من طبيعة الحياة وطبيعة المجتمع أنه يوجد فيه خليط من الناس يتعايشون ويتعاملون ويوجد فيه المؤمن بجنب الكافر والصالح بجنب الطالح والطائع بجنب العاصى . فما منهج المسلم في هذه المخالطة؟ لاعزلة ولا رهبانية لم يأمر الله عز وجل المؤمنين بهجر المجتمع أو الفرار إلى الكهوف والمغارات والصحارى والأديرة . فليس في الإسلام رهبانية . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تشددوا على أنفسكم؛فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) . فإذا كانت المخالطة أمر لازم لحياة البشر وكانت المخالطة شريعة من شرائع الإسلام وسننه فما منهج المسلم في هذه المخالطة؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال الهام جاء المثل الذي ضربه الله تعالي عن هؤلاء النسوة الأربعة: امرآة نوح ولوط وفرعون ومريم . فما ذا يقول المثل ؟ وما المنهج الذي يخطه الله للناس عند المخالطة ؟ مثل النسوة الأربعة يقول الله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) فهذا مثل ضربه الله عز وجل وذكره ليعقل ويفهم . والأمثال فى القرآن والسنة أسلوب من الأساليب التى تساق لبيان وتوضيح معنى من المعاني وحقيقة من الحقائق ، يراد لها أن تفهم وتعقل وتستقر في النفس وترسخ لتؤثر فيها و تتحول من مجرد مثل ومعنى إلى سلوك وعمل . قال تعالى (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ، وقال (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ، وقال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) ، وقال (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) . فإذا ضرب الله مثلا فحق للناس أن يستعمعوا وأن يتفكروا وأن يعقلوا وأن يتذكروا . والمثل المضروب عن امرآة نوح وامرآة لوط وامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ليس هو مثل للنساء خاصة كما قد يتوهم البعض أو كما يسبق إلى الذهن ، فليس المثل هنا عن نساء عاصيات ونساء طائعات وكثيرا ما يتلو الناس هذه الآيات ويوجهونها للنساء . لكن الحقيقة أن المثل هو للناس جمعيعا{/shadowboxwtw} كما قال تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ) وقال ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) . فالمثل هنا للكفار جميعا وللمؤمنين جميعا مثل للناس كلهم كافرهم ومؤمنهم ورجالهم ونسائهم . هو مثل لكل أحد . وموضوع المثل ليس معصية النساء أو طاعتهن إنما المثل مثل للمخالطة والمعايشة المخالطة والمعايشة بين المؤمنين والكافرين وبين الطائعين والعاصين وبين الصالحين والفاسقين الشق الأول من المثل يقول تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) . فهاتان المرأتان كانتا كافرتين وهما يعيشان تحت نبيين صالحين بل كان نوح من قادة الرسل ومقدميهم ، كانت الواحدة منهن تعايش النبى الكريم وتخالطه اشد الخلطة والمعاشرة ، تؤاكله وتشاربه وتجالسه وتضاجعه ، ومع ذلك قال الله عنهما (فخانتاهما) والخيانة هنا خيانة في الدين وهى كفرهما ومعصيتهما أمرهما وليست خيانة جنسية وليست خيانة فاحشة كما قال اِبْن عَبَّاس مَا بَغَتْ اِمْرَأَة نَبِيّ قَطُّ إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتهمَا فِي الدِّين وهذا إجماع من المفسرين على هذا . والقاعدة التي يخرج بها القرآن أن هذه المخالطة لم تغن عنهما شيئا (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) . هذه هي القاعدة التى ضرب لها المثل . يعنى خالط من شئت من الصالحين وكن مع من شئت من أهل الخير والبر وانتمى إلى ماشئت من الطوائف والجماعات فإن مخالطتك ومعايشتك وانتماؤك لا يغنى عنك شيئا مالم تكن أنت في نفسك صالحا . فمن المعلوم أن المنافقين يخالطون المؤمنين في الدنيا ويعايشونهم ولكن الله تعالى يقول عنهم يوم القيامة (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . فالمنافقين يتمايزون عن المؤمنين يتمايزون عنهم اولا بالنور فالمؤمن يعطى نورا بقدر إيمانه وبقدر أعماله كما جاء في الحديث (فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه، ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يعطى مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى (نورا) أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نوره على إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه (فمشى) وإذا طفىء قام ) . وأما المنافق فلا يعطى نورا ، ثم هم يتمايزون بالسور ويفصل الله بين المؤمنين والمنافقين بسور عازل وجدار حاجز . ( يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) ألم نكن معكم نشهد الجمعات ونشهد الجماعات ونغشى المجالس والاجتماعات والدعوات والحفلات . قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . الشق الثاني من المثل: أما الشق الثاني من المثل الذي ضربه الله تعالى عن المخالطة فهو قوله (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) . فقد كان جبارا في الأرض ومن أكثر الناس عتوا وتكبرا وتجبرا حتى أنه دعى الألوهية كما قال عنه الله تعالى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ، واستبد بقوته وجنوده ملكه وجبروته كما قال عنه تعالى ( فتولى بركنه ) ، وأذل واستضعف وقتل وشرد أتباع موسى . ولكن زوجته آمنت وهى من هى فى مكانتها هي سيدة المجتمع الأولى وهي المقربة من فرعون الطاغية تعايشه وتخالطه أشد المخالطة . ومع هذا لم تفتنها تلك المخالطة ولم تصرفها عن إيمانها ولا عن التمسك به وهي في بيت فرعون بل في قصره وقصور فرعون فيها مافيها من الرفاهية والزخرف والمتاع ما تشهد به آثارهم حتى الآن ، ولكنها انصرفت عن ذلك كله لم تشغلها المغريات ولا المتع ورفعت كفها داعية الله تعالى (قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) فقصور فرعون لم تلها عن غايتها هي تريد بيتا في الجنة بيتا عند الله لا عند فرعون (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وكذلك كانت مريم ابنة عمران مع قوم كافرين ولكن الله أنبتها نباتا حسنا واصطفاها وطهرها على نساء العالمين فكانت قانتة راكعة ساجدة حتى بلغت من المكانة والعلو والكرامات ما لم ينله حتى زكريا كما قال تعالى (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حساب) . منهج المسلم في المخالطة فالمثل المضروب هنا أن المؤمن إذا خالط وعايش مجتمعا عاصيا فاسقا أوكافرا فلا ينبغى أن يصرفه ذلك عن دينه وإيمانه بل ينبغى أن يكون كامرأة فرعون وكمريم تميسكن بدينهن وإيمانهن وهن في أشد المجتمعات كفرا وضلالا . وما أنفع هذا المثل للجاليات للمسلمين في هذا العصر بل وفي كل عصر. فالعيش في مجتمعات تشيع فيها الفاحشة والرزيلة أو مجتمعات تحكمها العلمانية أو مجتمعات تحكمها تقاليد وموروثات جاهليه؛ ففي كل هذا الظلام لا ينبغى أن يصرف المرء عن دينه مهما تكن المغريات ومهما تكن المصاعب والمشكلات . المهم أن مثال امرآة فرعون ومريم ينبغى أن يكون مثالا حيا واقعا يعيشه المؤمنون والمسلمون في كل مكان وقد (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ ) (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )