مر أكثر من عام على إغلاق الحكومة السودانية لعدد من المراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال التوعية والتنوير، من بينها مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية، ومركز الدراسات السودانية، وبيت الفنون. وتذرعت السلطات السودانية بذرائع عدة لاغلاق هذه المراكز والحجز علي ممتلكاتها واصولها وحساباتها المالية. ومنها ان هذه المراكز تقوم بانشطة غير تلك المرخص لها القيام بها. كما اتهمتها بعدم الشفافية المالية والقيام بأنشطتها بعيدا عن مفوضية العون الإنساني وهي الجهة الحكومية المسئولة عن تنظيم عمل هذه المنظمات. أما المنظمات والمراكز المغلقة فلا تعترف بهذه الذرائع، وتعزي إغلاقها لأسباب سياسية تتلخص في ان الرسالة التنويرية والتوعوية التي تبثها تتعارض مع التوجهات السياسية والآيدولوجية للنظام الحاكم، وفي هذا السياق يقول الدكتور الباقر العفيف مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية في إفادة لصحيفة التغيير الإلكترونية ان المركز في عامي 2011 و2012 عانى كغيره من المنظمات ضغوطا من السلطات ابتداء من الاستدعاءات المتكررة للعاملين في المركز من قبل جهاز الأمن، مرورا بالزيارات المفاجئة لوفود من مفوضية العون الإنساني(هاك) وفي صحبتهم عناصر من جهاز الأمن بغرض الحصول على معلومات تخص مشاريع المركز والجهات التي تمولها ، وصولا الى إيقاف أنشطة المركز، وأشار العفيف الى ان الأنشطة التي يتم إيقافها في الغالب هي الندوات وورش العمل التي تتناول قضايا الدستور والاوضاع السياسية والحرب والسلام والعنصرية، اي الانشطة ذات الصلة بالسياسة. ويضيف: في الآونة الاخيرة حتى مناشط المسرح والسينما والحفلات لم تسلم من الإيقاف. فزّاعة التمويل الأجنبي: سبق إغلاق المراكز المذكورة حملة تشهير إعلامي بمنظمات المجتمع المدني محورها ان هذه المنظمات عميلة وتتلقى أموالا من المخابرات الأمريكية لتحقيق اجندة سياسية، ابتدرت هذه الحملة صحف الانتباهة والمجهر السياسي، وبعد صدور قرار الإغلاق برر النائب السابق لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه هذا القرار بان هذه المنظمات واجهات لتمرير اجندة سياسية تهدف لاسقاط الأنظمة الحاكمة في بعض الدول العربية والافريقية، وقال في حوار تلفزيوني في يناير 2012 " هناك الان كتاب عن الولاياتالمتحدة يسمي (Rogue State) يتحدث عن ارتباط المخابرات الامريكية بتمويل انشطة منظمات المجتمع المدني في العديد من البلدان الافريقية والعربية بل ذكرت بالتحديد اسم بعض المنظمات السودانية ولا اقول الوطنية التي تتلقى اموالا " وقد قوبل هذا الحوار باستهجان كبير من قبل النشطاء لا سيما ان السيد علي عثمان محمد طه ادعى ان الكتاب الصادر في الولاياتالمتحدةالأمريكية ذكر منظمات سودانية بالاسم وهي معلومة غير صحيحة مطلقا، وفي أغسطس 2012 نشر الدكتور حيدر ابراهيم علي مقالا مفصلا بعنوان(المجتمع المدني والتمويل الاجنبي) تناقلته ابرز المواقع السودانية على شبكة الانترنت، ذهب فيه الى أن وجود مؤسسات في الغرب توفر التمويل لاههداف إنسانية عالمية مشتركة مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك قضايا البيئة ومكافحة الآيدز والمخدرات ، وقضايا الإغاثة، هو جزء مؤسسي من بنية الثقافة الأوروبية الحديثة، ونتاج للرؤية الإنسانوية للكون، التي بمقتضاها أصبح الآخر مصدر اهتمام، وقد تتبع المقال المذكور نشأة المجتمع المدني عالميا ،وتطوره في مجال التشبيك من اجل ترسيخ قيم التعاون والمساندة والتضامن على مستوى العالم. وسخر الدكتور حيدر ابراهيم علي من اتهام منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلا أجنبيا بالعمالة، وقال أن أغلب هذه المؤسسات المانحة التي تبلغ عشرات الالآف هي لأسر وأفراد محسنين يوقفون أموالهم "صدقة جارية" للعمل الثقافي والفكري والخيري وأضاف" لا استغرب كثيرا حين يطلق الكثيرون علي مثل هذه العلاقة الإنسانية في العمل الطوعي، ووسائل المساندة والتضامن؛ صفات العمالة والصلات المشبوهة. وذلك، لسبب بسيط وهو أن المجتمعات