عاش الأسدُ في صحبة ثيران ثلاثة، وارتدت حياتهم في بواكيرها الودَّ وحسن المعاملة، وبعد مرور زمان من طيب العيش والمعشر داعب الشيطانُ رغبةَ الأسد وحرَّك شهوته لِطعام لحم الأبقار، وسوَّل له الحيلةَ فأقبل على الثورين الأسود والأحمر فقال لهما: أصبحنا الآن معرَّضين لغدرِ الصيادين وسهامهم وهم لا ينفكون يبحثون عنَّا، ولعلَّ من الخطورة بمكان وجود الثور الأبيض بيننا لأن لونه الناصع يدُلُّ الناظرين من بُعدٍ على أماكن مراتعنا، فدعوني أقوم بأكلِهِ، راغت الفكرة للثورين فوافقا، وهجم الأسد على الأبيض فأكله، وبعد فترة من الزمان أخرى انفردَ الأسدُ بالثور الأحمر وقال له: لوني ولونك يتقاربان وينسجمان، وقد شذَّ من بيننا الأسود فدعني آكله ليخلو ويحلو لنا جوُّ الودِّ والوئام، فوافق الأحمر وكانت بموافقته نهاية الأسود وليمةً للأسد، لم يُعَمِّر الأحمرُ مع الأسد طويلاً فجاءه هذه المرة بحديث مباشر وقد خلا له الجو وأمِن شرَّ المقاومة والقتال وقال له: إنِّي آكلك فما كان من الثور الأحمر إلّا أن قال: لقد أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأبيض. يحدثنا المثلُ الذي أوردناه عن حكمةٍ تغيب عنَّا في ثنايا الحياة ومنعطفاتها، وثنايا الزمن ودوراته، وعن حَقائقٍ هي أقرب ما تكون إلينا من حبل الوريد إلّا أن الاسترخاء الذي يبُثُّهُ الشيطان في مشاعر الإنسان مُشبَّعاً بالأَثرة وحبِّ نعيم الدنيا الزائل ينثرُ من الغِشاوات على الأنْفُسِ أبصارَها وبصائرَها عمىً وعمهاً يجعلان المسيرةَ مسيرةَ الذي تخبطهُ الشيطان من المسِّ لا يدري بقدوم الصَّدمةِ إلا بعد انعدام المَفَرِّ وغياب الوَزر. إن حبَّ المخلوق لنفسه وتقديم مكانتها على غيرها من الأنفس يجعله أحياناً قصير النظر تختلط عليه الأمور لا يدري صالحها من طالحها، فهذا المثل في واقع الحال يصوِّر لنا إقدام الإنسان أحياناً على الإتيان بسلوكٍ هو نتاج للعجلة التي تورث الندم، ولذا فإننا نلمس في تعاليم ديننا الحنيف الدعوات المتكررة لتحاشي كلِّ ما يجرُّ إلى القرارات غير الناضجة، لقد تسرَّع قابيل فمدَّ يده لشقيقه هابيل فقتله في أول درس للإنسانية يُبرز حصاد الندم على القفز فوق حواجز الصبر والتأني والدخول في ظلمات المجهول. لقد أورد القرآن الكريم الصبر ومشتقاته وعدم الاندفاع وراء نوازع الشيطان ومغرياتِه مع القفز إلى النتائج دون روية أو تأنٍ، لقد ورد الصبر في إطار هذه المعاني وما يتفرع منها في أكثر من مائة موضوع وموضع لتُرسي لنا معانيه ودلالاته سبل الهُدى وقواعد تماسك الأمة وترابطها وأخذَ الأمور بموازين الحكمة والروية، فالرماح تأبى إذا اجتمعن تكسُّراً وإذا افترقن تكسرتْ آحادا، وعلى أمة الإسلام تحاشي الانسياق وراء أحاديث قد تبدو في ظاهرها مكتسيةً بثوب حسن النيَّات وهي تستبطن الدسائس والمؤامرات، ولو أننا أردنا بغرض القدوةِ تعداد! مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسلفه الصالح لما أحصيناها، ولرأينا ما أسبغته نتائج الصبر والتَّحلُّقِ حول كلمة الحق بالحكمة من نجاح فاق كل تصوُّر وتعدَّى حدود كلِّ خيال.