لكل مدينة طابعها الخاص ولغتها المتفردة وثقافتها وتنوعها الفريد، لا أعدو الحقيقة إن قلت بأن ود مدني مدينة ذات سحر خاص ولم تعرف خلال تاريخها واأثناء ترعرعنا فيها من شقاوة في الطفولة وصبا ناضج ورجولة لا يدخلها الشك من أمامها أو خلفها، أن أحسسنا في يوم ما بقبلية هذا شايقي وذلك جعلي وهؤلاء حلفاويون أو دناقلة، انصهار من نوع عجيب غريب، وإقبال على القراءة والاطلاع من صغارها وكبارها وإن وجدت أميين فإنهم ضرب الأمثال في التضحية والدفاع عن الفقراء وسنتعرض لهم لاحقاً. لاغرو إذاً أن ينطلق مؤتمر الخريجين من هذه المدينة الفريدة، هذا المؤتمر أحدث تداعيات في تاريخ السودان الحديث ولكن للأسف لم يجد من يرصده أو الاحتفاء أو الاحتفال به إن كان ذلك على مستوى الحكومة أو منظمات المجتمع المدني أو المتعلمين والمثقفين أو حتى السياسيين، وإن كان مؤتمر الخريجين يعتبر تجمعاً جماهيرياً ونضالياً من الدرجة الأولى، فإن حدث هذا في أي قرية في هذا الكون لوجد الاحتفاء واعتبر يوماً وطنياً في تاريخ الأمة، ولكن في السودان كل شيء قابل للإجهاض والنسيان والرمي به في مزبلة التاريخ، ولكن سوف يأتي اليوم الذي يحتفل به الناس كعمل رائد في تاريخ الأمة السودانية وأظنه أي هذا اليوم، بقريب، أليس لهذا الليل بصبح أمثل. وإن كنا قد قلنا عرضاً في صدر هذا العمود بأن رجالاً كانوا أميين ولكن يحملون حساً وطنياً غلاباً فاق حس المتعلمين والمثقفين، فتعالوا لنسمع هذه الوطنية المنسية في تاريخ هذه المدينة العملاقة: في ستينيات القرن الماضي كان يسكن أو دعنا نقول، يقيم بصفة دائمة الإخوة اليمنيون وصاروا جزءاً من ذلك المجتمع، في الأحزان هم السابقون، وفي أوقات الفرح هم يتقدمون الصفوف مشاركين بمالهم وتراثهم وثقافتهم، وكان يرأس هذه الجالية اليمنية العم يحيى حسين وهو من الذين فروا من حكم الإمام أحمد في اليمن ولكن الاستخبارات اليمنية تتبعته حتى عرفت أنه بالسودان وبالتحديد في مدينة ود مدني، وأرسلوا في طلبه من السودان وإرساله إلى اليمن، وقتها لا يعرف السودان الانتربول أو تبادل المجرمين، وفي ليل بهيم جاء زوار الفجر واقتحموا منزل يحيى اليماني وهو بالقرب من محطة السكة الحديد، وحشروه في عربة وانطلقت به تجاه الخرطوم، وفي الساعات الأولى هرولت زوجته الفضلى إلى شيخ أحمد أبوزيد وأخبرته بالحكاية واتصل بأحمد شيخ العرب وموسى الفادني والأمير نقد الله وأحمد عبد اللطيف، واجتمع القوم وقرروا السفر إلى الخرطوم ولم يعرفوا وقتها بأن الرجل يمثل رئيس المعارضة اليمنية بالسودان، في تمام الساعة 10 صباحاً من ذلك الصباح اتجه وفد التجار إلى وزارة الداخلية وقابلوا ابنهم مقبول الأمين الحاج وفوجئوا بأن وزير الداخلية على علم بالقضية وأخبرهم بخطورة هذا الرجل وأن هذا العمل سوف يؤدي إلى تدهور العلاقة السودانية اليمنية، وكان ردهم واحداً ومتحداً وأخبروه بأن يخطر المجلس الأعلى للقوات المسلحة وعلى رأسهم الفريق إبراهيم عبود أنه إذا سلم يحيى حسين إلى السلطات اليمنية، فليعتبر هذا بمثابة قطع العلاقة بين أهل مدني وبين قيادة الثورة، وأهل ودمدني عرفوا بالتاريخ النضالي وأن الجالية اليمنية بمدني أصبحت من النسيج الاجتماعي النضالي في هذه المدينة، فإن تم تسليمه إلى السلطات اليمنية، فهذا يعتبر خيانة في حق هذه المدينة التي انبعث وانفجر منها مؤتمر الخريجين، ورجع الوفد إلى مدني وأصبح وزير الداخلية المقبول