العربية-الإسلامية لم تعرف مثل هذا العمل الإنساني المؤسسي والممنهج، وحتي فكرة الأوقاف بين المسلمين أنفسهم ناهيك عن غير المسلمين، لم يتم تحديثها وتطويرها حتي كادت أن تنسي وتندثر.". وشدد حيدر في ذات المقالة على ان العلاقة بالمؤسسات المانحة محكومة بقيم الشفافية، وقال" ان التمويل ليس عملية مخابراتية سرية بل أصبح علما يدرس في الجامعات وتعقد له كورسات ومؤتمرات وورش للتدريب مخصصة لموضوعات مثل: How to write a proposal? Applying for funding or a grant وبقصد تسهيل عملية الحصول علي المنح والتمويل، والتعريف بالمانحين؛ تصدر العديد من المنظمات دليلا إرشاديا يحدد المجالات المشتركة في الاهتمام بين المانحين والمتلقين، وكيفية التقديم، والمواعيد، والمبالغ المرصودة. وهي لا تقل في احجامها وعدد صفحاتها عن دليل الهواتف" وذكر المقال اكثر من عشرة أمثلة لذلك منها علي سبيل المثال: - Directory of International Funding ألغام في قانون العمل الطوعي: وقانون تنظيم العمل الطوعي المجاز عام 2006 من أكثر القوانين المثيرة للجدل والتي أجيزت بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل ، وقد اعتبره خبراء حقوقيون على رأسهم الأستاذ امين مكي مدني والبروفسور حاج حمد قانونا يهدد بتصفية نشاطات كل منظمات المجتمع المدني، فهو يمنح مسجل الجمعيات الطوعية الحق في شطب أي منظمة أو إلغاء تصريح عملها. وبعد اجازته تقدمت 428 منظمة طوعية وطنية إلى المحكمة الدستورية السودانية من أجل الطعن فيه ملتمسة من المحكمة التقرير بعدم دستورية بعض المواد التي يحتويها القانون الجديد. وقالت إن مواد القانون جاءت مهدرة لحق حرية التنظيم ومخالفة للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وللعديد من نصوص الدستور الانتقالي للبلاد. واتهمت المنظمات الحكومة بمحاولة السيطرة على العمل الطوعي عبر هذا القانون. وذكرت المنظمات أن تحديد أهداف العمل الطوعي الواردة في القانون تمثل إهدارا للحق في حرية التنظيم التي كفلها الدستور. التهديد بالمادة 7 من قانون العمل الطوعي: يشتكي كثير من الناشطين والعاملين في العمل الطوعي والانساني من المادة 7 من قانون تنظيم العمل الطوعي(استقطاب وتلقي التمويل والمنح) التي تنص على الآتي: 7 (1) يجب أن تكون المنح واستقطاب التمويل لبرامج المنظمات عبر وثيقة مشروع تجاز من قبل المفوضية وفق ما تفصله اللوائح . (2) لا يجوز لأى منظمة مجتمع مدنى مسجلة وفقاً لأحكام هذا القانون تلقى أموال أو منح من الخارج أو من شخص أجنبى بالداخل أو من أى جهة أخرى إلا بموافقة الوزير على ذلك . وقد كانت هذه المادة ضمن المواد المطعون فيها دستوريا حيث ذكرت المنظمات التي قدمت الطعن إن الدستور سمح لكل الجهات بالحصول على منح ومساعدات خارجية "فكيف يأتي القانون ويمنع منظمات المجتمع المدني من الحصول على هذه المنح والمساعدات"، مشيرة إلى أن المنح والمساعدات الخارجية هي أمور أساسية لتمويل حكومة الجنوب وحكومة الوحدة الوطنية بجانب حكومات الولايات، مما يعني أنها وسيلة مشروعة بل ودستورية للتمويل "الأمر الذي يعني أن رهن الحصول على هذه المنح بقرار الوزير أمر غير دستوري لأنه انتهاك لحق المنظمات في حرية تنظيمها" لم تقبل المحكمة الدستورية الطعن ، وظل القانون بكل مواده ساريا، وحسب دكتور الباقر العفيف مدير مركز الخاتم عدلان، لم تلتزم المنظمات بالمادة 7 من القانون لأن اتفاقا شفاهيا تم بين قيادات المجتمع المدني ووزير الشؤون الانسانية الأسبق احمد هارون على عدم تفعيل هذه المادة، ولكن وحسب إفادة العفيف ل"التغيير الإلكترونية" فإن الحكومة قررت تفعيل هذه المادة في مواجهة منظمات المجتمع المدني حيث قال العفيف ان منسوبي المفوضية في زياراتهم المفاجئة لمركز الخاتم عدلان في الايام الاخيرة قبل إغلاقه كانوا يطالبون إدارة المركز بتقديم كل الوثائق والمستندات والميزانيات الخاصة بمشروعات المركز ويسألون عن ما اذا كان المركز قد تحصل على إذن من وزير الشؤون الإنسانية قبل تلقيه للدعم ام لا، في إشارة واضحة الى ان الحكومة قررت ان تفعل القانون