محمد عثمان محمد سعيد وأنا في رحلة لشمال السودان فوجئت بنبأ وفاة الأخ الكريم الودود اللواء/ محمد عثمان محمد سعيد والي الخرطوم الأسبق وسنار (فإنا الله وإنا إليه راجعون) ولقد حرك فيّ رحيله شحوناً وشجى. ترجع علاقتي بالرجل لأكثر من (40) عاماً... من أيام الصبا الباكر في حر السجانة.. وهو يدرس في جامعة القاهرة يومئذ. ثم عرفته عن قرب أيام كان معتمداً للعاصمة القومية وحاكماً لها مع فجر ثورة الآنقاذ.. فقد كان أول سلطان للعاصمة وهو من مفجري ثورة الآنقاذ ومفكريها.. وكان الزمان أخضر ندياً والعنوان رسالية واليها ممدود حيله.. وشعارات المرحلة (الرسالية والاحتساب)، ثم اصطحبنا في مسيرة سندس الزراعي (مشروع المصابرة والمباصرة).. فقد كان صاحب الفكرة من خلال ترأسه للجنة الزراعية العليا، ولا أزال أذكر زيارته لي في المنزل وأنا مريض بالملاريا بصحبة أخي الكريم د. شرف الدين بانقا وزير الاسكان، وبلغاني اختياري لمهمة قيام مشروع زراعي جنوبالخرطوم (تخضير جنوب ولاية الخرطوم). مجرد فكرة وخيال خصب، ولكن عزم الرجل وتصميمه ومتابعته جعلاني آخذ الأمر مأخذ الجد.. وكنا جميعاً لا نملك شيئاً سوى العزم والرجاء في الله، وكان ذلك سمت الإنقاذ حين بدأت مسيرتها المباركة. وكان رحمه الله عندما تتعثر الأمور يقول لي (يا أخي لقد ذهب إخواننا إلى الجنوب وجاهدوا واستشهدوا فليكن نصيبنا من الشهادة أن نقيم مشروعاً زراعياً) فاتضاءل أمام هذه الكلمات المضيئة المشرقة. عشنا أياماً صعبة ومثبطات كثيرة خبرت من خلالها صلابة الرجل، وحسن توكله في كافة سلوكه في إدارة هذه الولاية القطر، وهو يحاول أن يضع أساساً للحكم الرشيد مع أخوته في قيادة الإنقاذ. ووسط كل هذه الهجوم والملابسات والتجاذيب كنت ألقاه كبيراً مترفعاً عن الصغائر وصارماً لا ينكسر. يقول ابن المقفع يصف صديقاً له وينعته (لقد كان أكثر ما جعله عظيماً في عيني صغر الدنيا في عينيه). وجماع الدنيا هو السلطان والمال.. وكلاهما كانا في يد الرجل يوماً من الأيام، ولكنه كان دائماً زاهداً فيهما، وحين تقترب منه تشعر بأن مساحة (الأنا) فيه ضئيلة للغاية، وهذا سر العظمة في أي عظيم لأن تضخم (الأنا) هو رأس البلوى في هذه الحياة على الصعيد السياسي والاقتصادي. لقد كان الراحل الحبيب نموذجاً للحكام الربانيين: يتحرى الحلال في مأكله وملبسه ومركبه ويعيش الكفاف، ولقد خرج من الولاية وعليه ديون وأنا شهيد على ذلك. وكان يحرص على صيام الإثنين والخميس، وركعات الضحى، وقراءة ورده من القرآن، والذي يستوقفني أن السلطة غالباً ما تترك آثارها على المتنفذين فيصيبهم الانتعاش حتى ترى منهم نماذج مزعجات مضحكات. والراحل تغلب في سلطات كثيرة: الخرطوم، سنار، التكامل الليبي فما ازداد إلا بساطة.. وحتى في أيامه في التكامل في ليبيا كان يتخذ غرفة ملحقة بمكتب التكامل يسكن فيها ويمارس عمله. لقد صحبته في أسفاره كثيرة داخل السودان وخارجه، فازددت يقيناً أنه يتحلى بهذه الصفات وأكثر. وانتهى به المطاف.. مديراً لمنظمة الشهيد.. فبذل فيها الجهد.. وكان مشروع شهيد يمشي بين الناس. ومع أواخر شهر الله شعبان... أسلم روحه لله.. فبكاه الناس واحتشدوا لتشييعه وعلى رأسهم رفيق دربه الوفي المشير عمر حسن أحمد البشير. أخي الراحل المقيم: الموت هو رحلة عودة إياب إلى الله.. ولقد كنت دائم الشوق إلى لقائه.. وأذكر كثيراً ما نذكر قولة الإمام علي كرم الله وجهه يصف أرباب الشوق (والله لولا الأجل الذي كتبه الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسامهم طرفة عين شوقاً إلى ربهم). فاهنأ برحلة العودة والإياب وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الخيام من الخيام (إنا لله وإنا إليه راجعون). الأمين العام للمجلس القومي للذكر والذاكرين