الشمال والجنوب في تجاوز عملية الانتقال إلى دولتين بصورة سلمية تحفظ الصلات القوية بينهما، فإن الجيل القادم سيسأل لماذا انفصلنا؟، وما هي الأسباب الجوهرية لذلك، ونحن نعيش في المحيط الجغرافي ذاته، ونقتسم الموارد ذاتها. يجب أن تعالج مسألة تقسيم الحدود بعناية وحرص شديدين، وعند تغيير الحدود فإن الأمور لن تقف عند هذا الحد وستتسبب في إثارة الأوضاع في دول أفريقية أخرى، وفي إعادة إنتاج القضية ذاتها. ويجب أن ننتبه إلى أننا في عصر تغير فيه الحدود من أجل خلق كيانات أكبر، وليس لتوليد وحدات أصغر، وأمامنا تجربة الاتحاد الأوروبي الماثلة، ولكن علي أي حال نحن أمام عملية بدأت في السودان وفق ترتيبات اتفاقية السلام، وعلينا احترام هذا القرار، ولتركيا قنصل عام في جوبا، وعندما تعترف الحكومة السودانية بقيام دولة مستقلة في الجنوب، ستعترف تركيا حينها أيضاً بالدولة الجديدة. ونعتقد أن خيار الجنسية المزدوجة يمكن أن يشكل حلاً جيداً للطرفين يجنب حدوث أية مآس إنسانية قد تنجم عن تقسيم المجتمعات والقبائل والأسر باعتبارات سياسية، ومن الممكن أن يطرح حل عبر إنشاء منطقة انتقالية على جانبي الحدود وفق ترتيبات خاصة تحافظ على طبيعة حياة المجتمعات في هذه المنطقة. لا أحب استخدام مصطلح أفريقيا السوداء، وأنا معجب بمالكوم إكس، الزعيم الأمريكي الأفريقي المعروف، الذي يرفض هذا الوصف واعتبره مصطلحاً خاطئاً، ولذلك فأنا لا أحب أن ينظر لما حدث في السودان بحسبانه نزاعاً بين العرب والأفارقة السود، أو نتاج صراع بين أفريقيا جنوب الصحراء، وأفريقيا شمال الصحراء الناطقة باللغة العربية، ويجب ألا ينظر للأمر باعتباره نزاعاً بين الإسلام والمسيحية. وعلينا أن نستفيد من النموذج الناجح الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي، فشيكوسلوفاكيا انقسمت إلى دولتين، ولكن ليست هناك مشكلة حدود بينهما، لأنهما عادتا للتوحد تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، ونأمل في تجربة مماثلة بتطور الاتحاد الأفريقي إلى وضع لا يعود فيه معنى لوجود الحدود بين الدول الأفريقية. لم يستمع أحد من القادة لا في الخرطوم ولا في جوبا إلى نصيحة أحمد داوود أوغلو لذلك استمر إزهاق الأرواح، واستمر نزيف الموارد في حروب عبثية، والآن يعودان إلى تفسير الماء بعد الجهد بالماء، فهل يصمد صوت العقل، أم يعلو مجدداً جنون البندقية؟ المصدر: الراية القطرية 9/2/2016م