المعيب الذي كان في حالة سبات شتوي طيلة السنوات الماضية، قررت تفعيله الآن لتقديرات سياسية حسب إفادة العفيف. الحكومة لم تفعل شيئا سوى تطبيق القانون الذي عطلته بمزاجها! تقول السلطات السودانية أنها أغلقت هذه المراكز بعد أن نشر المركز القومي لنشر الديمقراطية الأمريكي تقريرا فيه انه منح 13 منظمة سودانية ذات توجهات ليبرالية مثل مركز الخاتم عدلان ومركز الدراسات السودانية وغيرها مبلغ 705 الف دولار لدعم أنشطتها. وفتح نشر التقرير وقتها ومازال حتي الآن جدلاً قديماً ومتجدداً حول مصادر تمويل المنظمات الطوعية الوطنية سواء كانت ذات توجهات ليبرالية, أو ذات توجهات إسلامية, وهي كثيرة ومنتشرة في الخرطوم وتتلقى أموالاً ودعماً من الحكومة نفسها ومن جهات إسلامية خاصة من منطقة الخليج العربي. كما ان الجهات المانحة الأجنبية تمول منظمات على رأسها قيادات في الحزب الحاكم نفسه وأخذ هذا الجدل منحىً جديداً في أعقاب الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، التي كانت إحدى شعاراتها المرفوعة إسقاط الحكومة السودانية؛ الأمر الذي دعا الأخيرة إلى اتهام منظمات محلية وتمولها (جهات غربية) وتسعى إلى إسقاطها. غير أن علي آدم حسن مدير عام المنظمات بمفوضية العون الإنساني المسؤولة عن عمل هذه المنظمات يقول (إن القانون أصلاً يمنع تمويل المنظمات الوطنية من جهات أجنبية الا أننا تسهيلاً لعمل المنظمات الوطنية لا نتمسك بهذا الأمر تجاوزاً, ونترك المنظمات تأتي بالتمويل من الخارج لتمويل مشروعات من جهات خارجية). وتابع حسن يشرح (وهذه المشروعات لاتتم إلا عبر مراجعة المفوضية وموافقتها عبر اتفاقية فنية بين الطرفين في القطاع المعني سواء كان في التعليم أو الصحة أو غيرها من القطاعات). وكشف مدير المنظمات بمفوضية العون الانساني أن عدد المنظمات الوطنية المسجلة بلغ عددها نحو (4500) منظمة يعمل أغلبها في مناطق النزاعات. ويقول الخبير في شئون المنظمات الدولية الدكتور حسين أبو اسماعيل أن الصراع بين منظمات المجتمع المدني والحكومات هو صراع قديم ولكنه اشتد في عهد حكومة عمر البشير التي تريد السيطرة علي هذه المنظمات خاصة تلك المستقلة منها. ويري أن الحكومة قد نجحت ألي حد كبير في الحد من تأثير هذه المنظمات والتغول عليها" فعليا عدد المنظمات الطوعية ومراكز الاستنارة الفاعلة قليلة جداً إذا ما قارنها بمصر مثلا واعتقد أن الشعب السوداني هو المتضرر الأول والأخير من غياب مثل هذه المراكز التي تلعب دورا كبيرا في توعية الشعوب بحقوقها المنهوبة." على حد تعبيره. ما العمل؟ استأنف مركز الخاتم عدلان قرار الإغلاق لدي الجهات العدلية بواسطة محاميي المركز. وبعد ان رفضت كل الطعون التي تقدم بها المركز في قرار الإغلاق ، قبلت محكمة الاستئناف امس الاول الطعن وقررت اعادة القضية الى محكمة الموضوع التي ستعقد جلسة استماع يوم غد الثلاثاء. وفي هذا الصدد يقول الباقر العفيف مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية أنه في حال أمرت المحكمة بقبول الاستئناف وعودة فتح المركز فهذا أمر جيد وهو ما نريده أما إذا تم رفض الاستئناف فإننا سنقاوم القرار بكل السبل المشروعة. وأضاف قائلا : "سنكمل مراحل التقاضي القانوني كافة داخلياً بالوصول إلى المحكمة الدستورية، وإذا شعرنا بعدم الانصاف فإننا سنلجأ إلى المحكمة الأفريقية، والحكومة السودانية موافقة على هذه المحكمة، ويمكن لهذه المحكمة أن تقول للحكومة السودانية إن قوانينك لا تحمي الحريات، ويمكنها أيضاً أن تتخذ العديد من الإجراءات ضد الحكومة السودانية. ولكن مهما كان نوع الحكم القضائي في قرار إغلاق مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية يبقى التحدي أمام منظمات المجتمع المدني هو المواد الملغومة في قانون تنظيم العمل الطوعي لعام 2006م التي يمكن ان تستغلها الحكومة حسب مقتضيات الظرف السياسي، وبالتالي فان المجتمع المدني سيظل مواجها بتحديات عرقلة انشطته وتعويقه في القيام بدوره وصولا الى قرارات إغلاق منظماته في ظل وجود قوانين معيبة مثل قانون تنظيم العمل الطوعي.