عبد الله حمدوك.. متلازمة الفشل والعمالة ..!!    بريطانيا .. (سيدى بى سيدو)    كريستيانو يقود النصر لمواجهة الهلال في نهائي الكأس    المربخ يتعادل في أولى تجاربه الإعدادية بالاسماعيلية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي ، عبد العزيز الصاوي ، رباح الصادق ، عبد السلام نور الدين ، مطرف صديق ، عبد الله علي ابراهيم وعبد اللطيف البوني
نشر في سودانيات يوم 10 - 06 - 2012


[b]
(حريات)
جحد التنوُّع: متلازمة “المرض السوداني"!
بقلم/ كمال الجزولي
(1)
في برنامج “بلا حدود" بقناة الجزيرة، بتاريخ 10 مايو 2012م، قال كرتي، وزير خارجية السودان، لمحاوره احمد منصور: "منذ 1983م أصبح الجنوبيون يقاتلون تحت مانفيستو السودان الجديد؛ وعرَّاب السودان الجديد (يومئ بذلك إلى الراحل جون قرنق) كان يقول إنه يعني السودان الذي يحكمه غير عربي وغير مسلم، فهل أنت ترضى بهذا“؟!
وكان البشير، رئيس الجُّمهوريَّة قد وجَّه، قبل ذلك، إنذاراً غليظاً ضمن المشهور من حديث (عيد الحصاد) في ولاية القضارف، أواخر 2010م، بمغبَّة انفصال الجنوب، قائلاً: “الدُّستور سيعدَّل .. وسنبعد منه العبارات (المدَغْمَسة) .. فلا مجال للحديث عن دولة متعدِّدة الأديان والأعراق والثقافات!" (وكالات وفضائيات؛ 19 ديسمبر 2010م)؛ يعني: لئن كانت (الإثنية) هي جماع (العِرْق + الثقافة)، فإن (التنوُّع الإثني) في السودان كان رهيناً، حسب رئيس الحمهورية، ببقاء الجنوب جزءاً منه؛ أما وقد ذهب الجنوب، فقد انتفي هذا (التنوُّع)، وأضحى الكلام عنه محض (دَغْمَسَة)، أي مواربة لأهداف أخرى!
هكذا، بمثل ذلك الذم لحديث (التنوع) باعتباره محض (دغمسة)، وبمثل هذا السؤال (الإيحائي الاستنكاري) الموجه إلى إعلامي (عربي مسلم) عما إذا كان يرضى بأن يحكمه (غير عربي وغير مسلم)، اختزل كلا السيدين البشير وكرتي، في بعض أحدث التعبيرات السياسية عن أيديولوجيا النخبة العربوإسلاموية الحاكمة في البلاد، ما يمكن تسميته ب "متلازمة المرض السوداني“ التي تهدر كل طموحات (المساكِن الآخر) غير المستعرب وغير المسلم، وتستفظع تطلعاته (المشروعة) التي لطالما عبَّر عنها، سلماً وحرباً، للمشاركة في حكم البلاد! تلك هي أزمة (التساكن المعلول) التي لم تجهض، فحسب، حلم السلام والتجربة الديموقراطية في بلادنا، بل بترت، عملياً، أطرافاً عزيزة من أرضها وشعوبها في الجنوب، وما تزال تنذر ببتر المزيد من هذه الأطراف في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وربما في الشرق والشمال الأقصى أيضاً!
لم يوفق، للأسف، لا الرئيس ولا وزير خارجيته، ولا، من خلفهما، مفكرو القوى الطبقية والأيديولوجية الإسلاموية السائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً واجتماعيّاً وثقافيَّاً، لما يربو على العقدين من الزمان حتى الآن، وبشكل مستمر، إلى قراءة أكثر سداداً في لوح أنثروبولوجيا السودان؛ ولو انهم فعلوا لأدركوا أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: أن في المشاركة في حكم البلاد حقاً معلوماً لكل مساكن في الوطن، عربياً كان أو غير عربي، مسلماً أو غير ذلك؛
وثانيهما: أن ثمة ضلالاً كبيراً في اعتبار الجنوب (أيقونة التنوُّع) اليتيمة التي، بذهابها، ينقشع (التنوُّع) ذاته عن البلاد، ف (التنوُّع) إنما يظل حقيقة سودانية موضوعية لا تنكرها العين إلا من رمد، بقي الجنوب أم ذهب.
(2)
ينطوي (التنوع) على دلالة (الاختلاف)، لا (الخلاف)، من حيث أنه لا يعني، في الأصل، أية (قطيعة) بين مفردات الوطن (الإثنيَّة)، وتكويناته القوميَّة، بل يعني، ببساطة، حالة من (التميُّز) لا تمحوها (القواسم)، حقيقية كانت أو متعمَّلة، فلا مناص، إذن، من الاعتراف بهذا (التميز)، وبحقه في التعبير عن نفسه، وفي النمو والازدهار، مع إتاحة الفرصة له للانفتاح على ما عداه بمستوى من التكافؤ يجعل من هذا الانفتاح مشروعاً لتثاقف سلمي هادئ، وحوار ديموقراطي مرموق. ذلك أن (المختلِف) ليس، بالضرورة، (مخالِفاً) في معنى (المتناقض العدائي). ولو استبعدنا المقابلة الاصطلاحية التناحرية الفاسدة التي عادة ما يصطنعها كلا أيديولوجيي (المركز) العربوإسلامويين وأيديولوجيي (الهامش) الانفصاليين، من أجل تبرير حربهم العرقية الدينية، غير آبهين إلى الحقيقة الموضوعية القائمة في كون (العروبة)، أصلاً، من أبرز مكونات (اﻷفريقانية)، لأدركنا أن ما يجمع بين شتى التكوينات القوميَّة السودانيَّة أكثر بكثير مِمَّا يفرِّق.
وإذن ف (التنوُّع)، عرقيَّاً كان، أو دينيَّاً، أو ثقافيَّاً، أو لغويَّاً، ليس هو، كما ولم يكن في أي يوم، سبب مشكلتنا الوطنيَّة، حسب ما يحاول غلاة العربوإسلامويين، أو التيَار (السُّلطوي/الاستعلائي/التفكيكي) وسط الجَّماعة المستعربة المسلمة في بلادنا، أن يصوِّر الأمر. وجود تكوينات قوميَّة (متنوِّعة)، أي (مختلِفة)، ليس هو السَّبب في هذا الحريق الوطني الشَّامل الذي لطالما عانت وما زالت تعاني منه بلادنا، بل إن جحد هذا (التنوُّع)، وسوء إدراكه، وسوء التخطيط، بالتبعية، للسِّياسات المتعلقة بإدارته في (المركز) تجاه (الهوامش)، لا بالنسبة لشعوب الجنوب وحدها، وإنما، أيضاً، بالنسبة لشعوب الغرب والشَّرق وربَّما الشَّمال الأقصى، هو السَّبب الحقيقي في عدم توازن التنمية بين هذا (المركز) وهذه (الهوامش)، وفي ما ظل يترتب على ذلك من أوهام الاستعلاء، والاستضعاف، والاستتباع، وجحد حق (الآخر) المشروع في أن يكون (آخر)، ومن ثمَّ جحد حقه في ممارسة (اختلافه)، وما ينتج عن كل ذلك من ردود الأفعال العنيفة من (الهوامش) تجاه (المركز)، والتي تنشأ، بالضرورة، عن تفاقم فقدان الثقة المتبادل، وتتخذ، تقليدياً، صورة المجابهات المسلحة.
