دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة الإسلامية (الواقع)

المنبغي في حق المسلم حاكماً كان أو محكوماً أن يسعى لبلوغ الكمال في التزام أحكام الإسلام، والتخلق بآدابه ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لقوله تعالى ((فاتقوا الله ما استطعتم)) وقوله صلى الله عليه وسلم {ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم} ولا بد أن نلاحظ في هذا المقام أن غربة الإسلام عن السياسة والحكم قد طالت؛ فإن الانحراف الحاصل في هذا الباب يعود لعهود طويلة قبل أن تسقط دولة الخلافة بالكلية سنة 1924؛ تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم {لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة}.
والدولة التي تستحق أن توصف بأنها إسلامية هي التي تحقق الواجبات الشرعية ويصدق في حقها جملة من الصفات والتي خلاصتها تحكيم الإسلام في شئونها كلها؛ يقول يقول الأستاذ محمد أسد رحمه الله: "إن الغايات التي تعطي لفكرة الدولة الإسلامية معناها ومبررات قيامها تنحصر في أن تجعل من شريعة الإسلام القانون المهيمن على شئون الحياة، كيما يسود الحق والخير والعدالة، وأن تنظم العلائق الاجتماعية والاقتصادية بصورة تتيح لجميع الأفراد أن يحظوا بالحرية والأمن والكرامة، وأن يجدوا في نشدانهم التطور بشخصياتهم أقل قدر ممكن من العراقيل وأكبر قدر ممكن من الحفاء والتشجيع، وأن تتيح للمسلمين رجالاً ونساءً أن يحققوا الأهداف الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام لا في مجال العقيدة فحسب، ولكن في مجال الحياة العملية أيضاً، وأن تكفل لرعاياها من غير المسلمين كل أمان فعلي، وأن تمنحهم الحرية التامة في عقائدهم وطقوسهم الدينية إلى جانب كفالة حقهم في التطور الاجتماعي والثقافي، وأن تحمي الوطن من العدوان الخارجي وتصونه من التصدع الداخلي، وأن تحتضن تعاليم الإسلام وتنشر رسالته في ربوع العالم على أوسع نطاق ممكن، فإذا حققت الدولة هذه الأهداف، كان لها الحق حينئذ بأن تتصف بأنها (خليفة الله في الأرض)"i
وسأعرض جملة من الواجبات التي يجب على الدولة تحقيقها على أرض الواقع:
1 حماية الدين مما يخل به أو يؤثر على حقيقته وذلك بالحرص على تعليم الناس دينَهم الصحيح والأخذ على يد السفهاء الذين يزيِّنون للناس الباطل، ويروِّجون بينهم ضروب الشرك والشعوذة؛ وذلك بمنع انتشار العقائد الباطلة، والعادات الفاسدة التي تناقض ما شرع الله لعباده وكذلك الخرافات والأباطيل وأنواع الدجل والشعوذة، مما هو شائع معروف في مجتمعنا المعاصر، كالقول بعدم حجية السنة والاستغناء عنها بالقرآن، وإدعاء علم الغيب، وبدعة التشيُّع والرفض والطعن على الصحابة في الجرائد السيارة واستكتاب القساوسة فيها لنشر باطلهم بين عوامِّ المسلمين، وانتشار الطرق المنحرفة المنتسبة زوراً وكذباً إلى الصوفية، وشيوع العادات الضارة في الأفراح والأتراح واعتبارها ديناً، وإنكار أهل الباطل على من ينكرها، فيجب على الدولة المسلمة الحيلولة دون ذلك كله، حتى لا يفسد على الناس دينهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فأما الغش والتدليس في الديانات، فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين، ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين أو سب أئمة المسلمين ومشايخهم وولاة أمورهم المشهورين عند عموم الأمة بالخير، ومثل التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله، ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه، والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره، ومثل إظهار الخزعبلات السحرية والشعوذة الطبيعية وغيرها التي يضاهي بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا الباب واسع يطول وصفه، فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك وعقوبته عليها إذا لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل أو جلد أو غير ذلك.
