تفضّل مركز دراسات المستقبل بدعوتنا يوم أمس للمشاركة في حلقة نقاش لكتاب (تشكيل مصر الثورة وما بعدها.. وإعادة ترسيم العلاقات السودانية المصرية) للباحث محمد أحمد عيسى دفع الله، وهو صحفي باحث وشاب، ولكنه يتميز بوعي متقدم في مجالات السياسة وعلاقات الجوار الرابط بين السودان ومصر. جاءنا خطاب الدعوة للمشاركة ممهوراً، بتوقيع الأستاذ ربيع حسن أحمد، المدير العام للمركز، وفيه ما يدفعنا إلى عدم الاعتذار لأهمية الموضوع أولاً، ثم لأن مبتدري النقاش كان من بينهم البروفيسور بركات موسى الحواتي، والبروفيسور محمود حسن أحمد، ونعلم جيداً كسبهما في هذا الجانب، وقد أضيف إليهما الدكتورة رحاب الشريف، التي استمعنا لها لأول مرة، فكانت واضحة الرؤية، محددة النقاط، ونرى أن إدارة المركز قد وفقت توفيقاً كبيراً في اختيارها لمبتدري النقاش، كما أنها وفقت في الحشد النوعي والحضور المتميز من المدعوين، الذين كانوا ما بين أكاديميين وخبراء علوم استراتيجية، ومتخصصين في الشأن الأمني، ودبلوماسيين، وأهل صحافة وإعلام، ومهتمين بالشأن السوداني المصري. كرّمني الباحث الأستاذ محمد أحمد عيسى دفع الله، بأن منحني فرصته الأخيرة للتعقيب، ورأيت ألا استحوذ عليها كلها حتى أمنحه فرصة التعليق على مداخلات المشاركين في النقاش، وتحدثت في دقائق معدودة ومحسوبة، في محاولة مني لقول ما لم أتمكن من قوله، عندما حاولت طلب الإذن للتداخل منذ أن أكمل مبتدرو النقاش مداخلاتهم.. لكنني لم أحظ بذلك الشرف، إلا بعد أن تكرم علينا الباحث- جزاه الله خيراً- بتلك الدقائق التي لم تمكننا من قول كل ما نود، ويلجأ- عادة- من في يده القلم إلى الورق لبيان وجهة نظره، وتوضيحها. فالكتاب الذي قرأته في ساعات قليلة، مكون من ست وستين صفحة، قائم على أربع ركائز أساسية، تبدأ ب(صناعة الثورة)، ف(مستقبل مصر)، و (العلاقة مع السودان قبيل وبعد الثورة).. ثم أخيراً (إعادة ترسيم العلاقات السودانية المصرية)، وكل ركيزة من تلك تتأسس من عدة عناوين مهمة، وسبق ذلك كله تمهيد ومدخل. ذكرتُ في مداخلتي- القصيرة- إن الكتاب الذي تمت مناقشته هو ورقة تقبل أن تكون مشروع بحثٍ جيد، أسس له الكاتب من خلال مقال محكم الصياغة، قوي الأسلوب، ذي نقاط منطقية وعناصر مرتبة، ثم تحدثت عن مركزية الدولة في «مصر» وضرورة الدخول لها من أبواب متفرقة، لكن باب الحكم والسلطة مهم وضروري ولازم لانجاح أي مشروع مستهدف، وضربت مثلاً بأن الله سبحانه وتعالى، عندما بعث نبياً إلى مصر، بعثه إلى فرعون، ثم دعمه بأخيه، ليكون له خير عون ومساعد في الدعوة، كما طلب سيدنا موسى عليه السلام من الله تعالى عندما سأله أن يعينه بأخيه هارون عليه السلام..و في هذا الأمر أكثر من دلالة، لأن إيمان الرأس يضمن ويؤمن بقية جسد الدولة. ثم أشرتُ في المداخلة إلى أن ما ذهب إليه أكثر المتحدثين من أن السلطة ستكون للأخوان المسلمين أو للتيارات الإسلامية، ليس صحيحاً على إطلاقه، إذ أرى- شخصياً- إن فرصة إنفراد الإسلاميين بالسلطة في مصر ضعيفة، وقلت إن المجتمع المصري يقوم على توازنات مهمة، من بينها الوجود القبطي التاريخي في أرض الكنانة، وقلت إن هناك (حكومة خفية) تنظم أمر العلاقات الاجتماعية، بحيث لا يحدث تجاوز على فئة من أخرى، أو تعدٍ من جماعة على أخرى، وضربتُ مثلاً بأن نشأة حركة الأخوان المسلمين، عندما بدأت بذرة، وسُقيت بالعرق والدموع والجهد، امتدت يد خفية فاغتالت الإمام الشهيد حسن البنا في الثاني عشر من فبراير عام 1949م وهو في الثالثة والاربعين من عمره، بعد واحد وعشرين عاماً من تأسيسه لحركة الأخوان المسلمين. وعندما استوى عود الحركة، وبزوغ نجم الأستاذ سيد قطب، الذي يعتبر المنظر الأعظم والأكثر تأثيراً في الحركات الإسلامية، تم القبض عليه في الثلاثين من يوليو عام 1965م، وقدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه فجر الاثنين التاسع والعشرين من أغسطس عام 1966م. الشكر الجزيل لمركز دراسات المستقبل، وللأستاذ ربيع حسن أحمد، وللأستاذ محمد أحمد عيسى دفع الله، ولكل الذين شاركوا في المناقشة، فقد فتحوا لنا طاقات من النور وأبواب للعصف الذهني.