(3)
لا تنتطح عنزان على أن الاستعمار لعب دوراً قصديَّاً مباشراً في تكريس هذه المشكلة ومفاقمتها، غير أنه، بالقطع، لم يخترعها، وإنما عمد للاستثمار في أوضاع تاريخية سالبة وجدها قائمة، أصلاً، على الأرض لما يناهز الخمسة قرون قبل مجيئه، فلا معنى، إذن، للتركيز على دوره وحده.
لقد صاغ الاستعمار وطبق (السياسة الجنوبية) منذ مطالع عشرينات القرن المنصرم، عبر جملة قوانين وترتيبات هدفت لِلجْم التقارب، دَع التثاقف، بين إثنيات البلاد المختلفة فى الشمال والجنوب وجبال النوبا الشرقية والغربية، كقانون الجوازات والتراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، وقانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م، علاوة على فرض الانجليزية لغة رسمية في الجنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشمالية على أهله، وابتعاث الطلاب الجنوبيين لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إلى ذلك. فإذا افترضنا، نظرياً، إمكانيَّة استبعاد العامل الاستعماري، فهل تراها كانت ستنتفى أسباب المشكلة بالنظر إلى الوضعيَّة الذاتيَّة للعلاقات الإثنيَّة وسيرورتها منذ القرن السادس عشر؟! هذا، برأينا، هو السؤال الذي يحتاج إلى تفكير جديد.
وعلى العموم ، فقد اتخذت الإدارة البريطانية عام 1946م قراراً بتغيير تلك السياسة بعد انقضاء أقل من ثلاثة عقود على تطبيقها، وعقدت مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947م لإقرار السياسة البديلة التي تبقى الجنوب ضمن حدود السودان الموحد بنظام الحكم الذاتى، ثم شكلت الجمعية التشريعية في ديسمبر عام 1948م بمشاركة الجنوبيين. ويفترض د. أسامة عبد الرحمن النور، في محاولة لإعطاء تفسير علمي لذلك التغيير من زاوية مختلفة ، أنه لا بد قد جرى في ملابسات الأثر الذي أحدثه تطوُّر علم الأنثروبولوجيا والانقلاب على أسس الإثنوغرافيا، أو ما صار يعرف فى بريطانيا بالأنثروبولوجيا الكلاسيكية (ARKAMANI).
مهما يكن من شئ، فقد دخل السودان مرحلة ما بعد اتفاقية الحكم الذاتي فبراير 1953م وهو (موحَّد)، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال يناير 1956م وهو (موحَّد)، وما كان ذلك ليكون لولا أن النواب الجنوبيين صوتوا مع إعلان استقلال السودان (الموحد) من داخل البرلمان الأول في 19 ديسمبر 1955م ، مقابل محض (كلمة شرف) من الأحزاب الشمالية بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالي بعد الاستقلال! وقد كان من الممكن أن يشكل ذلك، في ما لو كانت الأحزاب أوفت بوعدها، نموذجاً في التعامل المستقيم مع أشواق (الآخرين) من النوبا في جنوب كردفان وغيرهم، على امتداد السنوات الخمسين الماضية. لكن جرى النكوص عن العهد، فشكل ذلك بداية (درب الآلام) الشائك الطويل الذي ما زلنا نقطعه بأقدام حافية؟!
(4)
تصدَّت إنتلجينسيا المستعربين المسلمين (الجلابة) لقيادة الحركة السياسية الشمالية منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السياسي. وطوال ذلك التاريخ لم يكف التيار (العقلاني/التوحيدي)، بمختلف مدارسه الفكرية وانتماءاته السياسية وسط هذه النخب، عن اجتراح مختلف الأطروحات حول قضية الهُويَّة. لكن، ولأن صعوبات معرفة (الآخر)، القائمة في حواجز اللغة والثقافة والمعتقد، غالباً ما تشكل إغواءً بالركون للشائع عن هذا (الآخر) في الذهنيَّة العامة، وهي الصعوبات التي لا يحفل بها، بالمقابل، التيار (السلطوي/التفكيكي) أصلاً، فقد ظلت أطروحات التيار الأول تصطدم، في كل مرة، بتلك الصعوبات، فيستسلم أغلبها لاستسهال تفسيرها كمجرد “حواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزي مصطفى؛ 1972م)، أي كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الإثنيات الأفريقية السودانية، خصوصاً في الجنوب، بحركة الاستعراب والتأسلم التي استكملت نموذجها الأمثل، بحسب زاوية النظر هذه، في الشمال والوسط. هكذا، وبإزاء مصاعب البناء الوطني بعد الاستقلال عام 1956م وبدفع من الجامعة العربيَّة والمنظمات الإسلاميَّة التي انتمى إليها السودان بعد الاستقلال ضربة لازب، والتي أناطت به مهمة تعريب وأسلمة الأفارقة على مبدأ القهر والغلبة (عبد الله علي ابراهيم؛ 1996م)، ولأن الاستسهال يقود للمزيد منه، فقد أفرغت معظم هذه الأطروحات، على تنوُّع منطلقاتها، وبالأخص وسط القوى التقليدية التي ورثت السلطة من الاستعمار، في برامج وسياسات رسميَّة على النحو الآتي:
أ/ أعلنت (العربية) لغة رسمية، في ما أسماه بعض نقاد هذه السياسة “بالجبر اللغوي" (المصدر). وقد شكل ذلك إهداراً لكلُّ ثراء البلاد من جهتي التعدُّد والازدواج اللغويَّين، حيث توجد في السودان ممثلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة، ما عدا لغات الخويسان في جنوب أفريقيا (سيد حامد حريز ضمن عبد الله على ابراهيم؛ 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التي يتحدث بها أهل السودان تبلغ المائة وأربع عشرة لغة، نصيب سكان جنوب السودان منها حوالي الخمسين لغة. ويتحدث 51% من جملة السكان البالغة آنذاك 10,262,536 اللغة العربية، ويتحدث 17,7% اللغات النيلية (11% منهم بلغة الدينكا) ، ويتحدث 12,1% بلغات غير العربية في الشمال والوسط (المصدر). وقد صنف جوزيف غرينبيرج كلَّ المجموعات اللغويَّة الكبيرة في أفريقيا فى أربع أسر؛ وباستثناء الأسرة الخويسانيَّة، فإن الأسر الثلاث الأخرى جميعها متوطنة في السودان، وهى: أسرة اللغات الأفريقيَّة الآسيويَّة، ومنها العربيَّة والبجاويَّة، وأسرة اللغات النيجركردفانيَّة، ومنها لغة النوبا الكواليب والمورو والفولاني، وأسرة اللغات النيليَّة الصحراويَّة التي يعتبر السودان الموطن المثالي لكل أفرعها، وهى ميزة لا تتوفر في أي قطر آخر في أفريقيا، وينتمى إلى هذه الأسرة ما يربو على 70% من اللغات المحليَّة المتحدَّثة في السودان، بل ويتمتع بعضها بموقع معتبر في خارطة البلاد اللغويَّة من حيث عدد متحدثيها وسعة انتشارها الجغرافي، كمجموعة اللغات النوبيَّة في جبال النوبا وشمال السودان وحلفا الجديدة، ومجموعة اللغات النيليَّة، ولغة الفور، ولغة الزغاوة، على سبيل المثال (أبو منقة؛ الأضواء، 16 فبراير 2004م). وتزداد أهميَّة لغات هذه الأسرة بالنسبة للسودان لجهة اشتراكه في عدد منها مع جميع البلدان المجاورة. بل إن خارطته اللغويَّة تضم لغات نيليَّة صحراويَّة مهاجرة من بلاد بعيدة في غرب أفريقيا، كلغة صنغاي السائدة في مالي والنيجر، ولغة الكانوري السائدة في بلاد برنو (نيجيريا) والنيجر وتشاد. وتكمن أهميَّة مثل هذه الحقائق في أنها تشير إلى عمق الصلات التاريخيَّة بين السودان وجيرانه القريبين والبعيدين، كما وأنها تشكل عنصراً مهماً في تواصل السودانيين مع هذه الشعوب (المصدر).