2 الحرص على إظهار شعائر الدين وحمل الناس عليها؛ عملاً بقوله تعالى ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) فالدولة المسلمة مأمورة بأن تعظم شعيرة الصلاة ويدخل في ذلك القيام على المساجد وحماية أوقافها، وتحقيق الكفاية للأئمة والمؤذنين ومن يقومون على الشعائر من حفظة القرآن ومعلمي الناس الخير، ويجب عليها أن تجمع الزكاة من حلها وتضعها في مصارفها من غير تعدٍّ ولا تفريط، وتؤمن للناس حجاً ميسوراً دون أن تفرض عليهم ضرائب أو مكوساً، بل لو استطاعت أن تعين من يريد الحج فلتفعل وإلا فلتكف عنه إثقال كاهله وتعسير أمره
3 إقامة الحدود الشرعية وتطبيق الأحكام الحدية؛ صيانة للدين والأنفس والأعراض والعقول والأموال؛ على أن يكون ذلك علانية قدر المستطاع لقوله تعالى ((وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) وفي ظل الهجمة الشرسة على تعاليم الإسلام، مع مرحلة الاستضعاف التي يعيشها المسلمون فلا حرج في أن تقام الحدود في السجن بحضور طائفة مقدرة من أولئك المساجين، على أن يكون من بين الحاضرين من حصلت الجناية بحقه ليحصل الغرض الشرعي كاملاً في الردع والزجر وشفاء صدور المؤمنين. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أرباباً من دون الله، وهو شر عظيم وفساد عظيم".. إلى أن يقول: "إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله تبدو محاولة سخيفة، لا مبرر لها من الواقع، ولا سند لها من إرادة الله، ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم (مسلمين) يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا تخسر (السائحين) أي والله هكذا يقولون".
وبمنطق الشهيد نفسه نقول: كيف وبعض من يسمون أنفسهم (مسلمين) يقولون: حتى لا نخسر النصارى، حتى لا نخسر الدول الكبرى، حتى لا نخسر منظمات حقوق الإنسان، حتى لا تتفتت البلاد، حتى نحافظ على وحدتها وننجو من الانفصال؛ ونحو ذلك من الدعاوى العارية من كل منطق الخالية من كل برهان
4 تحصين الثغور وحماية الحدود؛ وذلك بأن يكون الجهاد منهجاً وسبيلا، وأن تكون العقيدة العسكرية للجيش في الدولة المسلمة نابعة من هدي الإسلام، ويدخل في ذلك تربية الشباب على معاني الرجولة والقوة، وأن الإعداد أو ما يسميه الناس بالخدمة الإلزامية ليس نافلة أو تطوعاً بل هو فريضة عينية على كل قادر؛ خاصة ونحن في زمان عظم فيه التربص بالإسلام وأهله، والبلاد المسلمة تنتقص كل يوم من أطرافها، ويصحب هذا الإعداد العسكري تحصين للشباب والجنود بمعاني الإسلام العظام وغايات الجهاد الكبرى وتربيتهم على القيم التي يتمثلها المجاهد؛ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انطلقوا باسم الله، بالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يجب المحسنين..))(ii).، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد: "أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله.."(iii).وفي مقابل ذلك لا بد من التناغم بين أجهزة الدولة؛ لئلا يكون جهاز يعد العدة ويستفرغ الوسع في حث الناس على الجهاد ومعالي الأمور، وجهاز آخر ينشر الخنا والمجون، ويشغل الناس بسفاسف الأمور، ويربي الشباب على التخنث والميوعة والانحلال، ويفت في عضد المجاهدين، ويؤخر بما يصنع نصر الله ورحمته
5 إقامة قضاء عادل هديه الإسلام ودستوره القرآن، ويختار لمنصب القضاء العدول الأكفاء الخيار الأمناء، ولا يترك منصب القضاء لكل من هب ودرج ممن لا يصدق عليه وصف العدالة، قال أهل العلم: ينبغي أن يكون القاضي عاقلاً، حراً، مسلماً، سميعاً، بصيراً، ناطقاً، عالماً بالأحكام الشرعية(iv)، ومن أجل تحقيق النِّصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، قال أهل العلم: ينبغي للقاضي أن يكون فطناً، مهيباً، حليماً، مستشيراً لأهل العلم والرأي، سليماً من بطانة السوء، لا يبالي في الله لومة لائم، ورعاً، ذكياً، غير مستكبر، متأنياً غير عجول، نزيهاً عما في أيدي الناس، عاقلاً، مرضي الأحوال، غير مخدوع، وقوراً، مهيباً، عبوساً من غير غضب، متواضعاً من غير ضعف، حاكماً بشهادة العدول، متيقظاً، كثير التحرز من الحيل وما يتم مثله على المغفل والناقص والمتهاون.. قال مالك رحمه الله: "لا أرى خصال القضاء اليوم تجتمع في واحد، فإن اجتمع منها خصلتان ولي القضاء وهما: العلم والورع"(v). قلت: هذا قول مالك في أهل زمانه فما ظنك بزماننا؟ فالواجب على وليِّ الأمر أن يتحرى أهل العدالة والعلم في هذا المنصب؛ من أجل أن يحقق غرض الشرع في تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصومات بين المتنازعين.
