سمعت من ينصف أتراباً له على مذاهب شتى، أي شيء مثير للإعجاب وجدير بأن نقف عنده مثل أن نصادف عالماً يعترف بفضل أخيه ويعلي من شأنه فى ظهر الغيب.. ما أحوجنا لإنصاف غيرنا لا سيما إذا كانوا رموزاً يمكن الاقتداء بهم فيما نسب إليهم دون منٍ أو أذى.. وما أكثر ما بات يؤذي في خطابنا العام. نفعنا الله بعلمه.. سمعت الدكتور يوسف الخليفة أبوبكر يدلي بشهادة مدهشة لشخصيات عامة ما تيسر توفيق أوضاعها أيدولوجيا إلا هكذا. هو وزير سابق وخبير لسانيات (مدير معهد اللغة العربية للناطقين بغيرها).. أختير يوماً لقيادة هذا الموقع الإقليمي ومقره الخرطوم.. سبقه إليه مثقفون بارعون في مجال اللغات مثل البروفيسور عون الشريف قاسم والأستاذ أحمد عبد الحليم، رحمهما الله. كان يتحدث في سهرة بالتلفزيون عن البروفيسور مدثر عبدالرحيم المدير الأسبق لجامعة أم درمان الإسلامية الموجود بماليزيا.. تاركنا لذكريات إسهاماته الدالة على صفاء الذهن والقلب.. فهكذا عرفته. استدعت السهرة شهادات لشخصيات عرفته عن قرب.. منهم الدكتور يوسف الخليفة فبذل شهادته لثلاثة قال إنه معجب بكتاباتهم (عمر الحاج موسى، مدثر عبدالرحيم ومنصور خالد). هذه الشهادة تستهويني ولقد كنت معنياً بها حين أشرفت على سهرات مماثلة بقيادة فريق من المبدعين.. فسجلنا لعدة رموز.. منهم البروفيسور عبدالله الطيب والبروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم ومولانا حسن البيلي عليهم رحمة الله، والقائمة طويلة ومكتبة التلفزيون زاخرة بهم وبأسماء عديدة في حياتنا توفق في الاحتفاء بها المذيع الكبير عمر الجزلي سنين عددا. التوثيق مهم لصالح الأجيال.. ومواكب للتميز المهني واللغوي وثراء المفردات فى وقت عزت فيه جماليات الخطاب العام وتعالت الأشواق لقيم الجدال (بالتي هي أحسن).. هذا الرصد غير المشكوك في بواعثه.. به تتعرف البلدان على فضل أبنائها على المهن واللغة والقيم. لقد اتسعت دائرة الإفلاس اللغوي والبؤس الخطابي مما يستدعي إعداد أجيال جديدة يتصل نهجهم بمدارس السابقين وبمنابع التحديث والتأصيل. هذه الأسماء الثلاثة تحديداً تعيد للذاكرة صدى أطروحات التنوع الثقافي ومساجلات (بين الهجري والميلادي) الذي توهج في خضم تعالي المد الثقافي التأصيلي يوماً ما. كانت الندوات مترعة، والكتب يتداولها الناس بشغف، و(بخت الرضا) والمدارس والجامعات تصطفي مفرداتها من كنوز المعرفة، لكل ذلك صداه ما زال نحسه فى صدور الرواد ومنتديات الثقافة برغم وبرغم. تابعت ندوة عن الطيب صالح بقاعة الصداقة فأطربني الصوت وبهرتني اللغة والمعاني، فتمنيتها قناة ثقافية. ثم إني صادفت قبل أيام وثيقة في الأدب الرفيع بقلم السفير الشاعر سيد أحمد الحردلو في مقام الوفاء لمن زاره لينهي عزلته: - .. وجاء في موعده، رجل وسيم الطلعة، بشوش المحيا، يتفحصك كما يفعل الصوفيون، ويدنيك منه بحلو الكلام.. حدثني مطوفاً بي من شأن إلى شأن، حتى قال في نبرة جعلية ودودة وآمرة (جئت لأفرج عنك من محبسك هذا، فلنذهب الآن لنرى كلية قاردن سيتي). هل يقبل الدعوة؟.. بين منزله ومقر الكلية دقائق معدودة بمقياس طراز عربة المستضيف.. يبدو أنه حسبها قبل أن يتخذ قراره ليقول لنا: - وتوكلت على الحي الذي لا يموت، ودرعت عمامتي وتبعته، وهكذا (دخلناها بسلام آمنين)، كنت أتوكأ على عصاي، وكان يرمقني من وقت لآخر بنظرة مستترة.. كان يسعى بي في الكلية وحولها، ويزيد ويستزيد.. تمنيت في تلك اللحظة لو أدركني جدودي سحرة ناوا القدماء.. فحولوا عصاي إلى ثعبان يسعى، حتى يطلق صاحبي هذا ساقيه للريح ويريحني ويرتاح.. لكني فجأة تذكرت والده (عليه رضوان الله). (والده) هذا تعرض لحادث مرور في وادمدني على مرأى ومسمع من نسوة في المدينة، وظل ينزف حتى وصل المستشفى، وكانت المفاجأة: -( فزلق الرجل طلاقاً) أن تجرى العملية بدون (بنج)!! لعل الحردلو قصد أن يحدث ضيفه بما يحب- (أبوه) و(واد مدني).. لنعرف نحن وللذكرى والتاريخ أن ضيفه هذا الذي أصبح (بقدرة قادر)، مضيفاً يتمتع والحمد لله بوالد هكذا(كاريزما).. وواصل: - ونهرنى .. يا جنا حاج الحردلو (قول كب).. و(قلت كب).. وطلب مني أن أصعد الدرج إلى مكتبه. الرواية طويلة بدأها بالعاملين، أناس تألقوا وتألقن، تكنولوجياً، ملتميدياً، إدارة، معماراً و(النانو).. أي لتكنولوجيا متناهية الصغر، آخر (موضة).. ولا أعرف كيف حفظ أسماءهم واستجلى مناقبهم، في باب العميد يقول: - بروفيسور محمد الأمين التوم أستاذ الرياضيات، عمل بجامعات الخرطوم وأمريكا والسعودية، من قادة ثورة أكتوبر، تزاملنا في (كوبر)، فيه تواضع العلماء وزهد الصوفيين، يسوس الكلية بهدوء وصبر وحكمة). ما أمتع كتابات الحردلو وحديثه أيضاً، وحين زرته بمكتبه بالكلية تحدث في كل شيء إلا (حالته الصحية).. قلت لنفسي (زول) بهذه القامة جدير بأن يسعى إليه من يعرف قدر الرجال ليطلق سراحه من محبسه ولو كان منزلاً أنيقاً على شارع عبيد ختم، فعل ذلك بأريحية باذخة مهندس عمر أبو القاسم، رئيس كلية قاردن سيتي له الشكر. مثل هذه السياحة نثراً وشعراً بين الناس والمكان ومنذ القدم، تأخذ بالألباب وتعمل على تجميل الدواخل وتثري الثقافة وتحسن العلاقات وترتقي بالذوق العام وترمز لتطور الشعوب وإشاعة القيم، ثم إنها لا تُنسى. ولذلك تنسب مظاهر الحضارة لأصحاب المشارب الحميمة والأقلام الفصيحة والوجدان المتسق والشهادات غير المجروحة. إن الناس في حاجة لهذه النماذج البشرية لتكشكيل وجدانهم على قيم الخير والفضيلة، وليصيغوا لهم مواثيقهم وتوصياتهم فيجعلون الواقع معبراً عن (الكل)، مع تنوع المشارب. والآن إلى المؤتمر الثقافي.