مشروع موازنة العام المالي 2013م.. قراءة أولية د. التيجاني الطيب إبراهيم: بعد القراءة الأولية لخطاب ومشروع موازنة العام المالي 2013م، يبدو واضحاً أن موازنة العام القادم أشبه بزفة من غير طبال، لعدم تطابق أهدافها وأولوياتها وتقديراتها مع حقيقة الوضع الاقتصادي المتردي الذي عكسه الأداء التقديري لموازنة العام الجاري. لهذا، فالتقديرات الإيرادية والإنفاذية المقدمة تشير إلى أن موازنة 2013م فشلت في تحديد أهم أهدافها، وهو كيفية الوصول إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، إضافة إلى أنها تثير جملة من التساؤلات حول مدى إدراكها لمعطيات الاقتصاد السوداني على أرض الواقع. لهذا فالمبالغة في تقديرات الإنفاق، خاصة الجاري، والتفاؤل المفرط وغير المبرر في تقدير الإيرادات، يجعل إنزالها إلى أرض الواقع أمراً مستحيلاً دون اللجوء إلى «الترقيع» وإتخاذ إجراءات ضريبية وغير ضريبية، بالإضافة إلى تحريك سعر الصرف كما حدث في موازنة عام 2012م. وهذا ما يلمح له خطاب ومشروع الموازنة تحت مسميات مراجعة الرسوم والرسوم الخاصة وفئات رسوم الخدمات.. إلى آخر قائمة المراجعات المقترحة. ففي جانب غلاء الأسعار «التضخم»، قضية الساعة، تبنت الموازنة سياسة خفض معدل التضخم من 30 إلى 22%، علماً بأن الرقم الأخير خبط عشواء إلا أنه لا يعكس مؤشراً للاستقرار الاقتصادي، بالإضافة إلى أن الأرقام تعني فقدان المداخيل لأكثر من نصف طاقتها الشرائية في عامين فقط في حالة عدم أية زيادة في المرتبات والأجور. وعلى صعيد إجمالي الإيرادات والإنفاق «الجاري» بنيت الموازنة علي فرضيات ليس لها انعكاس في تقديرات الموازنة، والتي هي على عكس كل الوقائع المالية والاقتصادية زيادة في الإيرادات الكلية بنسبة 30% من اعتمادات موازنة 2012م «19 مليار جنيه» لتصل إلى 25 مليار جنيه، والإنفاق الجاري بمعدل 18% ليبلغ 31 من 26 مليار جنيه، مما يعني عجزاً تشغيلياً مقداره حوالى 6 مليارات جنيه. وهذا يدل على أن موازنة 2013م توسعية بكل المقاييس، مما يؤكد التجاهل التام للبرنامج الثلاثي الذي يوصي بخفض الإنفاق الحكومي بنسة 25% في عام 2012م و20% في عام 2013م، بالإضافة إلى عدم مصداقية الإدعاء بأن الموازنة ستمول من «موارد ذاتية». الزيادة في إجمالي الإيرادات من المتوقع أن تأتي من مصدرين أساسيين، الإيرادات الضريبية المقدر لها أن تقفز بمعدل 21% من حوالى 12.6مليار جنيه «اعتمادات عام 2012م» إلى 15.2 مليار جنيه، والإيرادات غير الضريبية التي قدرت بحوالى 8.2 مليار جنيه لعام 2013م صعوداً من 4.8 مليار جنيه المعتمدة لعام 2012م، فإن 89% من الزيادة في الإيرادات الضريبية من المتوقع أن تأتي من زيادة إيرادات الضرائب على السلع والخدمات والتجارة والمعاملات الدولية المقدرة بحوالى 1.3 مليار جنيه «17%» و1 مليار جنيه «31%» حسب الترتيب. ومن الصعب تخيل من أين ستأتي هذه الزيادات دون ضرائب جديدة، علماً بأن الموازنة تتوقع أن يبقى حجم الواردات على نفس مستواه في عام 2012م «7 مليارات دولار»، ما يعني أن زيادة الضرائب على السلع والخدمات والتجارة والمعاملات الدولية لن تتحقق دونه الزيادة الهائلة المتوقعة في الإيرادات الضريبية. إما الزيادة في الإيرادات غير الضريبية، فمن المتوقع أن تأتي لها من ارتفاع مبيعات النفط من 2.5 مليار جنيه في عام 2012م إلي 6 مليارات جنيه في عام 2013م بزيادة 38%، مما يعني أن جولة أخرى من زيادة أسعار المحروقات في الانتظار، وربما اكتشف صناع القرار أن دعم المحروقات قد زاد رغم زيادات يوليو الماضي، لأن المحروقات صارت أرخص بعد تلك الزيادة على عكس هدف السياسة المعلنة المتمثل في خفض الدعم ومحاربة التهريب. فلو أخذنا سلعة البنزين كمثال، وقسمنا السعر القديم لجالون البنزين «8.5 جنيه» على سعر الصرف القديم للدولار «2.7 جنيه» وقارنا ذلك بناتج قسمة السعر الجديد لجالون البنزين «12.5جنيه» على سعر الصرف الجديد للدولار الجمركي «4.4 جنيه»، نجد أن جالون البنزين صار أرخص بربع دولار « 1 جنيه» بعد زيادة أسعار المحروقات. وهذا في حد