أمس الأول حوى بريدي رسالة مطولة ومؤثرة من أحد الأطباء(م.أ) شكا فيها بثه وحزنه على حال الأطباء عامة، وفئة أطباء الامتياز والعموميين ونواب الاختصاصيين. وقد استهل الطبيب المذكور رسالته قائلاً (والله لولا إيماني العميق بصدق قلمكم ورجاحة فكركم، واحقاقكم للحق ما شكوت همي إلا لله، فالشكوى لغير الله مذلة، ودموع الرجل تغلي عليه، ولكن الظلم أسوأ والغبينة تطعن كالسكين في الصدر!). لخص هذا الطبيب مطالب الأطباء في أمرين اثنين أساسيين هما: تحسين بيئة العمل، وتحسين مرتباتهم ومخصصاتهم، خاصة بالنسبة لفئة الامتياز والعموميين والنواب. ويرى أن البيئة التي يعمل فيها الأطباء بيئة غير صالحة، فكثير من المراكز الصحية والمستشفيات لا تتوفر فيها أبسط مقومات بيئة العمل الطبي، ويشير الى أن بيئة العمل التي يطالبون بتحسينها هي في حقيقة الأمر تصب لصالح المرضى في المقام الأول، ثم بعد ذلك للأطباء الذين يباشرون تطبيب هؤلاء المرضى.. ويرى أن سوء هذه البيئة في المقابل يضر إضراراً كبيراً بالمرضى والأطباء على حد سواء، حيث أن فرص انتقال العدوى اليهم والى المرضى الآخرين في ظل بيئة سيئة ورديئة تصبح كبيرة، وليس هناك- كما يقول هذا الطبيب- ما يدرأ عنهم الإصابة بالعدوى ويشير الى أن بدل العدوى ضئيل جداً وليس مجزياً. وذكر أن 25% من الأطباء أصيبوا بأمراض واصابات أثناء أداء عملهم، ولم تساهم الجهات المختصة في علاجهم، وأشار في هذا الصدد الى حالة أحد هؤلاء (م.ع) الذي قال إنه أصيب بشلل رباعي أثناء أداء عمله منذ (9) أشهر، وما يزال طريح الفراش بسبب عجزه عن دفع تكاليف العلاج!. ويختتم الطبيب رسالته بالقول إنه يتعجب من أن يعيب الناس على الأطباء اللجوء الى الإضراب للتعبير عن مطالبهم التي يرون أنها مشروعة، ويقول إن الطبيب مثله مثل أي صاحب مهنة أخرى، لديه التزامات حياتية ومعاشية واجبة تجاه نفسه وأسرته وذويه، وأنه من المفترض أن يُعامل أسوة بنظرائه من أصحاب الوظائف والمهن الأخرى، الذين توفر لهم الدولة ظروفاً وبيئات عمل مواتية وتمنحهم مخصصات وامتيازات معقولة، ويشير الى أن الطبيب هو شخص يضحي بكثير من وقته خصماً على علاقاته الأسرية وتواصله الاجتماعي مع الناس بسبب انهماكه في العمل بالليل والنهار، فلا أقل من أن يُقدر له ذلك بتحسين دخله وبيئة عمله، تعويضاً له على ذلك، وطلب مني أن أقوم بجولة في المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية لاتأكد بنفسي من الحالة البيئية داخلها. كان هذا ملخصاً لرسالة الطبيب (م.أ)، وأكثر ما لفت نظري فيها أنها صيغت بلهجة هادئة خالية من الصراخ والصياح، ولا تفوح منها رائحة ساس يسوس، وإنما كانت كلماتها تحاول توصيف أوضاع فئة مهمة جداً بالنسبة للناس من وجهة نظر أحد أعضائها (الواطين الجمرة). أنا شخصياً-وأظن أن كل الناس معي في ذلك- أتفق مع كل ما جاء في رسالة هذا الطبيب، وعلى رأسها مطلب تحسين بيئة العمل، وهو في تقديري مطلب مشروع ومنطقي، بل هو أمر بدهي ويدخل ضمن البنية الأساسية للعمل الطبي، وهو جزء لا يتجزأ من العلاج، والأمر لا يحتاج الي زيارات تفقدية، فالكل يعرف الأوضاع المزرية التي (تنتظم) المرافق الصحية الحكومية حتي انطبعت هذه الصورة المزرية في أذهان الناس وعقلهم الباطن عن المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية، فأصبحت ملمحاً بارزاً في ملامح وقسمات هذه المرافق، فلا تذكر حتى تتقافز الى الذهن هذه الصورة الذهنية السيئة عنها، واستدعت حاسة الشم عندي في هذه اللحظة، وأنا أسطر هذا المقال تلك الروائح الكريهة التي تكتم أنفاسك وأنت تدخل الى تلك المرافق لزيارة مريض، أو لأي غرض آخر، فتسارع الى أن اختصار الزمن لأدنى قدر ممكن، حتى تخرج من ذلك المكان وتستعيد أنفاسك مرة أخرى، فإذا كان هذا حال (عابر سبيل) فكيف يكون حال المرضى الذين ليس لهم خيار سوى الرقود وانتظار المصير، وكيف يكون حال الأطباء والممرضين الذين يباشرون عملهم في تقديم العلاج ومتابعة الحالات على مدى اليوم. ما أختلف فيه مع ما جاء في رسالة هذا الطبيب وبشدة، هو أنه يرى أن الاضراب هو وسيلة ناجعة لانتزاع حقوقهم كأطباء، وأقول إن الإضراب وإن كان سلاحاً يناسب بعض المهن والحرف الأخرى، إلا أنه لا يناسب اطلاقاً مهنة الطب، وأنا في حل من أن أذكرك وكل الأطباء (بإنسانية) مهنة الطب، فأنتم أدرى بها مني ومن أي شخص آخر، فالإضراب في هذا الحقل ينافي هذه الصفة التي التصقت بهذه المهنة على مر التاريخ الإنساني، بل قد يصل الإضراب الى مستوى تصنيفه بالجريمة إذا ما ترتبت عليه آثار سالبة نتيجة توقف تقديم خدمة التشخيص والعلاج والمتابعة والإضراب، يحمّل المرضى وذويهم وزر غيرهم بلا ذنب ارتكبوه، فإذا كان التقصير من تلقاء الحكومة، فما المنطق في أن يتحمل المواطن التبعات القاتلة الناجمة عن هذا التقصير؟ ألا يؤثر سماع المرضى بإضراب الأطباء وهم طريحو أسرِّة المستشفى بلا حول منهم ولا قوة على حالتهم النفسية؟ وألاَّ يترتب على هذا تدهور في صحتهم البدنية؟ أليست هناك طرق أخرى مشروعة وتشبه الطب والأطباء وأكثر تحضراً من الإضراب يمكنهم بها أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة؟صدقوني يا معشر الأطباء المضربين لن تجدوا تعاطفاً ولا رضا من الجماهير على هذا الإضراب بل سيشعرون بالاشمئزاز منه، مهما حاولتم التبرير له، ومن الأفضل والأجدى لكم أن تبحثوا عن طريقة أخرى توفر لكم التعاطف والسند من الآخرين، ولا تصبغوا مطالبكم المشروعة التي نؤازركم فيها بصبغة السياسة والكسب الحزبي، واقحام أجندة لا علاقة لها بالمهنة ولا بحقوقكم وحقوق المرضى الذين يرجون منكم التطبيب والعلاج.