ب/ ومثلما جرى، فى الشأن الداخلي، استسهال رسم السياسات التي تتمحور نهائياً حول مركز الدين الواحد (الإسلام) واللغة الواحدة والثقافة الواحدة (العربية)، الأمر الذي أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثقافي واللغوي، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثقافة، وأحالها إلى مجرَّد هدف للأسلمة والتعريب، فقد جرى، فى الشأن الخارجي أيضاً، استسهال المراهنة، بعين البعد الواحد، على إدراج السودان بأسره تحت شعارات (العروبة) و(القوميَّة العربيَّة) و(الوحدة العربيَّة) وما إليها، واعتبار ذلك كله بمثابة (الممكن) التاريخي الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة السودانيَّة)، فإذا بمردوده العكسي الفاجع يتمثل في تحوُّله لدى الذهن (الآخر) غير المستعرب إلى محض ترميزات ناجزة بنفسها للتيئيس من هذه (الوحدة)، وحفز الميل ل (الانفصال)، الأمر الذي دفع ببعض المفكرين العرب، حتى ممن يرون أن “القوميَّة العربيَّة .. ما تزال قوة حيَّة ومحرِّكة"، لأن يدقوا أجراس التنبيه إلى هذه “الخاصِّيَّة القطريَّة .. في التفكير القومي العربي، وما تقدمه لذلك الفكر من أمثولة هو بأشد الحاجة إليها" (إيليا حريق؛ مقدمة فى: عبد الله على ابراهيم، 1996م). فالحقيقة أن الفكر القومى العربى “عالج .. تلك المشكلة بشئ من الخفة إن لم نقل العداء .. (و) التجاهل أو التهوين .. مدعياً .. أن الأقليات لا تختلف في الرأي عن النهج القومى العام .. (لكن) الطريق القويم للقوميَّة العربيَّة اليوم .. هو احترام الفروق القائمة في المجتمع والدولة القطريَّة ومساعدتها على التكامل والنمو والازدهار لكى تستطيع .. تشييد البناء القومى الذى يقوم على قاعدة وحدات من الدول القطريَّة. فبدل أن نسعى إلى القضاء على الدولة القطريَّة وعلى خاصيَّتها ، فالأحرى بنا أن نعمل للاحتفال بها والاعتماد على مقدراتها، فهي الأساس الذي نرتقي منه نحو البناء القومى الأعلى" (المصدر).
والواقع أن ثمة مقدمات فكريَّة لذلك الاستسهال بلورتها، قبل الاستقلال ، الاتجاهات والميول الغالبة على فكر وثقافة المستعربين المسلمين، وعلى الحركة الوطنيَّة عموماً، ووسط إنتلجينسيا (الجلابة) بالأخص. ففي 1921م كرَّس الشيخ عبد الله عبد الرحمن الأمين كتابه (العربية في السودان) لإثبات (نقاء) اللسان العربي في السودان (كلِّه)! وفى ذات الاتجاه انطلق الشعر الذي كان يمثل وقتها صورة الفكر الرئيسة، من خلال الموالد وفعاليات الخريجين والمناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة. ولعل المفارقة تتجلى هنا كأوضح ما يكون فى أنه، وعلى حين كان على عبد اللطيف، نوباوي الأب دينكاوي الأم، يتزعم الحركة الوطنية في عقابيل الحرب العالمية الأولى ، كان شاعرها الأكبر خليل فرح، نوبي الأصل، ينشد ممجداً الثوار الوطنيين بأنهم:
“أبناء يعرب حيث مجد ربيعة
وبنو الجزيرة حيث مجد إياد"!
وفى عام 1941م حدَّد محمد احمد محجوب، وكان من أبرز مثقفي تلك الحقبة، ثم أصبح، لاحقاً، من أميز قادة الفكر السياسي في حزب الأمة، وأحد الزعماء المرموقين الذين تقلدوا الوزارة، شروط المثل الأعلى للحركة الفكرية في “هذه البلاد"، على حدِّ تعبيره، بأن “تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وأن تكون ذات مظهر عربي في تعبيرها اللغوي، وأن تستلهم (التاريخ) القديم والحديث (لأهل) هذه البلاد و(تقاليد شعبها). هكذا يمكننا أن نخلق أدباً (قومياً)، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد إلى حركة سياسيَّة تفضي إلى الاستقلال السياسي والاجتماعي والثقافي" (أقواس التشديد من عندنا ضمن: أسامة عبد الرحمن النور؛ مصدر سابق). ومن نافلة القول أن المحجوب يكشف، بقوله هذا، عن أنه لم يكن يرى فى كل البلاد سوى (تاريخ) و(ثقافة) و(لغة) المستعربين المسلمين! وتكتسى، بلا شك، دلالة خاصة في هذا السياق عودة الإمام الصادق المهدى، رئيس حزب الأمة، بعد ما يربو على نصف القرن، لينتقد ما أسماه (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السياسيَّة الشعبيَّة التي حكمت السودان بعد الاستقلال مما أدى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة (ورقة “تباين الهويات ..").
ج/ ورغم أن السودان لم يُشرَك أحياناً في بعض المنظمات العربية بسبب وضعه الطرفي، أو لعدم حسم مسألة العروبة فيه (محمد عمر بشير، 1991م) ، إلا أن العروبة والديانة الإسلاميِّة ترسختا ، مع ذلك ، لا (كخيمة) يؤمَّل أن تسع قضيَّة (الوحدة) بقدر ما تسع حركة المثاقفة الطبيعيَّة بين مُكوِّنات التعدُّد السوداني ، وإنما كأيديولوجية قامِعة في أيدى نخب (الجلابة) الفكريَّة والسياسيَّة. هكذا تمدَّد تيار التعريب والأسلمة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافياً ، جاعلاًً من الإسلام إطاراً وحيداً لمنظومة القيم فى كل البلاد ، ومن العربية وسيلة وحيدة للصحافة والراديو والتلفزيون ودواوين الحكومة ومناهج التربية والتعليم ، كما جرى “تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مما) أعاق .. فرص الأقليات التي لا تتوافق مع النموذج السائد في مجالات التطوير الذاتي .. و .. تكّون حاجز نفسي/سلطوي .. فى وجه أي مراجعة .. للشأن الداخلي يُظن أنها قد تمس جوهر الانتماء العربى" (يوسف مختار الأمين؛ ARKAMANI). وقد زاد الأمر تعقيدًا عجز هذه النخب عن إنجاز القدر المطلوب من التنمية الشاملة، وتأسيس نظام للحكم يلبي طموحات الأغلبية. وفى ظل أوضاع التخلف، وتدهور الاقتصاد والظروف المعيشية، وارتفاع معدلات النمو السكاني، تتوسع تلقائياً بؤر الصراع الاثني والجهوي والثقافي، مما يتجلى فى تبني مواقف سياسية وثقافية مغايرة للسائد، بحمل السلاح في مواجهة السلطة المركزية، وإشعال الحروب الأهلية والصراعات القبلية التي تتفاقم أبعادها وآثارها يومًا بعد يوم (المصدر).
