دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع ابن رجب حول أعمال شهر رمضان (2-4)

تناول الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ ابن رجب الحنبلي من علماء القرن الثامن الهحري مسائل خاصة بشهر رمضان أسماها وظائف شهر رمضان وهذا القسم الثاني من مختارات منها تناول فيها معاني خلوف فم الصائم وأسرار الجود في رمضان:
خلوف فم الصائم
وقوله: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا، لكنها طيبة عند الله، حيث كانت ناشئة عن طاعته، وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دما، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، وبهذا استدل من كره السواك للصائم، أولم يستحبه من العلماء. وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح، وروي عن أبي هريرة: أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت. وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء. وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم، لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل وقت الكراهة بصلاة العصر ؟ أو بزوال الشمس ؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها ؟ على أقوال ثلاثة: والثالث: هو المنصوص عن أحمد.
وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:
المعنى الأول:
أن الصيام لما كان سرا بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق، ليشتهر بذلك أهل الصيام، ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا. وروى أبوالشيخ الأصبهاني بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعا: (يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم، أفواههم أطيب من ريح المسك) حكي عن سهل بن عبد الله التستري الزاهد رحمه الله: أنه كان يواظب على الصيام، فمرّ يوما بثمار، وبين يديه رطب حسن، فاشتهت نفسه فردّ شهوتها فقالت نفسه: فعلت بي كل بلية من سهر الليالي، وظمأ الهواجر، فأعطني هذه الشهوة واستعملني في الطاعة كيف شئت. فاشترى سهل من الرطب وخبز الحواري وقليل شوى ودخل موضعا ليأكل، فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما: إني محقّ وأنت مبطل، أتريد أن أحلف لك أني محق؟ وأن الأمر على ما زعمت؟ قال: بلى! فحلف قال: وحق الصائمين إني محق في دعواي. فقال: هذا مبعوث الحق تعالى إلى هذا السوط بي، ثم أخذ بلحيته وقال: يا سهل! بلغ من شرفك وشرف صومك حتى يحلف العباد بصومك فيقول: وحق الصائمين! فيقول: وحق الصائمين ثم تفطر أنت على قليل رطب. والله أعلم.
قال مكحول: يروح أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح. فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام، وقد تفوح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة. وهو نوعان:
أحدهما: ما يدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب من العبّاد المجتهدين في الصلاة والصيام، فلما دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.
والنوع الثاني: ما تستنشقه الأرواح والقلوب، فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين. وحديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل: آمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم تعجبه ريحه، وأن ريح الصيام أطيب عند الله من ريح المسك) خرجه الترمذي وغيره.
لما كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرا بينه وبينهم أظهر الله سرّهم لعباده، فصار علانية، فصار هذا التجلّي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار. في الحديث: (ما أسرّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية) قال يوسف بن أسباط: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعليّ إظهارها لهم.
تذلل أرباب الهوى في الهوى عز وفقرهم نحو الحبيب هو الكنز
وسترهم فيه السرائر شهرة وغير تلاف النفس فيه هو العجز
والمعنى الثاني:
أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل، فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا، فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله، بل هي محبوبة له وطيبة عنده، لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته، فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم، لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا. قال بعض السلف: وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها فصام ثلاثين يوما، ثم وجد من فيه خلوفا، فكره أن يناجي ربه على تلك الحال، فأخذ سواكا فاستاك به، فلما أتى لموعد الله إياه قال له: يا موسى أما علمت إن خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك، ارجع فصم عشرة أخرى.
ولهذا المعنى كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك، وغبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنة.
ورد في حديث مرسل. كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعته ورضاه، فهو الكامل في الحقيقة.
خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك، عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل، نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح، انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر، ذل الخائفين من سطوته هو العز، تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر، بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة، جوع الصائمين لأجله هو الشبع، عطشهم في طلب مرضاته هو الريّ، نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.
ذل الفتى في الحب مكرمة وخضوعه لحبيبه شرف
هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح، وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، والمستوجبين النار بالعتق، لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر.
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي، يا جنيد اطرب، يا شبلي احضر، يا رابعة اسمعي، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي، (يا قومنا أجيبوا داعي الله) ويا همم المؤمنين اسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي.
ليت شعري إن جئتهم يقبلوني أم تراهم عن بابهم يصرفوني
أم تراني إذا وقفت لديهم يأذنوا بالدخول أم يطردوني
المجلس الثاني: في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) وخرجه الإمام أحمد بزيادة في آخره وهي: (لا يسأل عن شيء إلا أعطاه)
الجود: هو سعة العطاء وكثرته والله تعالى يوصف بالجود وفي الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله جواد يحب الجود كريم يحب الكرم) وفيه أيضا من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عن ربه قال: يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: كن فيكون).
وفي الأثر المشهور عن فضيل بن عياض: أن الله تعالى يقول كل ليلة: أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم. فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان وفيه أنزل قوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره: (أنه ينادي فيه مناديا يا باغي الخير هلم ويا باغي الشرّ أقصر) ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة.
