بعد نجاحها في تقديم نموذج مختلف للإعلام العربي من خلال شبكة قنوات الجزيرة التي احتلت مكانة مرموقة وحققت شهرة واسعة على المستويين الإقليمي والدولي، تضيف دولة قطر نجاحا آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه حينما استطاعت تحقيق ما عجز عنه الآخرون عربيا وإسلاميا على مستوى المصالحات وإصلاح ذات البين وجهود إحلال السلام والتنمية في المنطقة. ويعود الفضل في ذلك لعدم تخلف قيادتها السياسية عن الاضطلاع بدورها القومي والإسلامي، والإسهام في سد الثغرة التي نشأت عن إحجام الآخرين عن أداء هذا الواجب، ثم بفضل ديناميكية دبلوماسيتها الذكية والنشطة، حتى صارت وجهة الأطراف المتنازعة التي تبحث عن حل للخروج من المشاكل المتعلقة بصراعاتها الداخلية التي تهدد نسيج وحدتها الوطنية وأمنها القومي وسلمها الاجتماعي. ولعل مثل هذه النجاحات غيّرت مسلمات كانت سائدة في عالم الدبلوماسية العربية منها على الأقل وهي أن مثل هذه المبادرات والتحركات يجب أن ترتبط بالضرورة بحجم الدولة أو مساحتها الجغرافية أو عدد سكانها أو موقعها الجيوسياسي، بينما ترتبط في حقيقة الأمر بعلاقات هذه الدول والأطراف المتشاكسين فيها بالدولة صاحبة المبادرات وقدرتها على صياغة اتفاقات عملية وواقعية تزيل مخاوف أطراف العلاقة وتحفظ لهم مصالحهم التي تبدو متعارضة وحقوق كل منهم، وبقدرتها التفاوضية وصولا إلى حلول وسط تكون محل قبول ورضا الجميع. سجل الإنجازات القطرية لم يبدأ الآن بل يعود إلى بضع سنين خلت، ويمكن القول إنه تجسد في أروع تجلياته عندما تمت مساعدة اللبنانيين على طيّ ملف الصراع في مايو 2008، مما أسهم في تعزيز لحمتهم الوطنية، وامتد إلى ملفات أخرى سبقت وتلت ذلك كمحاولات المصالحة بين الفلسطينيين، ورعاية توقيع اتفاق بين الحكومة اليمنية والحوثيين عام 2007، والذي يمكن إعادة تفعيله، بناء على الزيارة التي قام بها سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر إلى اليمن قبل أيام قليلة، وأخيرا وليس آخرا فيما نعتقد رعاية توقيع اتفاق الإطار ووقف إطلاق النار في دارفور بين ممثلين عن الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة. ولعل سر نجاح المبادرات القطرية في تحقيق السلام والمصالحات في المنطقة يمكن فضلا عن التحرك القوي في إطار الملف التفاوضي لبؤر المشاكل والاقتتال والخلافات، والصبر واتباع سياسة النفس الطويل للتوفيق بين وجهات النظر المختلفة، والمتابعة الدقيقة والمتواصلة لهذه الجهود إلى أن تؤتي أكلها، يكمن في العمل على خطوط متوازية لتلبية الاحتياجات الإغاثية أولا، والدفع بعملية التنمية التي من شأنها توفير سبل الاستقرار، من خلال إعادة إعمار ما دمرته الحروب الداخلية، وإعادة الحياة الطبيعية لسابق عهدها ثانيا باعتبارها صمام أمان لنجاح الحلول السياسية. وبالتطبيق على المساعي الراهنة لإحلال السلام في إقليم دارفور يمكن للرؤية القطرية أن تكون أكثر اتضاحا من خلال تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية أحمد بن عبد الله آل محمود الذي قال إن "رفع المعاناة عن الأهالي أصبح ضرورة ملحة، لذا فقد حرصنا في دولة قطر في إطار المساهمة بذلك أن يكون موضوع التنمية في دارفور من أولوياتنا قبل وبعد تحقيق السلام، لذا فقد أعلنت الدولة مبادرات بإنشاء المؤسسات التنموية وأرسلت القوافل الإغاثية حتى قبل توقيع اتفاقيات السلام إيمانا منها بأهمية إعادة التأهيل والاستقرار". أما ترجمة هذه التوجهات عمليا فيمكن ملاحظتها من خلال ما يلي: إعلان سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير قطر عن نيته العمل "لإنشاء صندوق لتنمية دارفور برأسمال مقداره مليار دولار مفتوح أمام الدول والمنظمات التي تريد المشاركة فيه"، وقد تم الكشف عن هذا الوعد بمناسبة توقيع اتفاق الإطار بين حركة العدل والمساواة المعارضة والسلطات السودانية. تعهد حكومة قطر بتقديم 200 مليون دولار في المؤتمر الدولي للمانحين لإعادة إعمار وتنمية دارفور الذي انعقد في القاهرة، وهو أكبر مساهمة عربية وإسلامية في الصندوق. دعم الحكومة لقوافل الإغاثة ومشاريع التنمية التي بدأت الجمعيات والمؤسسات الخيرية القطرية تسييرها للإقليم وتنفيذها هناك اعتبارا من الشهر الجاري، حيث أشار السيد إبراهيم الشريم المسؤول في إدارة التنمية الدولية بالخارجية القطرية إلى أن "الإغاثة العاجلة لدارفور التي أعلنتها دولة قطر بقيمة 50 مليون ريال تنفذ عبر الجمعيات الخيرية"، منوها إلى أنها تأتي استكمالا لجهود الدوحة لإحلال السلام والاستقرار بدارفور، وأكد أن مفاوضات السلام الجارية في الدوحة والقوافل الإغاثية مساران متوازيان"، وأضاف: "كل ما يخدم المتضررين ويوفر لهم الحياة الكريمة يدعم مسار السلام"، مؤكدا "أن دولة قطر تعمل في جميع الاتجاهات التي تخدم التنمية والاستقرار في السودان الشقيق". ولعل هذا ما دعا الدكتور عبد الحميد موسى كاشا والي ولاية جنوب دارفور كافة المنظمات الخيرية العربية إلى الاقتداء بالجمعيات الخيرية القطرية والمبادرة إلى تنفيذ مشاريع تنموية وإغاثية في الإقليم. ونظرا لتزايد أهمية منظمات المجتمع المدني في جهود إحلال السلام فقد استضافت الدوحة خلال الشهر الجاري أعمال المؤتمر الثاني لممثلي المجتمع المدني الدارفوري، وفي افتتاح اللقاء قال وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري: "إننا في الوساطة نعوّل كثيرا على مشاركة المجتمع المدني في عملية السلام الجارية، ولقد ظللنا نردد بأنه لن يكون هناك سلام في دارفور بدون هذه المشاركة لأن الناس تأثروا تأثرا مباشرا بالنزاع وصارت لديهم رغبة جادة في المساهمة في حله"، وشدد على أن "منظمات المجتمع المدني ينتظر أن تلعب أدوارا مهمة قد يكون منها الحث والتعجيل والتسريع بخطى التفاوض للوصول إلى اتفاق وفض الاختناقات وربما تعلب دور الضامن في إجراءات التنفيذ". لهذه الأسباب وغيرها استطاعت قطر أن تحقق دبلوماسيا ما عجز عنه الآخرون، فانتزعت بذلك إعجابا شعبيا عربيا وإسلاميا، طالما أن مساعي المصالحة والسلام والاستقرار تصب في خدمة الجماهير التي تكون عادة هي المتضرر الأكبر من الحروب والنزاعات. المصدر: الشرق القطرية 20/7/2010