ولأن الثقافات (الأخرى) غير منسجمة فى السياق، بل وقد تتسبب فى إرباكه، فقد جرى إقصاؤها عملياً أغلب الأحيان، كما فى حالتى الدين واللغة، أو محاولة إدماجها قسراً assimilation فى (أفضل!) الأحوال، على طريقة الاستعمار الفرنسى (!)
(5)
المشكلة، في حقيقتها، "مشكلة وطنية في ظروف التخلف national question under backward conditions“ (جوزيف قرنق؛ 1970). وقد كان من الممكن تناولها بهذا الفهم، منذ أول أمر الاستقلال السياسي، وبناء الدولة الوطنية، لا في مستوى التنظير، فحسب، وإنما التطبيق أيضاً، في ما لو كان قدِّر للعقلانية أن تسود، باكراً، علاقات التساكن السوداني، أو قدِّر للكلمة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة أن تكون مسموعة في موقع اتخاذ القرار، أو كان من الممكن اعتبار “التخلف الاقتصادي"، أو “التنمية الاقتصادية غير المتوازنة"، بمثابة السبب “الوحيد" للمشكلة، بحيث لا يحتاج علاجها، نهائياً، إلى أكثر من تخطيط وتنفيذ مشروعات مختلفة لهذه التنمية. على أننا نكاد نكون نسينا، الآن، الأسباب الهيكلية لاندلاع الحرب، بينما راحت تتفجر في وجوهنا، مع كرِّ مسبحة السنين، منظومة المُدركات والتصورات والفهوم السالبة perceptions لهويتي (الذات) و(الآخر)، كإحدى أخطر (النتائج) المترتبة على الحرب نفسها، لتشكل، بذاتها، (سبباً) مستقلاً لمفاقمتها (محمد سليمان؛ 2000م)، رغم أن هذه المنظومة ما تنفك تتخفى، في الغالب، خلف التعبيرات الدينية، كصورة للوعى الاجتماعي المقلوب الذي لطالما غذته أيديولوجية التسلط والاستعلاء، وعززته العدائيات في الذهنيَّة العامة.
لذلك، وبالمقارنة مع السلاسة النسبيَّة للحلول التنمويَّة الاقتصادية التي كان من الممكن اجتراحها، منذ مطالع الاستقلال، على صعيد البنية التحتية infrastructure، كي تؤتي أفضل أكلها اليوم على صعيد البنية الفوقيَّة superstructure، فإن هذه الحلول قد تستنفد منا الآن أعمار أجيال بأكملها دون أن تكون كافية، بمفردها، لتشكيل مخرج مرموق، في الوقت الراهن، من أزمة (الاستعلاء والتهميش) المستفحلة هذه، رغم أنه لا يبدو، للمفارقة، أن ثمة أساساً صالحاً سواها نبدأ منه باتجاه هذا المخرج.
(6)
وللدقة، فإن من أهمَّ الحقائق التي ينبغي أخذها فى الاعتبار بشأن مشكلة (الاستعلاء والتهميش) هو أنها لم تبدأ بانقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م، وإن كان استيلاء التيار الأكثر غلوَّاً وسط العربوإسلامويين على السلطة في ذلك التاريخ قد ألهب اشتعالها بالحد الأقصى.
إن غالبيَّة الجماعة المستعربة المسلمة في السودان تنتسب، تاريخياً، بثقلها الاقتصادي السياسي والاجتماعي الثقافي، إلى العنصر النوبي المنتشر على امتداد الرقعة الجغرافية من الشمال النيلي إلى مثلث الوسط الذهبى (الخرطوم كوستي سنار)، وهو العنصر الذي ينتمى إليه غالب (الجلابة)، أي الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تمكنت، منذ عهد (السلطنة الزرقاء) قبل زهاء الخمسة قرون، من تركيز الجزء الأكبر من الثروة في أيديها (ساندرا هيل ضمن ب. ودوارد ، 2002م)، والتي تَشكَّلَ في رحمها، تاريخياً، التيار (السلطوي/التفكيكي) المستعلي على الآخرين فى الوطن بعِرق (العرب!) ودين وثقافة (الإسلام)، فضلاً عن اللغة (العربية) بطبيعة الحال. فعلى الرغم من الأصول النوبيَّة للمنتمين لهذه القوى الاجتماعية، إلا أنهم استعربوا، ولم يعودوا يستبطنون الوعى بهذه (الهويَّة) التي استحالت هي نفسها إلى (هامش)، وإنما راحوا يزعمون تشكلهم كنموذج (قومي) محدَّد بالإسلام والعروبة. مع ذلك فالمشكلة لا تكمن في هذه السيرورة الهويويَّة نفسها بقدر ما تكمن في الأسلوب القامع الذي اتبعته هذه القوى الاجتماعيَّة في (الاستعلاء) باستعرابها وتأسلمها على كلِّ من أضحت تتوهَّم أنهم (دونها)، ضربة لازب، من سائر أهل الأعراق والأديان والثقافات واللغات الأخرى. لقد ذوت الهويَّة القديمة، إلى حد بعيد، في وجدانها، ولم يعُد لنوبيَّتها أي معنى حقيقي، لكنها انطلقت تقدم نفسها كنموذج (قومىٍّ) أو ثقافة (قوميَّة)* تستند إلى اللغة العربيَّة والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة والدين الإسلامي، دون أن تستوفى أشراط تشكلها كنموذج كلىٍّ يعبِّر عن (مجموع) الثقافات السودانيَّة، أو يعكس منظومة (التنوُّع) السوداني، فما تزال تعبِّر فقط عن محض “إدراك وفهم نيلىٍّ شمالي لهذه الهويَّة السودانيَّة" (دورنبوس، في بارنت وكريم ضمن المصدر).
لقد شهد انهيار الممالك المسيحية وتأسيس السلطنة الزرقاء، مطلع القرن السادس عشر، تشكل القوى الاجتماعية ل (الجلابة)، وبداية مراكمة الثروة في أيديهم، وذلك في ملابسات النشأة الأولى لنظام التجارة الداخلية البسيط، على نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية، وازدهار التجارة الخارجيَّة تحت إشراف ورعاية سلاطين سنار (ك. بولاني ضمن تيم نبلوك؛ 1990م)، على غرار قوافل التجارة الموسميَّة في مكة مع بدايات الانقسام الطبقي واكتمال انحلال النظام البدائي خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين (بيلاييف؛ 1973م). كما شهد ذلك العصر اندغام مختلف شرائح التجار والموظفين والفقهاء وقضاة الشرع (أهل العلم الظاهرى)، أو الطبقة الوسطى قيد التكوين الجنيني آنذاك، فى هيكل (السلطة الزمنية)، من باب الدعم الذى كانوا يقدمونه للطبقة الأرستقراطية العليا من السلاطين والمكوك وحكام الأقاليم، والفائدة التى كانوا يجنونها من امتيازات تحلقهم حول مركز السلطة بما كانوا يحصلون عليه ويعيدون استثماره من أنصبة صغيرة من الذهب والرقيق وخلافه (أوفاهى وسبولدنق والكرسني والبشرى ضمن ت. نبلوك؛ 1990م).
