اليوم يحق لنا في «الخرطوم» بكل ما تحمل من رمزية سياسية ودلالة سيادية بالنسبة لجمهورية السودان، كما يحق لإشقائنا في «جوبا» بكل ما تحمله من رمزية ودلالة جديدة لجمهورية جنوب السودان الوليدة التي يتم الإعلان عنها رسمياً عند الثامنة من صباح اليوم السبت التاسع من يوليو 2011م.. يحق لنا أن نردد ما نظمه الشاعر الدكتور عبد الواحد عبد الله، عندما أعلن اتحاد طلاب جامعة الخرطوم عام 1959م عن فتح الباب أمام الطلاب للمساهمة بأعمال أدبية وشعرية وفنية في احتفالات الاتحاد بأعياد الاستقلال في ذكراها الرابعة عند الأول من يناير 1960م.. وكتب الطالب - وقتها - عبد الواحد عبد الله تلك الأنشودة الوطنية الخالدة وأداها كورال الجامعة لتجد القبول الكبير لدى كل من استمع لها ليتدخل بعد ذلك الفنان الموسيقار محمد وردي ويقوم بتلحين النص الشعري ليُردد معه بعد ذلك كل السودان:- اليوم نرفع راية استقلالنا ويُسطّر التاريخ مولد شعبنا يا أخوتي غنوا لنا غنوا لنا يا نيلنا.. يا أرضنا الخضراء يا حقل السنا يا مهد أجدادي ويا كنزي العزيز المقتنى يا إخوتي غنوا لنا.. غنوا لنا إلى آخر (نشيد الاستقلال) حيث يقول الشاعر والمغني:- إني أنا السودان أرض السؤدد هذي يدي ملأى بألوان الورود قطفتها من معبدي من قلب أفريقيا التي داست حصون المعتدي خطت بعزم شعوبها آفاق فجر أوحد فأنا بها.. وأنا لها وسأكون أول مقتدي يا إخوتي غنوا لنا.. غنو لنا يحق لنا أن نردد هذه الكلمات في الشمال أو معانيها في الجنوب لأن إعلان ميلاد واستقلال جمهورية جنوب السودان يعني انتهاء حقبة سوداء حملت تاريخاً عريضاً من الحزازات وغبناً ظل يباعد بين النخب الحاكمة وبين الشعوب.. ويعني انتهاء حقبة طويلة من المرارات التي لم يمحها اتفاق سلام نيفاشا في العام 2005م ولم يهديء نارها نداء «أرضاً سلاح» الذي انطلق عامذاك ليؤذن بميلاد حقبة جديدة وشراكة في الهم الوطني بين طرفي اتفاقية السلام الشامل، لكن ظل اختلاف الرؤى والمناهج والتفكير كما ظل - قبل ذلك - اختلاف المكون الثقافي بين شعبي الشمال والجنوب هو (الفاصل) الموضوعي بين الشعبين رغم (الرابط) العاطفي لديهما. اليوم ينفك الشمال تماماً من أسر المسؤولية الصعبة تجاه الجنوب.. وينفك من بين أضراس غول الاتفاق الذي لا يكاد يتوقف على شعب رافض وقيادة متمنّعة وأرض لا يصلح فيها نمو بذور وحدة عاطفية لا يتم التأسيس لها على أساس موضوعي. ظل الجنوب بسبب التمرد الذي انطلق أول ما انطلق في العام 1955م وحتى العام 2005م، ظل بؤرة للتخلف ومقبرة للكثيرين من أبنائه في الشمال والجنوب، وارتسم في وجدان كثير من الشماليين كأنما هو وحش خرافي يلتهم نصف ميزانية الدولة أو يزيد في حالات الحرب والهدنة والسلام، فرأى البعض أن يتحمل الجنوبيون مسؤولية إدارة وحكم إقليمهم رغم محاذير انعدام الخبرة أو الصراعات القبلية المحتملة بحكم تركيبة الجنوب السكانية. وجاءت اتفاقية نيفاشا برداً وسلاماً على الطرفين، وسعد بها الجنوبيون أكثر من غيرهم، وشعروا أنهم جنوا ثمرة النضال الطويل وأصبح مؤسس التمرد الثاني على الدولة العقيد الدكتور جون قرنق دي مبيور بطلاً حقيقياً في عيون وقلوب أبناء الجنوب، فقد سعى بالحرب إلى تحقيق حلمهم في الاستقلال، ولما فشل في ذلك المسعى اتّجه للتفاوض بعد أن فتحت حكومة السودان الباب أمام الآراء والأفكار والمقترحات التي تعمل على إيقاف الحرب منذ أن تسلم الإنقاذيون السلطة في الثلاثين من يونيو عام 1989م وبدأوا في فتح قنوات الاتصال بحركة التمرد سراً وتمت لقاءات ولقاءات إلى أن توج ذلك الجهد باتفاقية السلام الشامل في عام 2005م. أصبح العقيد جون قرنق بطلاً حقيقياً بالنسبة للجنوب والجنوبيين. وإذا كان مفهوم البطولة هو التضحية من أجل الآخرين فقد فعل قرنق ذلك بل ضحى بالكثير وفقد حتى نفسه من أجل قضيته التي حارب من أجلها منذ العام 1983م. لم يكن الدين هو السبب المباشر للفراق بين الشمال والجنوب مثلما يحاول أن يرّوج لذلك البعض، لكن اختلاف المكون الثقافي بين الشماليين والجنوبيين كان هو أعظم أسباب الفراق.. هناك أسباب أخرى مثل اختلاف اللغة والعادات والسلوك والعرق والعقيدة كلها اجتمعت لتقف حاجزاً بين وحدة لم يدعمها الذين نادوا بها سوى بالعواطف والأقوال ولم يتجهوا لدعمها بالعقل والمنطق والفعل. الآن حدث الفراق وجاء الانفصال المنطقي، ولكن لم يتم إغلاق باب الوحدة نهائياً، لذلك ندعو القيادات في كل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في الشمال والجنوب أن تنظر بعين جديدة للمتغيرات الجغرافية التي ستتبعها متغيرات أكيدة في تاريخ واقتصاد ومجتمع الشمال والجنوب، وأن يعمل الشماليون - بعيداً عن العواطف - على التأسيس لعلاقة جديدة مع دولة جديدة لها أرضها وشعبها ونظامها السياسي، بعيداً عن (ذكريات) الماضي.. كما ندعو القيادات الجنوبية لتسير في ذات الدرب وأن تعمل على نسيان المرارات وأن تمحو من ذاكرتها أنها كانت تتبع لجزء آخر من الوطن الواحد، عليها أن تتحمل مسؤولياتها تجاه شعبها ووطنها وأن تكرس جهدها لتوفير الخدمات الضرورية لذلك الشعب الذي عانى كثيراً من ويلات الحرب ومن (ويلات) السلام أيضاً. وعلى القيادات في كل من جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان الوليدة أن تتجه للتأسيس لعلاقة جديدة بين الدولتين أساسها المصالح المشتركة بعيداً عن البكاء على اللبن المسكوب أو اجترار العواطف التي لا تغني ولا تسمن من جوع. مبروك لجمهورية السودان استقلالها من أسر الجنوب الذي أضر بها أكثر مما نفع.. ومبروك لجمهورية جنوب السودان استقلالها الذي ظلت تحلم به على مدى أكثر من نصف قرن مع أمنياتنا لها بالنجاح والتوفيق وأن تكون دولة راشدة تعلو فيها القيم على المصالح.. والله ولي التوفيق.