غصت الصحف خلال الأيام القليلة الماضية بأخبار متواترة عن خطة جديدة لولاية الخرطوم للحد من اختناقات المرور وأزمة المواصلات بالعاصمة، بتخصيص مواقف بعينها لمواصلات أم درمان وتحويل مواصلات بحري وشرق النيل إلى ميدان آخر، وتحويل المرور بجسر النيل الأبيض القديم والنيل الأزرق إلى اتجاه واحد في ساعات الذروة. وأكد وزير المياه والبنى التحتية بحكومة الولاية أن الإجراء الأخير -توحيد اتجاهات المرور في الجسرين- ساهم في اليوم الأول في تمرير أعداد مضاعفة من السيارات أكثر من المعدل المعتاد، ومع ذلك سيتم إخضاع التجربة للتقييم والمراجعة لتحقيق أهدافها. تشاء «الظروف» أنه في مساء نفس يوم إعلان الوزير عن بدء العمل بالخطة الجديدة على جسري النيل الأبيض والنيل الأزرق القديمين يقوم المئات من المواطنين بإغلاق «جسر الإنقاذ» -جسر النيل الأبيض الجديد الرابط بين الخرطوم والفتيحاب بأم درمان- احتجاجاً على أزمة المواصلات التي ضربت مواقف النقل في الخرطوم، بعد أن خلت مواقف مواصلات «الاستاد وكركر» تماماً من المواصلات عصر ذلك اليوم «أمس الأول الأحد»، فأغلق المواطنون الغاضبون النفق المؤدي للجسر، مما دعا الشرطة للتدخل مستخدمة في مواجهتهم الهراوات لتفريقهم بالقوة. هل يستطيع القراء المتابعون إحصاء عدد المرات التي أقدمت فيها ولاية الخرطوم منذ عهد «طيب الذكر» المرحوم جعفر نميري على إعادة النظر وتغيير وتبديل أو توحيد اتجاهات الشوارع في الخرطوم، وهل يستطيع هذا القارئ رصد المحاولات والمحاولات المضادة التي بذلتها ولاية الخرطوم في عهد الإنقاذ هذا، خصوصاً في العشر سنوات الأخيرة، لفك ضائقة وأزمات المواصلات، عبر توحيد اتجاهات المرور في هذا الشارع أو ذاك، أو نقل هذا الموقف أو ذاك من هذا الموقع إلى ذاك تفادياً للزحام أو الاختناق في قلب الخرطوم أو مداخلها ومواقفها.. قطعاً لن يستطيع أحد رصد أو إحصاء كل هذه الحركة الدائبة والقرارات والقرارات المضادة، لأن «لعبة تجريب الحلاقة في رؤوس اليتامى مستمرة» تجريب ليس بالضرورة ان يُمليه «سوء النية»، لكنه قطعاً بعض مظاهر «سوء الإدارة» وعجز التخطيط. الخرطوم عاصمة قديمة.. نعم.. ولكنها ليست العاصمة القديمة الوحيدة، فمعظم عواصم الدنيا قديمة كالخرطوم، لأن العواصم عادة ما تترافق نشأتها مع نشأة الدول أو حتى قبلها ولذلك يتم اختيار المدن القديمة كعواصم لدولها، وبالتالي فإن ضيق الشوارع وتزاحم الأحياء في مساحات محدودة هو بعض مخلفات ماضي تلك المدن التي أصبحت عواصم توافد إليها مواطنو الدولة من الأرياف والمدن الأخرى فازدحمت، بالسكان وبالعمران، وهذا ينعكس بالضرورة على الحركة والمواصلات في داخلها، خصوصاً مع تزايد أعداد مواعين النقل العامة والخاصة. في الدول المتقدمة التي يتمتع القائمون على إدارة مدنها وعواصمها بسعة الخيال وحسن التخطيط المستقبلي والرؤى الهندسية والجمالية المتفوقة يتحول هذا الميراث التاريخي الثقيل لنشأة العواصم والمدن الكبرى إلى مِنّه ونعمة، عوضاً عن أن يكون نقمة تؤرق قاطني تلك العواصم والمدن كما هو حالنا مع «الخرطوم العاصمة» التي أصبح سكانها «لا يعرفون كوعهم من بوعهم»، ويفاجأون مع كل شهرين وشهرين أو عام وعامين بقرار جديد يقفل هذا الشارع في ذاك الاتجاه أو مساره لاتجاه آخر أو يوجه هذا الجسر في اتجاه واحد في هذه الساعة أو تلك من ساعات الذروة.. وهكذا.. شارع القصر مثالاً. منذ كم من الوقت ظل الناس يسمعون ويقرأون عن ما يسمى «خريطة الخرطوم الهيكلية» دون أن يروا لها أثراً أو دوراً في تغيير هذا الواقع المتردي، فتزداد الخرطوم ازدحاماً وفوضى في حركة مواصلاتها وحركة الناس في شوارعها، وحركة الركشات في أحيائها، والحافلات الصغيرة تتضارب وتتقاتل في طرقاتها، والمواعين الكبيرة «باصات الوالي» تتعثر مشروعاتها وتتحول إلى واحدة من المشكلات وليس من الحلول.. إنه سوء الإدارة والتخطيط وجفاف الخيال ما يقعد بالخرطوم أن تكون مدينة جميلة وجاذبة وتستحق أن تحمل اسم «العاصمة».