ثر إعلان الحكومة السودانية قرارها بتطبيق رفع الدعم عن المحروقات والقمح ، اندلعت في العاصمة الخرطوم وعدد من المدن السودانية الأخرى ، انتفاضة شعبية تلقائية تحتج على ارتفاع الأسعار وعلى عدم قدرة الغالبية العظمى من أبناء الشعب السوداني مواجهة أعباء الحياة ، ورفعت الجماهير المحتجة شعارات تطالب بإسقاط النظام ورحيله متهمه إياه بتجويع الناس وتدمير مقدرات البلاد . وفى المقابل جاءت تصرفات النظام تعبر عن قدر كبير من القلق والتوتر الأمر الذى دفع نائب الرئيس على عثمان طه ، إلى التهديد علنا بإنزال ميلشيات النظام لمواجهة المحتجين في الشوارع وأطلق عليهم مسمى " المخربين " ، وقد نتج عن ذلك سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى على أيدي العناصر الأمنية التابعة للنظام ، والتي قدرتها مصادر المعارضة بأكثر من مائة قتيل ومئات الجرحى ، في الوقت الذى يصر فيه وزير الداخلية السوداني على أن عدد القتلى 34 فقط . ورغم أن السبب المباشر لهذا التحرك الشعبي الواسع الذى تواصل لعدة أيام، يتصل بالأزمة الاقتصادية ورفع الدعم عن المحروقات ، إلا انه يعبر فى الحقيقة عن فقدان نظام البشير لشرعيته ، بعد تراكم إخفاقاته بشكل أصبح يشكل تهديدا لبقاء السودان نفسه . فمن المعروف ان نظام الإنقاذ قد وصل الى الحكم عبر انقلاب عسكري فى عام 1989 دبرته ونفذته الجبهة الإسلامية التى كان يقودها آنذاك حسن الترابى ، وكانت الشعارات لمرفوعة تتحدث عن إعلاء الهوية الإسلامية للسودان ( رغم انه متعدد الأعراق والثقافات والأديان) ، وتطبيق الشريعة ، تحت ما أسمته " المشروع الحضاري " والذى بمقتضاه سوف يقود السودان المنطقة ويواجه قوى الاستكبار فى العالم . ولكن بعد عشر سنوات من الحكم، لم يتمخض ذلك سوى عن تطبيق مشروع التمكين عبر استيلاء تنظيم الجبهة الإسلامية على كل مفاصل الدولة من جيش وقضاء وأجهزة أمنية واقتصاد وخدمة مدنية ، مع قمع المعارضين فى الداخل وظهور ما يعرف باسم " بيوت الأشباح " وهى معتقلات سرية كان يتم فيها تعذيب المعارضين . وعلى مستوى آخر عمل نظام الإنقاذ على إشعال الحرب الأهلية فى جنوب السودان باعتبارها حربا جهادية مقدسة، ذهب ضحية لها عشرات آلاف القتلى والمصابين على الجانبين . وفوق كل ذلك انشق النظام على نفسه إثر تراكم الخلافات والحساسيات بين السلطة الحقيقة " الباطنة " وغير المعلنة والتى كان يمثلها حسن الترابى، والسلطة " الظاهرة " التى كان يمثلها البشير وعلى عثمان طه وآخرون من قادة تنظيم الجبهة الإسلامية. وكان من نتيجة ذلك خروج الدكتور الترابى من الحكم واعتقاله عدة مرات بعد أن شن حربا فكرية وإعلامية شرسة ضد أنصاره وتلاميذه السابقين وأكد مرارا وتكرارا انه لا علاقة لهم بالإسلام أو قيمه أو مقاصده ، وأنهم يمثلون سلطة غاشمة لا هدف لها سوى البقاء فى الحكم . ولمواجهة ذلك اتجه البشير ومن تحالفوا معه إلى قبول التدخل الامريكى لإنهاء الحرب الأهلية فى جنوب السودان وقبلوا حق تقر المصير، وظهر تساؤل كبير بلا إجابة : فيمت كانت الدماء وفيم كان الجهاد وأعراس الشهيد. رفعوا شعارات السلام والتحول الى التنمية والديمقراطية، لاعادة التموضع الاقليمى والدولى وللتخفف من أثقال الجنوب ، ولكى يبقى وجه الشمال خالصا، ولكن بعد عشر سنوات أخرى ، كانت النتيجة هى انفصال جنوب السودان وفقدان السودان لثلث أراضية وثلاثة أرباع ثروته النفطية ، وكان ذلك نوعا من العبث غير المسبوق لحساب بقاء نظام واستمرار سلطة، حيث لم يتحقق اى هدف، فلم يكسب السودان السلام او يحقق الاستقرار ، بل انتشرت الحرب الأهلية واتسع نطاقها واشتعلت فى بقاع عدة من شمال السودان فى دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان ، وزادت الضائقة الاقتصادية حتى بلغت كل مبلغ. وفى الوقت نفسه يصر نظام البشير على إقصاء كل القوى السياسية الأخرى ، ويرفع لواء تطبيق الشريعة ، رغم انه يتحدث عن هذه القضية منذ ربع قرن كامل توشك فيه الدولة السودانية على التلاشي، وهو مازال يلوك الرطانة الشعاراتية الفارغة وينشد الأهازيج، بعد أن أصبح مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية باتهامات الإبادة وجرائم الحرب . ومن ثم فانه بدون التوجه الى إشراك كل القوى السياسية قوى الأطراف فى معادلة جديدة للحكم عبر مرحلة انتقالية ومؤتمر دستوري جامع ، فان السودان يواجه خطر الانهيار ، فلا يمكن لنظام البشير الاستمرار اعتمادا على الحلول الأمنية التى سوق تقود إلى انحسار سلطة الدولة عن أراضيها بشكل متزايد ومن ثم تنتهي إلى تفكيك السودان ، أو الاستمرار فى الضغط الأمنى بما قد يؤدى الى الفوضى والتحول الى الصوملة . الأهرام 5 أكتوبر 2013