ويلحق بذلك ما كان مثل القضاء وسيلةً لتحقيق العدل وفض الخصومات وبسط الأمن، من تعيين الشُّرَط والمحتسبين ووكلاء النيابات ومن يسهرون على راحة الرعية.
6 العدل في تقدير العطاء وصرف الأموال على أصحاب الولايات العامة؛ فلا يتصور في الدولة المسلمة أن ترعى حقوق طائفة معينة من الناس فتصرف لهم أعلى الرواتب، وتهمل في الوقت نفسه وظائف أخرى أهلها ليسوا أقل شأناً من أولئك المحظوظين؛ فيعاني المعلمون والعسكر وأصحاب مهنة الطبابة من ممرضين ومحضرين وأطباء الأمرين وكذلك أرباب المعاشات ممن أفنوا أعمارهم في خدمة الناس، ولا يكاد العجب ينقضي من دولة إسلامية تضيع فيها حقوق الأئمة والمؤذنين حتى يصل الأمر إلى فقد الكادر الوظيفي الذي يضمن لهم عيشاً كريماً؛ فيعودون عالة يتكففون الناس، وينتظرون ما يجود به أهل الخير ولجان المساجد، وتجد من يرفع عقيرته قائلاً: إن المساجد ليست وظيفة للدولة بل هي وظيفة المجتمع!!!!! إنه لا يُعقل من الدولة المسلمة أن تنفق ببذخ تام على أمور تافهة، كدعم أهل الفن والرياضة وبالمقابل تظلم فئات أخرى هي أجل قدراً وأعظم نفعاً، كالجنود الذين يحمون البلاد والعباد، وطلاب العلم والأطباء والمدرسين والموظفين الذين يقضون حوائج الناس في سائر الدواوين. قال ابن تيمية: "أما المصارف فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين العامة، كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة فمنهم المُقاتِلة، ومنهم ذوو الولايات عليهم: كالولاة والقضاء والعلماء والسعاة على المال، حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك"(vi)، تعطي الدولة المسلمة كلاً حقه من غير تأخير ولا تسويف، ليأمن الناس من فتنة وشر، فما استجلب الراعي محبة رعيته بمثل الإحسان إليهم والقيام بحقوقهم وأداء الأمانات إلى أهلها، ولا حصلت الفتن ونجم الشر وساءت العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلا بمنعهم حقوقهم والتقتير عليهم والإساءة إليهم مما يستتبع غضب الرب ومقته وعقابه.
7 صيانة الأموال العامة وأن تكون الدولة في ذلك قدوة؛ فلا إسراف ولا تقتير بل هي في ذلك مثال العدل؛ ولا يتصور في الدولة المسلمة أن يرتع مسئولوها في النعيم المقيم من سيارات فارهة وأثاث ناعم وسكن فاخر لا من كدهم ولا من سعيهم بل على حساب الخزينة العامة، وأكثر الناس يتضورون جوعا، ويعانون مسغبة، بل يكتفي المسئول في تنقلاته وسكنه وأثاثه بما يحقق له الكفاية من غير توسع في مال الله، ولو استطاع أن يلقى الله خميص البطن من أموال المسلمين فليفعل. وقد نشرت الصحف قبل حين أن رئيس وزراء بريطانيا سافر في مهمة رسمية على درجة رجال الأعمال، ولما عرف المسئولون في الطائرة ذلك عرضوا عليه أن ينتقل مع ركاب الدرجة الأولى كرماً منهم لأن الخطوط عربية لكنه أبى ليكون قدوة لغيره!!! وقد كنا نحن أجدر بأن نقدم للناس مثالاً كهذا؛ خاصة في ظل تقارير تتحدث عن أرقام فلكية لأسفار المسئولين التي ترهق كاهل الميزانية العامة، وقلما يعود منها نفع على البلاد أو العباد.
8 أن يحرص المسئولون على تفقد أحوال الرعية كم من حاكم وكم من وزير ومسئول ضيَّع حقوق الرعية بالاحتجاب عنهم، والاعتماد على تقرير يرفعه هذا أو ذاك من مرؤوسيه، ثم بعد ذلك يبني على ذلك التقرير المضلِّل غالباً نتائج خاطئة يخرج بها على الناس يعدُهم ويمنِّيهم، ثم بعد حين يكتشف الناس كذب ذلك المسئول عليهم وغشه لهم مما يوغر صدورهم، ويكون ذلك المسئول حقيقاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))(vii)، وبقوله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة))(viii)، قال ابن حجر رحمه الله: "حاصل الروايتين أنه أثبت الغش في إحداهما، ونفى النصيحة في الأخرى فكأنه لا واسطة بينهما، ويحصل ذلك بظلمه لهم، بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، وحبس حقوقهم، وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، وردع المفسدين منهم، وترك حمايتهم ونحو ذلك"(ix). فالواجب على كل من ابتلاه الله بأمر الناس حاكماً أو وزيراً أو والياً أو سفيراً في الدولة المسلمة أن يباشر الأمور بنفسه، ويتصفح أحوال رعيته، ويتعهد حاجاتهم، ويسمع شكاياتهم، ويلبي مطالبهم في حدود ما أمر به الشرع وما تقضي به المصلحة ولا يجعل بينه وبين رعيته أسواراً منيعة، وأبواباً وحُجُباً، بل يبرز إليهم ويسمع منهم، كما كان في حال الأئمة الأخيار الذين عرفوا قدر ما أولاهم الله من نِعَم وأنه سائلهم عنها. هذا عمر بن الخطاب يقول: "إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، وليشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا أذن له عليّ ليرفعها إليَّ حتى أقُصَّه منه"(x). وهذا أبو موسى الأشعري لما تولى بعض الولايات في عهد عمر رضي الله عنه قال للناس: "إن أمير المؤمنين بعثني إليكم أعلمكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"(xi).
أما لو احتجب الراعي عن رعيته فما نظر إليهم ولا اهتم بهم زعماً منه بأنه مشغول بعبادة ربه فإنه يكون قد خان الله ورسوله وخان الأمانة التي ائتمن عليها، وحسبه من عبادة ربه بعد أداء ما افترض الله عليه أن يجهد نفسه في إصلاح أحوال رعيته وبذل النصح لهم، فإن خير ما أنفقت فيه الأعمار قضاء حوائج المسلمين، وتفريج همومهم، وتنفيس كربهم، وخير ما شغلت به الأوقات إدخال السرور على المسلمين بسد جوعتهم، وستر عورتهم، وحفظ بيضتهم. كان عمر رضي الله عنه في سفر، فلما كان قريباً من الروحاء سمع صوت راع في جبل فعدل إليه، فلما دنا منه صاح: يا راعي الغنم، فأجابه الراعي، فقال عمر: إني قد مررت بمكان أخصب من مكانك وإن كل راع مسئول عن رعيته (xii).
9 الحذر من فرض الجبايات والرسوم الباهظة التي تثقل كاهل الناس وتزرع في قلوبهم عداوة الحاكم وبغضه؛ فإنه ما استجلب غضب الرعية بمثل التعدي عليهم في أموالهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يدخل الجنة صاحب مكس} وقال في الزانية {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له}
10 إقامة علاقات خارجية متوازنة في ظل واقع يموج بالتربص بالإسلام وأهله، ولا حرج على الدولة المسلمة أن تأخذ بمبدأ المداراة والتي هي بذل الدنيا من أجل الدين، سواء كان ذلك عن طريق اتفاقات أو تسهيلات أو غير ذلك مما يكف غائلة المتربصين، ولتحرص دولة الإسلام على ألا تستعدي الناس عليها، وتسلك في ذلك مسلك الحكمة التي تستمطر بها نصر الله تعالى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.