الأمين الحاج في حيرة من أمره، وعقد اجتماعاً مع أبناء مدني المشاركين في حكم عبود أحمد خير أبو المؤتمر، والاقتصادي العملاق ووزير المالية وقتها مأمون بحيري، وذهب الثلاثة إلى الفريق عبود وتحدثوا معه حول قصة زعيم المعارضة اليمنية بالسودان، وكان قرار الفريق عبود بدون الرجوع إلى المجلس العسكري العالي بإطلاق سراح الزعيم يحيى وتجهيز سيارة خاصة أقلته إلى مدينة ود مدني في نفس اليوم، وفي المساء كان الاحتفال وكانت الزغاريد تملأ مدينة مدني نساء ورجالاً، أطفالاً وشيبة، وكانت منطقة المحطة الوسطى عبارة عن مهرجان وكرنفال خطابي وسياسي وغنائي وثقافي، وكانت ليلة من تلك الليالي التي لا ينساها ذلك الجيل العظيم. بقي أن نقول ألم تكن هذه المدينة مدينة البطولات والمعجزات والمبدعين، ومن صلب هذه المدينة ومن تاريخها البديع المتمثل في مؤتمر الخريجين وقصة زعيم المعارضة اليمنية، تفجرت ينابيع الفكر والثقافة والأدب والفن والرياضة، فلا غرو أن يخرج من صلبها هؤلاء المبدعون، وفي هذه المساحة نذكر أسماءهم، فإن فاتنا اسم فالعتبى لتلك الذاكرة التي أنهكتها الأيام والمعاناة اليومية التي نحاول أن نتخطاها بنضال وصبر وشجاعة وكرامة لم تغيرنا الأيام ولم تضعفنا السلطة التي أقبلت علينا فأدبرنا منها، فتباً للسلطة وما أدراك ما السلطة.. من السياسيين جعفر نميري، مأمون بحيري، محمد نجيب أول رئيس مصر، الهندي المفكر الكبير بابكر كرار، من الشعراء علي المساح، شقدي، فضل الله محمد، د. محمد عبد الحي، د. مروان حامد الرشيد، الهادي أحمد يوسف ومحمد عبد القيوم. ومن الفنانين سرور،الشبلي، الكاشف، محمد الأمين، علي إبراهيم، محمد مسكين، أبوعركي البخيت، رمضان حسن، رمضان زايد، عبد العزيز المبارك، عوض الجاك والخير عثمان. ومن الرياضيين بادي، سيد مصطفى، إبراهيم ومصطفى ومحمد كرار(أولاد كرار)، إبراهيم محمد علي، إبراهومة صاحب الاسم وشقيقه حمد النيل، سانتو أخوان، كور أخوان، حمدون أخوان، سنطة وسمير صالح (سمارة ماشي). ومن القانونيين أحمد خير، خلف الله الرشيد، عبدالوهاب بوب، التيجاني الطاهر، الريح الأمين الحاج، حكيم الطيب، محمد أبوزيد، أمين مكي، عبد العزيز شدو. ومن الرسامين التشكيلين أحمد سالم، راشد دياب.. ومن المعلمين صالح بحيري، الريح الليثي، محمد علي الكريبة، محيي الدين دياب. ومن الصحفيين فضل الله محمد. صديق محيسي، فاروق حامد، حامد محمد حامد، هاشم المهدي، بكري نور الدائم أبو فائز. ومن رجال البر والإحسان شيخ أبوزيد أحمد شيخ العرب، رمضان الفرنساوي، بابكر أبوسنون، أحمد الحضري. ومن أهل الذكر محمد ود شاطوط، شيخ جيلي أحمد صلاح، عبد السيد. ومن فتوات المدينة ولكنهم كانوا مثل (روبن هود) ينصرون الضعفاء عوض حلاوة وميرغني عابدون. هذه هي مدينة الحب والجمال والفضيلة، لا جهوية لا قبلية، مدينة وقفت عن الولادة ولكن لم ينقطع عنها الحيض، وقصة تجار مدني الأوفياء الشجعان الصناديد في الوقوف في وجه طغمة عبود بعدم تسليم زعيم المعارضة اليمنية العم يحيى حسين، تعكس لوحة نادرة التكرار في سماء المدينة، ويا ليت قصة كفاح رجال الخريجين وقصة زعيم المعارضة تدرس في مدارس الأساس بولاية الجزيرة، فالتاريخ إذا سرد إلى التلاميذ بدون مدلول يصبح كحكايات الحبوبات، فلتكن ضربة البداية الاحتفاء بحدثي مؤتمر الخريجين ورجال مدني الأوفياء في تهديد سلطة عبود بإرجاع زعيم المعارضة اليمنية (يحيى حسين).