وبعد دخول الاستعمار وجدت هذه الفئات والشرائح دفعة كبيرة من الإدارة البريطانية (1898م 1956م)، عندما احتاجت هذه الأخيرة إلى اصطناع (مؤسسة سودانية) داعمة لها في المجتمع المحلي، وعلى رأسها فئة كبار التجار مِمَّن مكَّنتهم خدمتهم لرأس المال الأجنبي في السوق المحلى من مراكمة ثروات أعادوا، عقب الاستقلال، استثمارها، بالأساس، في مجال الاستيراد والتصدير، وفي بعض الصناعات التحويلية الخفيفة، قبل أن يتفرَّغوا نهائياً ، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، للمضاربة في العقارات والعملات؛ بالإضافة إلى الأرستقراطية القبلية والطائفية التي جرى تمكينها من التصرف في الأراضي والثروات، والشريحة العليا من بواكير خريجي كليَّة غردون الذين لعبت دخولهم العالية، بالمقارنة مع الشرائح الدنيا من أولئك الخريجين، دوراً مهماً في تشكيل نزعاتهم المحافظة (ت. نبلوك، 1990م).
بلور ذلك كله الخلفيَّة التاريخيَّة لنشأة رأسمالية المستعربين المسلمين الطفيلية الراهنة التي فرضت قيادتها على سائر أقسام الرأسمالية السودانية، كما أفضى إلى نشأة التيار (الاستعلائي/السلطوي/التفكيكي) الذي تمكن من فرض نمط (تديُّنه)، والمستوى الذي يناسبه من الثقافة واللغة على سائر المجتمع.
بالمقابل كان العصر السناري قد شهد نشوء قوى الإنتاج البدوي في قاع المجتمع، المُكوَّنة من الرقيق، ورعاة الإبل والماشية، وحِرَفيي الإنتاج السلعي الصغير في القرى، ومزارعي الأراضي المطرية والري الصناعي الرازحين بين مطرقة السيطرة المطلقة للسلاطين وسندان النفوذ الاقتصادي للتجار، على نظام “الشيل"، حيناً، وعلى نظامَي “السُّخرة" أو “المشاركة" في الإنتاج، بحسب الحال، نتيجة لاستحواز كبار التجار والمتنفذين على الأراضي في مرحلة لاحقة من صراع المصالح. وتنتسب إلى قاع المجتمع هذا، بالأساس، قبائل الجنوب، وجبال النوبا في جنوب كردفان، والفونج في النيل الأزرق، مِمَّن اعتبروا مورداً رئيساً للرقيق والعاج وسلع أخرى “كانت تنتزع بالقوة .. مما جعل لهذه العملية تأثيراتها السالبة على المناطق المذكورة" (المصدر).
(7)
كان لا بُدَّ لتلك التأثيرات من أن تلقى بظلالها السالبة أيضاً على جبهة الثقافة واللغة. فعلى حين لم يُفض انهيار الممالك المسيحيةً إلى (محو) المسيحية نفسها، كديانة وثقافة سائدتين، بضربة واحدة، كما يعتقد بعض الكتاب خطأ (مثلاً: جعفر بخيت؛ 1987م)، دَعْ الديانات الأفريقية وما يرتبط بها من ثقافات، كانت قد بدأت في التشكُّل خصائص الفضاء الروحى لذلك النشاط المادي، وفق المعايير الثقافيَّة لمؤسسة (الجلابي) السائدة اقتصادياً، المتمكِّنة سياسيَّاً، مثلما بدأت فى التكوُّن هوية ما يطلق عليها (الشخصية السودانيَّة)، من زاوية هذه الثقافة نفسها، أي شخصية (الجلابي) المنحدرة من العنصر المحلى النوبي المستعرب بتأثير العنصر العربي الذي ظل ينساب داخل الأرض السودانية منذ ما قبل الإسلام، وبتأثير الثقافة العربية الإسلامية التي ظلت تشق طريقها، منذ 641م، عبر المعاهدات، وعبر عمليات التبادل التجاري، ثم، لاحقاً، بتأثير البعثات الأزهرية، والفقهاء الذين استقدمهم مكوك سنار من مصر، والمتصوفة ومشايخ الطرق الذين قدموا من المشرق والمغرب.
مع مرور الزمن أخذت تلك الخصائص تتمحور حول النموذج (القومي) المتوهَّم وفق المقايسات الهويويَّة لذهنيَّة ووجدان (الجلابي)، في مجابهة الأغيار المساكنين أو المجاورين، وجُلهم من الزنج الذين يجلب إليهم ومنهم بضاعته مُلقياً بنفسه في لجج مخاطر لم يكن لديه ما يتقيها به سوى التعويل، حدَّ التقديس، لا على الفقهاء وقضاة الشرع (أهل العلم الظاهري)، فهؤلاء وجدهم يجوسون معه في عرصات الأسواق، وأبهاء البلاط، فباخت هيبتهم في نفسه، وإنما للسلطة (الروحية) لدى الأولياء والصالحين وشيوخ المتصوِّفة (أهل العلم الباطني)، المنحدرين، بالأساس، من ذات جماعته الإثنيَّة المستعربة المسلمة، والزاهدين في ذهب السلاطين ونفوذهم، والقادرين وحدهم على أن (يلحقوا وينجدوا) بما يجترحون من كرامات وخوارق ومعجزات ترتبط عنده ، في الغالب، بصيغ (لغويَّة) تتمثل فى ما (يقرأون) و(يكتبون) و(يمحون)، فيمسُّه (بقولهم) ما يمسُّه من خير أو شر (!) الأمر الذي زاد من تشبثه ب (العلم الباطني) لتينك اللغة والثقافة، وضاعف من رهبته بإزاء الأسرار الميتافيزيقيَّة الكامنة فيهما (راجع “الطبقات" لود ضيف الله)، كما فاقم من استهانته (برطانات) الزنج و(غرارتهم)، وأسس لاستعلائه عليهم.
لقد مهَّد ذلك كله، بمرور الزمن، لحجاب كثيف بين هذين العنصرين في الوعي الاجتماعي العام، حيث استعصم العنصر الزنجي مع لغته وثقافته بالغابة والجبل، وحدث الشئ نفسه تقريباً في سلطنة الفور ومملكة تقلي (محمد المكي؛ 1976م). ولئن كان ذلك كله محدوداً بظروف تلك الممالك المتفرقة، فقد جرى تعميم النموذج مع الحكم التركي المصري عام 1821م، وتأسيس الدولة الموحَّدة الحديثة التي “تمتلك أدوات تنفيذ عالية الكفاءة، فبرز النهج الاستتباعي للثقافة العربيَّة الإسلاميَّة بشكله السافر" (أبكر آدم اسماعيل؛ 1999م).
(8)
يضئ الكثير من المؤرخين والباحثين، كماكمايكل وترمنغهام وهاميلتون ويوسف فضل وسيد حريز وغيرهم، تلك الوضعيَّة المقلوبة التي تنزع (للتأكيد) المتوهَّم على (نقاء) العِرْق العربي وكذا اللغة والثقافة، والتي استقبل بها (الجلابة) في وقت لاحق صورة الوطن ومعنى الوطنيَّة والمواطنة، بالمفارقة لحقائق الهجنة التى ترتبت على خمسة قرون ميلادية بين التاسع والرابع عشر من اختلاط الدماء العربية الوافدة بالدماء المحلية، النوبية منها بالأخص، دون إغفال وقوع ذلك أيضاً بالنسبة للدماء البجاوية والزنجية، وإن بشكل متفاوت؛ “.. فالعرب الأقحاح لم يكن عددهم كبيراً .. في أي وقت من الأوقات ، وقد اختلطوا حيث أقاموا وتزاوجوا مع السكان المحليين، سواء كانوا من النوبيين أو من البجة أو من الزنوج" (Hamilton, 1935). رغم تلك الحقيقة التاريخية، بل رغم أن “الهجين الماثل للعيان"، بمجرَّده، “لا يجعل منهم عربًا خلصاً" (يوسف فضل، 1988م)، إلا أن سياحة عجلى في (طبقات ود ضيف الله) أو (كاتب الشونة) أو أي من سلاسل الأنساب وأشجارها، وجُلها مختلق، أو موضوع لاحقاً، كوثائق تمليك الأرض لدى الفونج، مثلاً، أو ما إلى ذلك من المصادر التاريخية للممالك والمشيخات الإسلامية فى البلاد، قد تكفى للكشف عن مدى ما أهدر (الجلابة) من جهد ووقت وعاطفة فى (تنقية) أصولهم من العنصر المحلى، وإرجاعها، ليس فقط لأعرق الأنساب القرشية فى الجزيرة العربية، بل وإلى بيت النبوَّة نفسه! وقد حاول بعض الكتاب تفسير هذه الظاهرة من منطلقات معرفيَّة مختلفة؛ حيث أحالها البعض، على سبيل المثال، إلى مجرَّد “الخطأ عن جهل"، أو محاولة الاتكاء على سند حضاري بعد هزيمة المهدية (يوسف فضل؛ 1975م). سوى أن من الصعب الموافقة على تفسير الذهنيَّة الجمعيَّة، وبخاصة حين تشكل نزعة ممتدة فى التاريخ، أو تنتسب إلى طبقات وشرائح اجتماعية بمثل هذا الحجم والأثر فى مجرى التطوُّر العام لأمة بأكملها، بمجرد (الخطأ) أو (الجهل)! كما وأن تاريخ النزعة نفسه يعود، كما قد رأينا، إلى ما قبل هزيمة كرري بمراحل تاريخية طويلة. ويسمى بعض الكتاب هذه النزعة ب “أيديولوجيا الأصالة"، ويجترح مدخلاً طريفاً لمقاربتها من بوابة علم النفس الإكلينيكي، بإحالتها إلى مجرد (عقدة نقص) تجاه الوضعية التراتبيَّة لأصول المصادر في الثقافة العربية الإسلامية. فعرب السودان، من هذه الزاوية، ظلوا يواجهون نظرة التشكيك فى عروبتهم التي تعتبر من الدرجة الثالثة، حيث “العرب الأصلاء في الجزيرة العربية والشام، والعرب من الدرجة الثانية في مصر والمغرب العربي، والبقية في السودان وموريتانيا والصومال" (أبكر آدم اسماعيل؛ 1999م). ويذهب الكاتب إلى أن الظاهرة مرتبطة “بظروف تاريخية معينة، حيث أن الأغلبية الساحقة للناقلين للثقافة العربية الإسلامية عبر تلك القرون الطويلة هم من الأعراب الذين يمثلون القبائل الهامشية فى الجزيرة العربية والمناطق العربية الأخرى. وهم ليسوا ذوى جاه ولا علم بالإسلام وما نتج عنه من فكر، فكان من الطبيعي أن ينقلوا معهم واقعهم مؤطراً، وبالتالي اختلاط الحقيقة بالادعاء على مستوى الفكر والأنساب" (المصدر). مهما يكن من أمر، فإننا نتفق حول حقيقة أن الهجنة واختلاط الدماء العربية والنوبية (نركز على العنصر الذي انحدر منه غالب الجلابة) تبدو “ماثلة للعيان" بقوة لا تحتمل المغالطة (يوسف فضل؛ 1988م). وإلى ذلك يجدر التعاطي معها كحقيقة معرفية لا ينتقص من قيمتها أن دعواها، في أصولها العرقية عند ماكمايكل وتجلياتها الثقافية عند ترمنغهام، متهومة لدى بعض المفكرين بأنها “تنطوي على فرضية انحطاط" (عبد الله على ابراهيم؛ 1996م).
لقد انطلق (الجلابي) يسقط وعيه بعِرقه المحض، الخالص، والمُنتحل هذا على حاضر صورة الوطن، آنذاك، ومستقبلها، لا كما هي عليه في الواقع، بل كما صاغها هو في (وهمه) الفخيم، مستنداً إلى مراكمته الأوليَّة للثروة، مما سلف ذكره، وفاتحاً الطريق لنشوء وتسيُّد تيار الاستعلاء السلطوي التفكيكي في السياسة والاجتماع والثقافة. ونجد صعوبة في الاتفاق مع أبكر آدم اسماعيل الذي يرى أن هذا (الاستعلاء)، ويطلق عليه (الاستتباع) و(التشدُّد)، إنما يرجع إلى الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة نفسها، على أنه بقي ناعماً benign، طوال ذلك الوقت، بسبب افتقاره، وقتها، لسلطة الدولة التي لم تتوفر له إلا مع نشوء الممالك الإسلاميَّة (أبكر آدم اسماعيل؛ 1999م). يعرض أبكر، هنا، ل (الاستعلاء/الاستتباع/التشدُّد) كفكرة كامنة، وناجزة بنفسها في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة ضربة لازب، وكل ما تحتاجه للظهور فى أي مكان هو (سلطة الدولة)، فلا جذر لها في واقع النشاط المادي للمجتمع المعين. ولكم وددت لو أنه سعى لتأسيس فرضيته هذه على معطى تاريخي وثيق، حيث الثابت معرفياً حتى الآن أن حركة الاستعراب والتأسلم حفرت مجراها العميق بصورة طبيعيَّة في بعض أجزاء البلاد، خصوصاً على الشريط النيلي من الشمال إلى الوسط، وبالذات خلال القرون التي تلت صلح البقط عام 652م، بالتزاوج مع هجنة الأعراق، وسلاسة التديُّن السلمي، وانسياب اللغة والثقافة من خلال التثاقف والتمازج بين الإسلام وبين عناصر روحيَّة وماديَّة في الموروث المحلى.
إن أي تقدير سليم لحركة الاستعراب والتأسلم التاريخية في بلادنا لا بد أن يقوم على النظر إليها، ابتداءً، كمصدر إثراءً مفترض، ليس فقط للخارطة الإثنية السودانية، بل وللثقافة العربية الإسلامية فى المنطقة بأسرها. فلا الهجنة مطعن في جدارة الانتماء لهذه الثقافة، ولا الانتماء لهذه الثقافة يلغى شيئاً من خصائص هذه الهجنة، دَع أن يحول دون الحوار السلمي مع غيرها من مكونات ما يؤمل أن يشكل ما يمكن أن يطلق عليه مستقبلاً (الثقافة السودانية) و(الأمة السودانية)! وإذن، فالمشكلة ليست فى الاستيعاب المعرفي لوقائع الهجنة أو حقائق الثقافة، بل، على العكس من ذلك، في جحدها أو تزييفها أيديولوجياً، ثم تسويقها، بهذه الصورة، فى الوعي الاجتماعي العام! لقد أفرزت الهجرات العربية إلى سودان وادي النيل “.. تحولاً جذرياً اتسم بقدر من الديمومة في التوازن الإيكولوجي بين الصحراء والأرض المزروعة، وأدت .. إلى إحداث تبدل رئيس في بنية الثقافات السودانية المحلية (و) شكل التمثل الثقافي والعرقي الذي نتج عن تلك الهجرات عملية ذات جانبين: من جانب .. السودانيين المحليين، ومن جانب .. العرب الوافدين (حيث) كانت الغالبية العظمى من الوافدين العرب بدواً، (و) كان تأثيرهم .. على السكان المحليين أحادياً .. بينما أظهر السكان المحليون .. تشكيلة متنوعة من الثقافات واللغات، ومن ثمَّ كان تأثيرهم على العرب الوافدين بالقدر نفسه من التنوع .. لقد أدت عملية التمثل إلى ظهور مركب فسيفسائي من الأقوام والثقافات يتمثل القاسم المشترك الأعظم لغالبيتها فى الدين الإسلامي، وأصبحت اللغة العربية مع مرور الوقت وترابط المصالح الاقتصادية هي اللغة الجامعة بين تلك الأقوام والثقافات" (أسامة عبد الرحمن النور؛ 14 أبريل 2004م).
وإذن، فمن أهم عوامل تحقق هذه (الفسيفساء)، من زاوية الحقيقة المعرفيَّة، وقوع الهجنة في بعض أجزاء البلاد دون أجزاء أخرى. أما من زاوية الحقيقة الأيديولوجيَّة، فعلى الرغم من أن تيار الاستعلاء (السلطوي/التفكيكي) قد ظل يعتبر هذه (الفسيفساء) نقمة، إلا أن الأقسام الوطنية الديموقراطية من التيار (العقلاني/التوحيدي)، وبالأخص بين المبدعين والمفكرين، قد اعتبرتها دائماً نعمة! ولعل هذا بالتحديد هو ما وعته، وإن بدرجات متفاوتة من السداد والثبات، وما سعت لتلمُّسه وتمثله والتعبير عنه، وإن بمستويات مختلفة من الاتساق ووضوح الرؤية، أجيال من المفكرين والأدباء والشعراء والفنانين المستعربين المسلمين، منذ دعوة حمزة الملك طمبل: “يا شعراء السودان أصدقوا وكفى!" مروراً بتيارات عديدة أشهرها (الغابة والصحراء)، و(مدرسة الخرطوم) في التشكيل، وجماعة (أبادماك)، فضلاً عن الجهود الفكرية التي انطلقت مع أواخر سبعينات ومطالع ثمانينات القرن المنصرم، تحت عنوان “السودانوية"، نحو مقاربة للإشكالية من زوايا سوسيوبوليتيكانية وسوسيوثقافية أكثر شمولاً واتساعاً.
(9)
خلال وقائع القرون الثلاثة التي أعقبت القرن السادس عشر، وعلى حين راحت تتبدَّد في ذلك المفصل التاريخي، مع غروب شمس سنار، واحدة من بواكير الفرص النادرة كي توحِّد البلاد أقاليمها، وتصوغ ذاتها، وتنتمي لنفسها، كان (الجلابي) مشغولاً في ملابسات صراع الثروة والسلطة:
أ/ بأسلاب المملكة التي كان قد نشط فى تفكيكها بالتواطؤ مع التجار الأجانب، يحصِى ما آل وما يمكن أن يؤول إليه من تركة (الككر) الضخمة: تجارة داخليَّة وخارجيَّة طليقة من تحكم السلاطين، وأراض شاسعة خرجت من قبضة الدولة المرتخية فحازها بثروته ونفوذه.
ب/ وبتأسيس منظوره الخاص للبلاد التي لم تعُد، من أقصاها إلى أقصاها، غير كنف موطأ لامتيازه وحده بالأرض والزراعة والماشية والتجارة والعبيد، وامتيازه، تبعاً لذلك، بالعنصر واللغة ونمط التديُّن والثقافة، أما كلُّ ما (دون) ذلك فصقعٌ خلاء، أو محض مشروع (للأسلمة) و(التعريب) يتقرَّب به إلى الله زلفى طمعاً فى الأجر!
ج/ وبتعميق رؤيته الفادحة للذات وللآخر، حيث أصله وحده الكريم ولسانه وحده الكريم، أما كلُّ من عداه فعبيد غلفٌ، وألسنتهم كذلك! دمه وحده الحرام، وعِرضه وحده الحرام، وماله وحده الحرام، أما (الآخر) فكافرٌ لا حرمة لدمه، ولا لعِرضه، ولا لماله! لون (الآخر) إما أسود أو أزرق، أما لونه هو فما أنزل الله بصفاته من سلطان: ذهبي تارة، وقمحي تارة، وعسلي تارة، وتارة (خاطف لونين)، حتى إذا دَكِنَ، وصار إلى سَجَم الدواك أقرب، فتلك (خدرة دُقاقة) أو (سُمرة) تتدوزن بفتنتها الأعواد في المدن والطنابير عند السواقي! فصودُ (الآخر) على الجبين وشمُ رجرجةٍ مُعتم، أما شلوخه هو فتضئ على خديه مطارق، وتي، وإتش، و"حلو درب الطير فى سكينة"، أو كما ظلَّ يصدح ليلَ نهار، عبر مذياع الحكومة وتلفازها، حتى يوم الناس هذا، مغنيه الذي لا يموت ولا يفوت! يتمعَّن في الكفين، يتشمَّم رائحة الإبطين، يحدِّق مليَّاً في الأنف وفى (الشلاليف)، يتقصَّى حتى لون باطن (الأضان) تحاشياً لِمَن فيه (عِرق)، وذاك مبلغ ما عَلِمَ من قوله (ص): “تخيَّروا لنطفكم فإن العِرق دسَّاس"، كضرب من إخضاع النص الديني لأيديولوجيا الاستعلاء! فرغم “اعتبار الدين الإسلامي لمثل هذه الاتجاهات جاهلية ممقوتة"، إلا أنه يفسر الحديث تفسيراً إثنيَّا، مع أنه “واضح في حث المؤمنين على تخير الزوجة من منبت صالح بمفهوم أخلاقي وديني وليس إثنيَّاً بحال" (الصادق المهدى؛ 23 مارس 2004م). يفعل (الجلابي) ذلك كله دون أن يشغل نفسه، ولو للحظة، بالسؤال عمَّن تراه يكون (خاله)، أو عن أصل جدته الأولى يوم تزوج بها، قبل مئات السنوات، عربي مسلم وفد إلى هذه الأنحاء عبر البحر أو النهر أو الصحراء! ولا عجب، فتلك سيرة يمقتها، ولذا يدعها ترسب في قاع لاوعيه، علها تذوى في صمت!