ذاته خطأ فادح لا بد من معالجته. وفي جانب الإنفاق العام لم تفترض الموازنة أية إجراءات ذات معنى لضبطه، خاصة الصرف التشغيلي أو الجاري، الذي تتوقع الموازنة أن يرتفع من 26.2 مليار جنيه في 2012م إلى 30.8 مليار جنيه في عام 2013م، لتقفز حصته إلى 88% من إجمالي الإنفاق الكلي «جاري + تنمية قومية»، المقدر بحوالى 35 مليار جنيه. وما يثير الانتباه أن تعويضات العاملين «الأجور والمرتبات والمساهمات الاجتماعية – 12.7 مليار»، ودعم السلع والخدمات «4.8 مليار» والتحويلات الولائية «7.7 مليار» تستحوذ على 82% من المصروفات الجارية، مع العلم بأن الموازنة لا تفترض أية زيادة في الأجور بحجة عدم توفر الموارد، رغم توقعها معدل تضخم في حدود 22% وخلق 30 ألف وظيفة جديدة للخريجين، مع أن المطلوب كوادر مؤهلة لتلك الوظائف. ومن الملاحظ أيضاً أن دعم السلع الاستراتيجية من المقدر أن يرتفع بنسبة 81% «من 2.6 مليار جنيه في عام 2012م إلى 4.8 مليار جنيه في عام 2013م»، وهي أعلى نسبة زياة وبفارق كبير جداً مع بقية تقديرات بنود الصرف الأخرى، مما يطرح سؤالاً مهماً عن الكيفية التي تطبق بها سياسة الحكومة المتعلقة بخفض الدعم. وبخصوص الفجوة بين إجمالي الإيرادات والإنفاق التشغيلي، أي العجز الجاري في الموازنة، فستكون في حدود 5.6 مليار جنيه، مما يعني أن الحكومة ستحتاج إلى تمويل 18% من إنفاقها الجاري عن طريق الاقتراض. ونتيجة لهذا الترهل في الإنفاق واستنزاف إيرادات الدولة ستلجأ الحكومة مرة أخرى للاقتراض لتمويل مصروفات التنمية القومية لعام 2013م المقدرة بحوالى 4.2 مليار جنيه. واحتفالية خطاب ومشروع الموازنة بهذا الرقم غير صادقة، لأن موازنة 2012م المعدلة خفضت تقديرات التنمية بنسبة 52% «من 5.3 مليار جنيه في الموازنة المجازة إلى 2.5 مليار جنيه في المعدلة»، مما يعني أن الرقم أقل بكثير من تقديرات 2012م المجازة. أما عجز الموازنة الكلي لعام 2013م «العجز الجاري زائد مصروفات التنمية»، فمن المقدر أن يصل إلى حوالى 10 مليارات جنيه، منها 9 مليارات جنيه تتوقع الموازنة الحصول عليها من الاستدانة محلياً، بمعنى آخر، فالحكومة تستنزف إيرادات الدولة وربما معها أيضاً موارد الجهاز المصرفي والجمهور. لكن ما يثير العجب والدهشة أن مشروع الموازنة «صفحة 42» يتوقع توقيع اتفاقيات بمبلغ 4 مليارات دولار «وأكرر دولار!»، والسؤال لماذا كل هذا الاعتماد على التمويل الداخلي إذا والخير الوفير قادم؟ لكن الأهم من ذلك من أين ستأتي قروض بهذا الحجم والحكومة لا تخدم ديونها الخارجية منذ عام 1983م إلا في ما قل وندر، ولا تعير كثير الانتباه لتراكم دينها الداخلي، وحتى ديون البنك المركزي التي يحرم قانون البنك تراكمها؟ لكن رغم ذلك نسأل الله أن يصدق المنجمون ولو كذبوا. أحد الملامح البارزة للموازنة الذي يستحق تسليط بصيص من الضوء عليه، هو توزيع تقديرات التنمية القومية على القطاعات المختلفة، خاصة القطاعات الحيوية والخدمية المهمة: الزراعة، الصناعة، الطاقة والنفط والمعادن، الطرق والجسور والنقل والصحة والتعليم. لكن ما يدعو للدهشة والاستغراب أنه بعد كل تأكيدات الدولة في وثائق الموازنة وغيرها وبعد كل الزخم الإعلامي في الأشهر الماضية عن إعادة اكتشاف الزراعة كركيزة أساسية للاقتصاد السوداني، نجد أن حصص قطاعي الطاقة والنفط والمعادن، والطرق والجسور والنقل تبلغ 62% «33% و29% حسب الترتيب» من إجمالي التقديرات، بينما تستحوذ بقية القطاعات على: 12% للزراعة، 5% للصناعة، 7% للتعليم، و3% للصحة، بينما نال القطاع السيادي 4%! والسؤال ما هي علاقة القطاع السيادي والتنمية وبهذا الحجم؟ وفي الختام، بما أن مجلس الوزراء وضع بصمته فقط على موازنة 2013م، فهناك فرصة أمام المجلس الوطني للمطالبة بإعادة تقييمها لتلافي مجمل الحقائق والمعطيات السالبة، وإعداد موازنة جديدة تزيل السلوك الرسمي في الإنفاق، وتشعر المواطن بأن هناك بصيص أمل للخروج من حلقة المعاناة المفرغة، مما يعيد الثقة بشأن مستقبل الأوضاع المالية والاقتصادية.. فهل يفعلها المجلس ولو مرة في التاريخ؟!