عندما ننظر للتركيبة الجيوسياسية والجيواقتصادية لإفريقيا فإننا سنجد السودان يمثل نموذجاً إفريقياً مصغراً بامتياز، وإذا رسمنا نموذجاً مختصراً لإفريقيا فلا شك أن السودان سيكون هو الدولة التي تختصر فيها إفريقيا بكل مكوناتها!! هذا ما قاله البروفيسور أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي في حوار ذكي أجراه معه الدكتور خالد التجاني صاحب الإصدارة الذكية المعروفة بإيلاف في العام «2011م». ويفسر العالم السياسي الذكي كيف يمثل السودان نموذجاً مصغراً لإفريقيا فيقول: في شمال السودان يغلب المتحدثون باللغة العربية وهم يمثلون التركيبة السكانية لشمال إفريقيا الناطقة بالعربية، أما في الجنوب فيغلب وجود القبائل الإفريقية الممتدة التي تقطن جنوب الصحراء الكبرى وهذه القبائل يمتد وجودها إلى خارج السودان إذ أن لها امتداداتها في دول الجوار الأقرب ويمتد تواصلها بعيداً حتى النيجر، كما أن هذه القبائل تتحرك شمالاً وجنوباً داخل السودان حتى قبل أن يرسم ما يعرف بالحدود بين الشمال والجنوب وهي تحركات لا تعترف بحدود مرسومة وتحكمها سبل كسب العيش واحتياجاتها الحياتية الموسمية!! وقد أشرت إلى هذا في ورقة قدمتها في العام «2009» في مؤتمر عقد بموسكو بعنوان الحلول العلمية والعملية لقضايا السودان، وقد نالت الورقة اهتمام الإعلام الروسي الذي عرضها في وسائله دون غيرها من الأوراق التي قُدمت، وقد طلب سفير الاتحاد الإفريقي نسخة منها! أما الجهة التي لم تهتم بالورقة وما ورد فيها هي السودان الرسمي رغم أن أعضاء الوفد أثنوا عليها كل الثناء!! ومما ذكرته في تلك الورقة أن حل قضية دارفور والجنوب والشرق ليس حلاً داخلياً إنما هو حل إقليمي، فدارفور تمثل نموذجاً لدول جوارها فالقبائل في دارفور هي ذاتها في دول الجوار وهو حل اقتصادي لا عسكري أو سياسي، يتمثل في ربط السودان بتلك الدول بالخط الحديدي لينقل الغذاء المتمثل في الذرة وهي الغذاء الغالب لدارفور ودول الجوار الدارفوري ومن ثم نقل منتجاتهم الحيوانية ومنتجاتهم الزراعية والمعدنية إلى الخارج عبر أراضي السودان إلى ميناء بورتسودان الذي يمثل المنفذ البحري الوحيد لدى معظم دول الجوار الدارفوري ودول الجوار الجنوبي ودول القرن الإفريقي التي تمثل دول الجوار الشرقي!! ويقول البروفيسور أوغلو «السودان أكبر دولة في إفريقيا مساحة وله أكثر عدد من الدول المجاورة أكثر من أي دولة إفريية أخرى فهو يجاور أكثر من عشرين في المائة من دول القارة، وكلها تتأثر على نحو أو آخر بالنموذج الذي سيتمخض عنه الوضع في السودان لذلك لا يمكن اعتبارها قضية سودانية بحتة بل هي قضية إفريقية بامتياز!! نعم هي قضية تمتد جذورها لتصل غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي وحتى الممر المائي الإستراتيجي الهام الذي يسمى البحر الأحمر!! أعتقد أن وضع السودان شبيه بوضع الاتحاد السوڤيتي السابق مع اختلاف التكوين فالاتحاد السوڤيتي قام على قوميات بينما قام السودان على تكوينات قبلية. ورغم أن الاتحاد السوڤيتي ربط جمهورياته وكل دول جواره اقتصادياً إلا أنه أراد محو القوميات وإبدالها بقومية سياسية وهي السوڤيت، كما أنه فرض على تلك القوميات نمطاً اقتصادياً حتى إن دول المعسكر الشرقي عانت من فرض النمط الاقتصادي، وقد خالفت بعض الدول ذلك النمط كالمجر مثلاً فأخذت بقية دول المعسكر تطالب بالنموذج الاقتصادي المجري!!. وقد اتخذ الاتحاد السوڤيتي موقعاً جيوبوليتيكا واقتصادياًَ هاماً فقد كان يطل على أوربا الغربية واسنكندنافيا وآسيا الوسطى وتركيا وإيران وآسيا الكبرى متمثلة في الصين ومنغوليا كما كان يطل على المحيط الهادي وبحر البلطيق والبحر الأسود وبحر قزوين «حقل الموارد البترولية الهائلة»!! الذي حدث للسودان هو صورة مصغرة لما حدث للاتحاد السوڤيتي، والذي حدث لهما هو نتاج نظام الحكم في كليهما، ورغم أن الاتحاد السوڤيتي كان مروبطاً بخطوط حديدية وجوية وطرق برية إلا أن النمط الاقتصادي الذي كان مفروضًا هو ما عجل بتفتيته!! واليوم يحاول الرئيس بوتن جاداً تشكيل الاتحاد الأوراسي على أساس اقتصادي دون فرض نمط سياسي معين على الدول المنضوية تحته!! والسودان يمكن أن يعيد الجنوب والغرب والشرق اقتصادياً إن لم يكن سياسياً، ولكن هل تسمح مقدرات النظام الحاكم بالقيام بذلك؟!! أشك كثيراً!!