د/ وبتكريس هذا كله استعلاءً جهيراً في حمولة الوعى الاجتماعي العام من (حِكَم) شعبيَّة وصياغات لغويَّة “تشكل حاجزاً نفسياً بين أهل السودان .. أمثال: جنس عبد منو الخير جبد عبداً تكفتو بلا غبينة سجم الحلة الدليلها عجمي وفصيحها رطان الهملة السوت العبد فكي .. الخ" (الصادق المهدى؛ 6 7 مارس 2004م).
وثمة ملاحظة جديرة بأن ننوه بها هنا، وهي أن هذه النزعة (الاستعلائية/السلطوية/التفكيكية) ليست، في أصلها، شعبية الطابع، وإنما أصبحت كذلك، تاريخياً، بفعل ثقل تصورات القوى الطبقية التي سادت في بلادنا، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وبدفع من (نخبها) التي سيطرت على مفاصل السلطة في كل مستويات الحكم والتعليم والإعلام وما إلى ذلك من وسائط توجيه الرأي العام. وبالتالي فإن هذه النزعة لا تعكس ثقافة (شعبية) أصيلة، بقدر ما تعبِّر عن تأثير فكرى وثقافي (نخبوي) يظهر قدراً مما يعرف في الأنثروبولوجيا بمصطلح (المركزوية الإثنية) التي تعكس نزعة الاحتقار وسوء التقدير داخل ثقافةٍ ما تجاه الثقافات الأخرى (أسامة النور؛ ARKAMANI). هذه النزعة، وإن كانت معروفة في كلِّ الثقافات، إلا أنها، بفعل التوجهات الأصولية المتطرفة للتيار المتغلب، والأكثر غلوَّاً، وسط النخبة الإسلاموية الحاكمة، أصبحت تتهدَّد، أكثر من أي وقت مضى، وحدة البلاد وسلامة أراضيها بخطر حقيقي داهم، مما يستوجب أن ينطلق (عقلانيو/توحيديو) الجماعة المستعربة المسلمة من موقف أكثر جرأة في ما يتصل بنزع جميع الأقنعة، وتعرية كل المسكوت عنه في تاريخنا الاجتماعي والإثني “فما يفرِّق السودانيين هو ما لا يُقال" (فرانسيس دينق؛ ضمن المصدر)، الأمر الذي يلقى على عاتق الحركة الفكريَّة والثقافيَّة بمهمة العمل لإزالة “التناقض الداخلي" الذي “هو مبعث حيرة أهل الجنوب والشمال، أغلبهم، حول ماهيتهم" (منصور خالد؛ ضمن المصدر)، كما يلزمنا، بإزاء هذه التحديات، “أن نعترف، نحن العرب المسلمين، أن ثقافتنا مارست استعلاءً ثقافياً على الآخرين (رغم أن) الاستعلاء الثقافي في أوحش صوره بضاعة غربيَّة، وقد مارسته كلُّ الثقافات المركزيَّة في عالم الأمس، ولكن الإنسانيَّة أدركت مضاره وبدأ مشوار الاستقامة والعدالة" (الصادق المهدى؛ 6 7 مارس 2004م). وينبغي، على هذا الصعيد، تجاوز محض الاعتراف إلى “النفاذ القوى برقائق الروح وسهر الثقافة إلى خبايا الاستضعاف المؤسسي، الاجتماعي التاريخي، لأقوام الهامش السوداني .. (كيلا نصبح) عبئاً على حركة المستضعفين لا إضافة لها، فبغير (ذلك) .. لا ينفذ الشمالي المدجج بامتيازاته التاريخية إلى مشاهدة قبح نفسه في مرايا تلك الامتيازات الظالمة" (عبد الله علي ابراهيم؛ 17 مايو 2004م).
(10)
غير أن أكثر ما يقلق، رغم الوعي بضرورة كل تلك النداءات، هو الهشاشة الغالبة لدى التيار (العقلاني/التوحيدي) وسط الجماعة المستعربة المسلمة، وتقاصر طاقات (النخب) المختلفة التي تمثله عن النهوض بمهامها الفكرية الثقافية والسياسية التي لا غنى عنها في منازلة تيارها (السلطوي/الاستعلائي/التفكيكي)، بمستوى من الاقتدار يزيح عن كاهل (العقلانيين/التوحيديين) أثقال المسئولية التاريخية التي يتحملونها حتى الآن:
أ/ على صعيد مظالم (الهامش) التي ولدت كل هذا البغض للجماعة المستعربة المسلمة ورموزياتها الثقافية واللغوية، مما تدل عليه العديد من الشواهد، لدرجة أن تياراً (استعلائياً/تفكيكياً) مضاداً أصبح لا يعدم التعبير عنه، منذ وقت طويل، وسط حركة (الهامش) الاحتجاجية، الأمر الذي لم يشحن، فقط، نفوس الجنوبيين للتصويت في استفتاء يناير 2011م لصالح الانفصال، بل وأضحى يهدد مشروع (الوحدة الوطنيَّة) كلها بالفناء والعدم.
ب/ وعلى صعيد جريرة الجماعة المستعربة المسلمة نفسها، كون تيارها (السلطوي/الاستعلائي/التفكيكي) ينفرد، تحت سمعها وبصرها، بادعاء التعبير عما يعتقد هو أنه (رسالتها) التاريخية (المقدسة) في (تعريب وأسلمة) الآخرين، بكل ما يحمله مضمون هذه العمليَّة من معاني القسر والقهر والجبر التي ينبغي أن تدمي ضمائر كل مفكري ومثقفي التيار (العقلاني/التوحيدي)، بمختلف أجيالهم، وتجعلهم يطأطئون رؤوسهم خجلاً مما كانوا يحسبونه جهداً مرموقاً بذلوه، ووقتاً ثميناً صرفوه، في إنتاج ونشر الوعى الديموقراطي بقضايا الهويَّة، والوحدة فى التنوُّع، وحقوق الأقليات فى التميُّز الثقافي، فإذا بالناتج قبض الريح، بل خراباً مأساويَّاً كاملاً!
***
الإشارات:
* غالباً ما يشيع فى التقليد (الجلابى) استخدام هذه الكلمة وقرينتها (وطنى أو وطنيَّة) بصورة ملتبسة ، وبمدلولات مبهمة ، بخاصة فى حقل السياسة ، وبخاصة أكثر حين يكون المُراد ابتزاز ذهنية ووجدان العامَّة لتسويق أوضاع غير سويَّة (وفاق وطنى ، زى قومى ، شخصيات قوميَّة .. الخ).
** يستخدم البعض مصطلح (المركزية) الإثنية، ويستخدم آخرون مصطلح (المركزية) الثقافية، ونفضل استخدام مصطلح (المركزوية) الإثنيَّة أو الثقافية.
المصادر:
ñ أبكر آدم اسماعيل؛ “حول مسألة التعريب في السودان"، ورقة ضمن مداولات “مؤتمر واقع ومستقبل التعليم العالي في السودان" أوراق مخ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.