ولما كان الله عز وجل قد جبل نبيه صلى الله عليه وسلم على أكمل الأخلاق وأشرفها كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وذكره مالك في الموطأ بلاغا: (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس كلهم) وخرج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعا: (ألا أخبركم بالأجود الأجود، الله الأجود الأجود، وأنا أجود بني آدم وأجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله) فدل هذا على أنه صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة. وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أول مبعثه: والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافا كثيرة.
وفي الصحيحين عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس) وفي صحيح مسلم عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) وفي رواية: (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر) قال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. وفيه أيضا عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وأنه لمن أبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليّ) قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة، وفي مغازي الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوء إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي.
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم: أن الأعراب علقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم فقال: لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا) وفيهما عن جابر قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: لا وإنه قال لجابر: لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا وقال: بيديه جميعا) وخرج البخاري من حديث سهل بن سعد: إن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم فلبسها وهو محتاج إليها، فسأله إياها رجل فأعطاه، فلامه الناس وقالوا: كان محتاجا إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال: إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه).
وكان جوده صلى الله عليه وسلم كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال إما لفقير أو محتاج أو ينفقه في سبيل الله أو يتألف به على الإسلام من يقوي الإسلام بإسلامه، وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وكان قد أتاه سبي مرة فشكت إليه فاطمة ما تلقي من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها. فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها وقال: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع)
وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تضاعف فيه أيضا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة، وذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها، وذلك الشهر شهر رمضان خرج إلى حراء كما يخرج لجواره معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها. جاءه جبريل من الله عز وجل ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك، فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام وهو أفضل الملائكة وأكرمهم ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه وهو أشرف الكتب وأفضلها وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه.
فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود، ولا شك إن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالطة.
كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده وفرقها كلها على الناس فأنشد:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة.
وقد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد ولا يصلح أن يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولولم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
سمع الشبلي قائلا يقول: يا الله يا جواد، فتأوّه وصاح وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود ومخلوق يقول في شكله، فذكر هذه الأبيات ثم بكى وقال: بلى! يا جواد فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، فأنت الجواد كل الجود، فإنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حد له ولا صفة، فيا جوادا يعلو كل جواد وبه جاد كل من جاد.
وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:
منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، وفي الترمذي عن أنس مرفوعا: (أفضل الصدقة صدقة رمضان).
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقط غزا، وفي حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: (من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء) خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه وخرجه الطبراني من حديث عائشة وزاد: (وما عمل الصائم من أعمال البر إلا كان لصاحب الطعام ما دام قوة الطعام فيه). وخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان وفيه:(وهو شهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ؟ قال: يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة).
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة غرفا يُرى ظهورها من بطونها، و بطونها من ظهورها قالوا: لمن هي يا رسول الله ؟ قال: لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث. والصيام والصلاة والصدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل. قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: (من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبوبكر: أنا. قال: من تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبوبكر: أنا. قال: من تصدق بصدقة ؟ قال أبوبكر: أنا. قال: فمن عاد منكم مريضا ؟ قال أبوبكر: أنا. قال: ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة).
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصا إن ضم إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جُنة) وفي رواية: (جُنة أحدكم من النار كجُنته من القتال). وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار، وقيام الرجل من جوف الليل) يعني أنه يطفيء الخطيئة أيضا وقد صرح بذلك في رواية الإمام أحمد وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) كان أبوالدرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص، وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، كما ورد ذلك في حديث خرجه ابن حبان في صحيحه وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نهى أن يقول الرجل: صمت رمضان كله أو قمته كله، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل. ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث. والصيام والصدقة لهما مدخل في كفارات الإيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في رمضان، ولهذا كان الله تعالى قد خير المسلمين في ابتداء الأمر بين الصيام وإطعام المسكين، ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره، ومن أخّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يقضيه ويضم إليه إطعام مسكين لكل يوم تقوية له عند أكثر العلماء، كما أفتى به الصحابة وكذلك من أفطر لأجل غيره كالحامل والمرضع على قول طائفة من العلماء.
ومنها: أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله فإذا أعان الصائمين على التقوي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله وآثر بها أو واسى منها، ولهذا يشرع له تفطير الصوام معه إذا أفطر، لأن الطعام يكون محبوبا له حينئذ فيواسي منه حتى يكون من أطعم الطعام على حبه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له ورده عليه بعد منعه إياه، فإن هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها، وسئل بعض السلف: لم شرع الصيام ؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع.
وهذا من بعض حِكم الصوم وفوائده، وقد ذكرنا فيما تقدم حديث سلمان وفيه: (وهو شهر المواساة) فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة. كان كثير من السلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به ويطوون. كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائما ولم يأكل شيئا.
واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاما، وكان صائما فوضع بين يديه عند فطوره فسمع سائلا يقول: من يقرض الملي الوفي الغني ؟ فقال عبده المعدم من الحسنات فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويا. وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائما. وكان الحسن يطعم إخوانه وهو صائم تطوعا، ويجلس يروحهم وهم يأكلون، وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.
سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، لم يبق منهم إلا أخبار وآثار، كم بين من يمنع الحق الواجب عليه وبين أهل الإيثار.
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
وله فوائد أخر‎;‎ قال الشافعي رضي الله عنه: أحب للرجل الزيادة في الجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم. وكذا قال القاضي أبويعلى وغيره من أصحابنا أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.